المقالة الثانية والخمسون
ستيد كاتبٌ شهير، وقُراءه مُعجبون به لبلاغته، فهو قال قولًا لولا شهرته واعتقاد الكثيرين فيه الرجاحة في الرأي والصدق في القول، ولولا موافقته لأماني الأكثرين؛ لَمَا لفت أحدًا إليه. ولو قاله سواه ممَّن ليس له هