المقالة الحادية والخمسون
لقد كثُر الآن تحدُّث الناس بغرائب أفعال العقل أو النفس كما يُقال أيضًا، وسائر أفعال الجهاز العصبي الخارجة عن المألوف من مثل التخيلات والشعور بما هو فوق طاقة الحواس الاعتيادية، وانطباق ذلك في بعض الأحيان على الواقع، ممَّا يختلط كثيرًا على العامة ويُربك الخاصة أيضًا. واشتدَّت المُناضلة بين الباحثين، فذهب بعضهم إلى أن هذه الغرائب من خوارق الأعمال التي لا تنطبق على النواميس الطبيعية، وعلَّلها بأنها من أفعال الأرواح المُحيطة بنا. ونقل بعض الجرائد العربية تصريحات المستر ستد بما وقع له ولبعض أشياعه، ونسبتهم ذلك إلى مُناجاة الأرواح. وقد كتبت مقالة في الجريدة إجابةً لاقتراح بعضهم لدفع هذا الزعم نافيًا الغرابة غير الطبيعية فيه، ومطبِّقًا الصحيح منها على نواميس العلم الطبيعي وعلم الأمراض العصبية.
ونقل المقتطف مُساجلة عالمَين طبيعيين يذهب كلٌّ منهما مذهبًا مُخالفًا للآخر. فرأيت أن أُسهِب الكلام هنا للإلمام بالموضوع من كل أطرافه؛ لكي يتيسَّر للناظر بالمُقابلة والاستقراء والاستناد إلى العلم الطبيعي أن يحكم بما هو أقرب إلى الحقيقة. وأنا لا أشك في أن كل ما يجري فينا من هذا القبيل إنما يجري تبعًا لقواعد طبيعية نظير سائر ما يقع في الطبيعة، ممَّا هو مقرَّر اليوم أنه بحثٌ طبيعي بحت، ولا أشك كذلك أن معلوماتنا الطبيعية اليوم كافيةٌ وحدها لتعليل ذلك تعليلًا يُزيل عنه كل غرابة، إلا ما كان من قبيل الغرائب الطبيعية فقط.
إن غرائب أفعال العقل والجهاز العصبي معروفة للإنسان منذ القديم، وأشهرها الأحلام التي تعرض له وهو نائم — وهي تعرض للحيوان أيضًا — وقد كانت سببًا من أكبر الأسباب لاعتقاد الإنسان أن فيه قوةً غريبة عن جسمه تنفكُّ عنه في حالة النوم، وتطُوف المعاهد مُنتقلةً من مكان إلى مكان، ومن إحساس إلى إحساس، ثم ترجع إليه في اليقظة، وكثيرًا ما تصدق في الأنباء التي تنقلها؛ ممَّا حمل الأكثرين على الاعتقاد بها، وظن بعضهم أنه يمكن من مُراقبة أحوالها أن يستخرجوا أحكامًا مُطلَقة، وألَّفوا الكتب في تفسيرها حشَوها تارة بالخطل وتارة بالدجل.
وقد كانت أوهام الإنسان في اليقظة كثيرة جدًّا في أول الأمر لقلة تعرُّفه ما حوله من قوى الطبيعة؛ إذ كل ما هو مألوفٌ معروف لنا اليوم كان يبدو غريبًا له، وقد بنى عليها كثيرًا من أقاصيصه الميثولوجية وحكاياته الخرافية، واشتغل بها زمانًا طويلًا قبل أن استهلك كثيرًا منها بالعلم شيئًا فشيئًا، وأقرَّها في مكانها الحقيقي.
وقد كانت الأمراض العصبية، ولا سيَّما العقلية والهستيرية، نظرًا لغرابة ظواهرها بالنسبة إلى سائر أمراض الجسم محلَّ استغرابه، بل موضوع تكهُّنه وتفزُّعه، حتى إن الألفاظ التي استُعملت للدلالة عليها في كل اللغات تدل دلالةً صريحة على الاعتقاد بأنها حالاتٌ مُستفاضة على الجسم، غريبة عن مادته وعن جوهر قواه، كأن يُقال إن بصاحبها مسًّا أو دخلًا؛ إشارة إلى الروح الغريبة الحالَّة فيه. وكم عذَّب النساء الهستيريات، وحلَّت بهنَّ النقم لاعتبارهن ساحرات، وأُحرقن أيضًا تخلصًا من الشيطان الحال فيهن قبل أن تداركهن العلم برأفته.
ولا يزال هذا الاعتقاد شائعًا عند كثيرين حتى اليوم، وإن تلطَّف بعضهم في تسميته، كأن يقول إن الحالَّ شيخ، ورأفوا في معاملة صاحبه، فأحلُّوا الرحمة محل النقمة، وعالجوه بالتعاويذ والرُّقى والقراءات وما شاكل. وكما أنهم نسبوا بعض الحالات العصبية الشديدة الوطأة إلى الأرواح الشريرة، وأفحشوا في معاملة أصحابها، نسبوا كذلك بعض الحالات العصبية التي كانت تبدو لهم ألطف من تلك على الجسم المُصاب بها إلى الأرواح الصالحة، ورفعوا أصحابها إلى مقام الأولياء والأنبياء، ثم أخذ هذا الاعتقاد يضعف حتى أثبت العلم اليوم أن مثل هذه الحالات ليست سوى أمراضٍ عصبية كسائر أمراض الجسم، ولها أحكامٌ طبيعية مثلها حتى في غرابتها.
وكأن جمهور المُتعلمين الراقين لم ينفِ الاعتقاد بالمصدر الغريب في مثل هذه الحالات إلا عما كان يبدو خشنًا فظًّا، وأما الجمُّ الغفير فلا يزال حتى اليوم يعتقد أن في اللطيف منها محلًّا للنظر ومتَّسعًا للقول، وكثيرون يميلون إلى نسبتها إلى الأرواح للاعتقاد المُتأصل فيهم، إن لم يكن رهبةً فرغبة، والذي هو بقيةٌ راقية من مجموع تلك الاعتقادات القديمة الخشنة.
وقد عُنيت بهذه المسائل طوائف كثيرة من أهل الأدب والعلم في أوروبا وأمريكا، وخصوصًا في إنكلترا، وألَّفوا لها الجمعيات الكثيرة ليُلبسوا البحث فيها حُلةً علمية، اشترك فيها المُقتنع والواهم والمُتردد، وانضم إليها الدجَّال أيضًا، وكلٌّ واجد في ذلك مصلحته.
فلِكي يمكن البحث في هذه المسائل على أسلوبٍ يكون منه فائدة للعلم لم يكن بد من تحليلها قبل تعليلها؛ لمعرفة الصحيح فيها من المُختلَق، والمُمكن من غير المُمكن، فلا تخدعنا أعمال المُشعوذين الذين يأتون أمامنا أعمالًا كثيرةً غريبةً صناعية كوضع الشيء في مكانه، ثم إخراجه من مكانٍ آخر، وكابتلاع السيوف والسكاكين ولم يُبلع منها شيء، والتكالم مع أشخاصٍ مُتباعدين والمُتكلم واحد، وغير ذلك من الأمور المُدهشة التي يُجيزونها على الناظرين، وليس فيها شيء من الغرابة سوى مهارة الصناعة؛ فإن أمرها اليوم معروف للخاصة والعامة، وإنما نقتصر هنا على المسائل المقرَّرة اليوم، والتي يعترف بها العلم.
إن جميع الغرائب التي تعرض للإنسان تطرأ على شعوره، فيُحس أو يعلم بما هو فوق طاقة مشاعره وإدراكه في حالته الاعتيادية، وتنحصر جميعها فيما نُسميه هنا على وجه الإطلاق بالتخيلات، وإن اختلفت مُسمَّياتها بحسب مدلولاتها، وذلك بقطع النظر عن صحتها وعدمها؛ لأنها في اعتقادنا صحيحةٌ كلها، سواءٌ طابقت الواقع، كأن يرى الإنسان وهو في مكان صورةَ صديق له في مكانٍ آخر مثلًا؛ أو لم تُطابق الواقع، كأن يحلم أنه طائر في الجو كما يحصل كثيرًا للأطفال في أحلامهم وهم نيام؛ فكلاهما تخيلٌ حاصل، لا يجوز للعلم أن ينفيه لئلا يتلجلج في تعليله، وكلاهما شعورٌ حقيقي وإن اختلف سببهما، كما سيجيء.
وما أطلقت اسم التخيلات على كل هذه الغرائب مع قطع النظر عن أسبابها الظاهرة والباطنة والبعيدة والقريبة، إلا لأضمَّها تحت اسم جنس باعتبار أن أصلها واحد يسهل تعليلها، وهي تشمل أحلام النوم وأحلام اليقظة كرؤية الأشباح، وسماع الأصوات، والإحساس بالملموسات، ومُناجاة النفس التي يُطلقون عليها اسم مُناجاة الأرواح، وقراءة الأفكار، والوقوف على الأنباء البعيدة، وغير ذلك مما هو خارج عن مألوف الحواس والإدراك. وبالحقيقة كلها في الغرابة سواء، والذي يستوقف النظرَ في أحدها يجب أن يستوقفه في الآخر؛ فليست قراءة الأفكار بأغرب من الأحلام، ولا مُناجاة الأرواح بأغرب من تخيُّل سماع الأصوات، وكلها من مصدرٍ واحد.
وقبل التوسع في الموضوع لا بد لي من التنبيه إلى أن كل ما يُقال عن الإنباء بالمستقبل لا حقيقة له مُطلقًا إلا ما كان منه في حكم الواقع، كأن يُنبئ الإنسان بأمرٍ مُقبِل يتوقف على أمرٍ حاصل. وهذا يدخل حينئذٍ في موضوع البحث فيما هو كائن في الحال حقيقة، مثال ذلك: كان عندي مريض منذ عشرين سنة، وكان به اختلاط ذهن هستيري طال به أكثر من شهرين، تقلَّب المريض فيهما على حالاتٍ مختلفة، أظهر فيها عدَّة غرائب، منها أنه عرض له في طور من أطوار مرضه رُعافٌ تكرَّر مرارًا عديدة. ففي أول الأمر لم نكن ندري بالرعاف إلا من مُشاهدته، ولكن بعد أن تكرَّر صار المريض يُنبئ به وبمقداره تقريبًا قبل حصوله بأربع وعشرين ساعة، وكان إنباؤه يصدُق. وتعليل ذلك بسيط؛ لأن الرعاف الذي كان يحصل لم تكن مُهيئاته تقع في الحال، بل لا بد أنه كان يسبقه بعض تغيرات احتقانية وغيرها، فصار المريض أول ما يشعر بها يعرف أنه سيعقبها رعاف فيُنذر به، ومن شدتها وخفتها يُنذر بمقدار الدم الذي سيرعفه. فإنباؤه هذا ليس إنباءً بالمستقبل، بل تقريرٌ للواقع؛ ولذلك كل ما تسمعه من قبيل الإنباء بالمستقبل إن لم يكن له مثل هذه المُسوغات ممَّا يجعله إنباءً بالواقع حقيقة، فهو مخرفة ودجل من قائله.
وما نبَّهت إلى ذلك إلا لخلط الناس والعلماء أنفسهم في هذه الغرائب، واعتقادهم بأن الإنباء بالمستقبل من الأمور المقرَّرة الداخلة ضمنها. وأعجب من ذلك أني قرأت من مدةٍ قريبة في إحدى المجلات الفرنساوية بحثًا لطبيب في هذا الموضوع، وقد عدَّ فيه الإنباء بالمستقبل من الأمور الداخلة فيه. وهذا جهلٌ فادح يُستعظم خصوصًا من طبيبٍ يجب أن يكون مُلمًّا بنواميس هذه الغرائب؛ لأن هذه الغرائب لا تحدث اعتباطًا كما يتوهم بعضهم، بل تعرض للناس بناءً على نواميس مقرَّرة لا تنحرف عنها، سواء كان في الصحة أو المرض، وتسير فيهما بانتظام على حدٍّ سوى.
فنحن الآن بين أقوال ثلاثة من ذوي المقام في الأدب والعلم: تصريحات ستد الذي يزعم أنه يكتب أحيانًا مُتأثرًا تحت سلطان الأرواح، وأنه رأى صورة ابنه المتوفَّى وسمعه يُخاطبه؛ ونفي العالم الرياضي نيوكم لهذه الغرائب، ونسبة بعضها إلى هواجس لم يُعنَ بالبحث عن سببها، وإنما نسب صحتها في بعض الأحيان إلى مجرد الاتفاق باعتبار أنها من الأمور الممكنة؛ وتسليم العالم الطبيعي السير أوليفرلدج بحصول هذه الغرائب من تفاعُل العقول أو النفوس بناءً على مبدأ التلبثيا، وميله إلى ترجيح سببها الروحاني، ممَّا يجعل صدقها نتيجة للشعور بأمرٍ واقع لا اتفاقًا، وقد حاول أن ينفي نسبتها إلى الاتفاق بإحصاءاتٍ تنفي الصدفة، وتؤيد الارتباط السببي في زعمه.
والحقيقة أن كلًّا منهم على صواب وخطأ في آنٍ واحد. فستد صادق في قوله إنه رأى صورة ابنه، وإنه يشعر في نفسه بأنه يكتب أحيانًا تحت سلطان شخص آخر، وإنما هو مُخطئ في ادعائه أن ذلك من فعل أرواح غريبة عنه. ولو درى أنه مُستهوًى استهواءً ذاتيًّا من جهة، ومُتخيل من جهةٍ أخرى ما في ذاكرته من المحفوظات لأسبابٍ معلومة لنا اليوم جيدًا من درس نواميس الجهاز العصبي في الصحة والمرض، بما عبَّرنا عنه هنا ﺑ «مناجاة الأحلام وقرع الأوهام»؛ لَمَا كان في قوله شيءٌ يؤخذ عليه. ونيوكم مُصيب في نفيه التفاعل الروحاني عن هذه الغرائب، ولكنه مُخطئ في إنكاره سببيَّتها الطبيعية، وتعويله في صدقها على الاتفاق وحده، وإن كان للاتفاق دخلٌ في بعض الأحيان. وأوليفرلدج مُصيب في أن هذه الغرائب تجري على نواميس معلومة لنا اليوم بالتلبثيا، ولكن خطأه في نسبة ذلك إلى تفاعُل العقول أو الأرواح لا يُغتفر، ولا سيَّما أن في المعلومات الطبيعية اليوم مندوحةً لنا عن الخروج بها إلى مثل هذا التعليل الغريب.
وقد وقعت أنا نفسي منذ ثلاث وثلاثين سنة في نفس الخطأ الذي وقع فيه اليوم نيوكم بتعليل صدق هذه الغرائب بالاتفاق، وذلك في حادثة طبيب إنكليزي زعم أنه سمع وهو مارٌّ في لندن بالقرب من بيت أحد أصدقائه الذي كان يومئذٍ بمدينة حلب، صوتَ صديقه هذا يُناديه ثلاثًا، ثم علم عند وصول البريد أن صاحبه كان في تلك الدقيقة يحتضر. وقد تناولت هذا النبأَ في ذلك العهد الجمعياتُ النفسية في إنكلترا، وهوَّلت به كثيرًا، حتى إن الجمعيات العلمية شاركتها في هذا البحث، وكتبت الجرائد فيه مقالاتٍ ضافية. وكنت يومئذٍ في الآستانة، فاطلعت في جريدة «الكوريه دوريان» على فصلٍ طويلٍ عقدته جريدة «الكونستيتيسيونال» الباريسية لهذا الموضوع، ونقلته عنها جريدة الآستانة المذكورة، جاء فيه كاتبه على أمورٍ كثيرة من حوادث التخيلات الغريبة، نُسِل أكثرها مما وقع لبعض مشاهير الرجال في التاريخ، كنابوليون وقيصر وسواهما، من أنهم كانوا يرون أشباحًا، ويسمعون أصواتًا تُخاطبهم لا حقيقة لها في الظاهر، وذهب إلى أنها من الغرائب التي لا تُدرَك. فكتبت في ذلك الحين ردًّا عليه باللغة الفرنساوية، نُشر في جريدة «الكوريه دوريان» المذكورة في ٢٥ أكتوبر سنة ١٨٧٦، ونقلته إلى العربية مجلة الطبيب في بيروت.
وقد حاولت في هذا الرد أن أدفع عن مثل هذه الحوادث كل غرابة غير طبيعية، مُستندًا في ذلك إلى علم أمراض العقل، وما يعرض من التخيلات وانخداع الحواس في الجنون وفي سائر الحالات العصبية التدريجية التي بين الصحة والمرض، وحصرت تعليل ذلك بما سمَّيته هنا قرع الأوهام، ويُراد به قرع محفوظات الذاكرة لمراكز الحواس بالارتداد من الباطن إلى الظاهر، وذلك في الأعصاب المُتهيجة المُنصرفة إلى التفكير في موضوعٍ ما، أو المُلفتة إليه لمناسبةٍ ما، كمناسبة المرور بالبيت الباعث على التذكر بصاحبه. وعلَّلت صحة النبأ إذا صدق قائله بما يأتي: «والاعتراض الذي يُوجَّه إلى ذلك في مثل هذه الأحوال هو هذا: لماذا تتم الأمور أحيانًا كما تُنبئ عنها أو تُوحي بها التخيلات؟ والجواب على ذلك وعلى الأحلام أيضًا بسيط، وهو أنَّ كل ممكن قد يتحقق أحيانًا، ولكنه لا يتحقق دائمًا؛ ولذلك كانت أكثر التخيلات لا تتم حقيقة.» ا.ﻫ.
أي إنني علَّلت ما يصح منها بالاتفاق كما علَّله نيوكم الآن، ولكن الخطأ الذي كان يُغتفر حينئذٍ لا يُغتفر الآن بعد أن تقدَّمت العلوم الطبيعية وباثولوجية الأمراض العصبية هذا التقدمَ الباهر.
وأزيد على ذلك اليوم بقولي إن غير الممكن لا يتحقق مُطلقًا، كأن يحلم الإنسان أنه طائر في الجو، أو ساقط من مكان عالٍ وهو لم يسقط، فلا يمكن أن يكون مثل هذا الحلم مُوعزًا به من الخارج، أو مُعبرًا به عن حقيقةٍ واقعة، مع أن صاحبه يُحس ويرى أنه كذلك. ويُعلل في الأول بقرع الأوهام لذاكرته، وتجسُّمها لدى حواسه بما يكون قد ذُكِر له في طفوليَّته من مثل هذه الأخبار السقيمة، وغيرها من الخرافات السخيفة التي يحشون بها دماغ الطفل. وتعليله في الثاني تعبٌ طرأ على الجسم وهو نائم من وضع أو سوء هضم، وبانتقال الأفكار إلى المُتناسبات والحواس في كللٍ انتقل «به الشعور» من ضيق إلى ضيق إلى هول السقوط.
ولكن هذا التعليل وإن انطبق على الانفعالات الذاتية المُنعكسة من الباطن، وصح على كل التخيلات الذاتية التي تعرض للإنسان في الحلم واليقظة، من رؤية الأشباح إلى مُناجاة الأرواح، التي هي عبارة عن مُناجاة أحلام الإنسان نفسه بناءً على ناموس قرع محفوظات الذاكرة للأعصاب المُتهيجة وناموس الاستهواء الذاتي، إلا أنه توجد حالاتٌ أخرى مصدرها خارجيٌّ محض لا ينطبق عليها هذا التعليل، وتعليل صدقها بالاتفاق وحده لا يكفي، مثل قراءة الأفكار والعلم عن بعد ممَّا هو مقرَّرٌ أمره في العلم، ولا يجوز الشك فيه اليوم.
على أن العلوم الطبيعية والعلوم الباثولوجية العصبية قد تقدَّمت كثيرًا من ذلك العهد، واكتشفت غرائب كثيرة فيها غير خارجة في أعمالها عن نواميس الطبيعة، حتى صار يجوز لنا فهم أكثر أعمال العقل غموضًا، واستنتاج المجهول بناء على المعلوم.
غير أن المُتصعبين من العلماء — وما تصعُّبهم لضعف البيِّنة، بل لاقتصارهم في البحث على الجزئيات، ولقلة تعويلهم على الاستقراء في الكليات — لا يزالون يميلون إلى نسبة هذه الغرائب إلى أمورٍ غير طبيعية، مع علمهم الأكيد أنها في غرابتها تسير على نواميس معلومة كغرائب الأمراض العصبية مثلًا، انقيادًا لأوهامهم التي ورثوها أبًا عن جد. وبعضهم ينصاع اضطرارًا إلى التسليم بطبيعتها المادية، ولكن ما رسخ في ذهنه بالوراثة يحمله على الوقوف موقف المُتردد غير الجازم، مُتوقعًا أن يكشف له العلم نواميسَ طبيعيةً جديدةً غير معروفة له اليوم. ولو تدبَّر هذا المُتردد والمُتمني في سره فشل العلم في نفي أمانيه، لعلم أنه لا ينتظر أن يكتشف في الطبيعة من يوم عرف ناموس تحوُّل القوى نواميسَ جديدةً أصولها الطبيعية مجهولة، بل كل ما ينتظر إنما هو زيادة التوسع في معرفة تحولات هذه القوى، واستخدامها لغرضنا بناءً على أنها هي والمادة من أصلٍ واحد. والمعلوم اليوم من هذه التحولات البديعة من حركة إلى حرارة إلى نور إلى كهربائية إلى أشعة رنتجن إلى أشعة الراديوم إلى الأشعة الكيماوية التي تُرقق الأجسام وتُشففها، واستخدام ذلك لنقل الأصوات بالتلفون، وحفظها بالفونوغراف، وخزن حركاتنا في السينماتوغراف، ونقل أخبارنا في الفضاء بتلغراف مركوني، ونقل المرئيات إلى بُعد؛ كل ذلك كافٍ لأن يجلو لنا اليوم أشد هذه المسائل غموضًا.
وإذا أضفنا إلى ذلك علمنا بأن العالم لا فراغ فيه، وهذا يستلزم ألا يضيع فيه شيء، بل يُحفظ فيه ويتحول؛ لعجِبنا، ليس من عروض هذه الغرائب لنا أحيانًا، بل من عدم عروضها لنا غالبًا؛ لأن عروضها هنا هو القياس، وعدمه كان يجب أن يكون الشاذ، فإذا كان عروض هذه الغرائب لا يتيسر دائمًا، فلحوائلَ طبيعيةٍ أزال العلم الطبيعي اليوم كثيرًا منها، وأيَّده علم بسيكولوجية الدماغ والأمراض العصبية نفسها، كما أبنت ذلك في مجلد السنة الثالثة من مجلتي الشفاء في حادثة اختلاط ذهن هستيري من أغرب ما وقع لي ولسواي أيضًا.
وبالحقيقة إن أثر كل حركة، مادة أو نبضة فكر، يجب أن يصل إلى كل شيء، ويجب أن يُحس به كل شيء بناءً على ناموس حفظ القوى. وإذا كنا لا نشعر به دائمًا فلأسبابٍ مادية، إما لضعف في حواسنا، وإما لضعف الأثر نفسه وتبدُّده قبل وصوله إلينا. فإذا أمكننا أن نُقوي مشاعرنا أو نُزيل الحوائل الأُخَر لم يصعب علينا أن نقف على كل مُمتنع علينا في حالتنا الاعتيادية. وقد جاءت الاكتشافات المذكورة سابقًا مؤيدةً لذلك، كما قلت في الشفاء من أن لا بد لكل فعل من فاعل وقابل وناقل، وقد تمكَّنا بالتلفون من تقوية الناقل، ووقفنا من قراءة الأفكار على قوة القابل، وتمكَّنا كذلك بتلغراف مركوني من تقوية الفاعل والقابل معًا، وعرفنا كذلك أن هذا القابل قد يشتدُّ تأثره جدًّا في بعض الحالات العصبية المرَضية، إلى حد أن الإنسان يقدر أن يعلم عن بعدٍ شاسعٍ حركات سواه، ويسمع كلامه كأنه على كثبٍ منه، ولكن يُشترط في ذلك شروطٌ تجعل هذا العمل خاضعًا لنواميسَ معلومةٍ نظير سائر النواميس الطبيعية، كألا يُدرك الإنسان إلا حركات أشخاص معلومين له بهم علاقةٌ معلومة ولو مهما أبعدوا عنه، ولا يُدرك حركات سواهم ولو كانوا بالقرب منه؛ لأن أعصابه تكون مُتكيفة لقبول تأثيرات أولئك لشدة الاشتغال بهم خلافًا لهؤلاء.
وإذا كان هناك محلٌّ للشك فدَرْس غرائب الأمراض العصبية الهستيرية كافٍ لأن يُزيله؛ إذ أثبت استطاعة الإنسان لأن يتأثر بالمؤثرات الخارجية، فيرى عن بعدٍ شاسعٍ صور الأشخاص، ويسمع كلامهم بما يُفسر لنا جيدًا شدة تهيج القابل فيهم، حتى يصير يُحس بما لا يُحس به الإنسان عادة، ولأن يُفسر لنا كذلك حقيقة التخيلات الذاتية الصادرة من الباطن، والتي هي سبب وَهْم ستد وأشياعه بأن أرواحًا تُخاطبهم، أو أنهم يفعلون مُتأثرين بسلطان غيرهم.
فلا يخفى أنَّ أصحاب المرض العصبي الهستيري موصوفون بقوة الذاكرة، حتى إن في وسع بعضهم في هياج مرضهم أن يذكروا أدقَّ دقائق ما جرى لهم في حياتهم، كأن الذاكرة آلةٌ فوتوغرافية سينماتوغرافية حقيقية، ينطبع على صفحاتها كل ما يمرُّ بها من كلي وجزئي، فإذا عرض ما هيَّج هذه الصفحات بدا ما كان كامنًا فيها كأنه ابن يومه. ومن أغرب ما أتى به المريض الذي أشرت إليه وذكرت حكايته في الشفاء، أنه في أثناء مرضه الذي دام به أكثر من شهرين ذكر تاريخ حياته بالتفصيل، والأعجب أنه ذكر وقائع دعوى كانت له في المجالس دامت ثلاث سنوات، ثم خسرها، وكانت خسارته له سببًا لاستيلاء المرض العصبي عليه بعد ذلك على الفور، حتى إنه ذكر المُرافعات التي جرت فيها أمام القضاء كأنها منقولة بالحرف، وبفصاحةٍ تفوق طوره جدًّا في حال الصحة.
فليس بدعٌ أن يكون سبب التخيلات التي من مصدرٍ باطني، والتي تجعل الإنسان في بعض أحوال خصوصية يسمع ويرى ويلمس ما ليس له حقيقة في الظاهر قرع الذاكرة نفسها للحواس المُتهيجة، كما في الجنون وما دونه من أحوال اضطراب العقل بالمؤثرات المختلفة في الأعصاب المُتهيجة، وهي درجاتٌ كثيرة بين الصحة والمرض. ومعلوم كذلك أمر الاستهواء الذاتي حتى تصير أحلام الإنسان لديه حقائق، وحتى يصير بالنظر إليها بوجدانَين مُتباينين بحسب سرعة تغلُّب أحواله العصبية، يسمع أحدهما يُخاطب الآخر، وكثيرًا ما يشعر الواحد أنه تحت سلطان الآخر يأتمر بأمره حتى يزول منه الاضطراب العصبي الكلي كما في الجنون، والجزئي كما في الأحوال الهستيرية المُتغلبة بحسب نُوَبها، فيرجع إنسانًا اعتياديًّا لا يتأثر بغير ما يتأثر به الناس عادة.
ومن هؤلاء طائفةٌ من الناس ليس بهم جنونٌ حقيقي أو ظواهرُ هستيريةٌ ظاهرة للعيان، بل بهم من كل ذلك ظاهرةٌ واحدةٌ مُقتصرة على أمرٍ واحد فقط، وهي تهيُّج مركز واحد من مراكز قواهم العصبية، بحيث يقتصر الاستهواء فيهم على فكرٍ واحد أو شعورٍ واحد، كما هو شأن ستد وأضرابه في اعتقادهم أنهم يكتبون أو يعملون عملًا تحت سلطان شخص آخر غريب عنهم. ولا شك أن كثرة اشتغال العقل بموضوعٍ يخافه أو يهواه تعده لاستيلاء مثل هذه الحالة عليه، وإحداث الاضطراب الشديد في جزء من أجزاء دماغه مع سلامة باقيه، كما هو مُشاهَد كثيرًا في عموم الناس لمن يتدبر ذلك كما ينبغي.
والحاصل أن الحوادث الغريبة من مثل التي ذكرها ستد، ليست بالحقيقة هذيانًا خاليًا من سببٍ طبيعي معلوم كما يذهب بعضهم، ولا هي وحي أو شبه وحي كما يذهب كثيرون، وإنما هي تخيلات الذاكرة لمعلوماتها الباطنة، أو تأثُّر الحواس تأثرًا قياسيًّا بالمؤثرات الخارجية البعيدة الطبيعية لوجود كل من المؤثر أو ناقل التأثير أو قابله أو كلها معًا في أحوالٍ خصوصية تُزيل من بينها كل حجاب، كأن يحول دون الشعور بما يلزم الشعور به في كل الأحوال لولا تلك الموانع العارضة، والتي أزال العلم الطبيعي وعلم الطب كثيرًا منها. وعليه فليس غريب في كل هذه الغرائب التي انجلت لنا أسرار جلها إن لم نقل كلها سوى غرابة قلة عروضها لنا، وخصوصًا طفورنا في تعليلها إلى غرابةٍ أغرب منها لا أساس لها إلا نقل لا ينطبق على علم ولا يُجيزه عقل، حرصًا على مُبتغيات أوهام ومُتمنيات أحلام.
كلمةٌ مرة ولكنها حرة٢
موسى نظر إلى شراهتهم وضررها بالصحة فدلَّهم على النافع من الطعام، ومحمد إلى قذارتهم فأمرهم بالنظافة، وعيسى إلى اختلال آدابهم وضررها بالاجتماع فحثَّهم على الفضيلة، فعفوًا أيها الأنبياء الكرام، على مذهب المؤمنين، ويا أيها الرجال العظام، على مذهب العقلاء، عفوكم عفوكم ألف مرة على ما يأتيه أتباعكم من الأعمال، ويُثيرونه من المباحث الدالة على سخافة العقول، وهم يدَّعون أنهم أبناء هذا العصر الذي يزعم أصحابه أنه عصر المدنية والعلم.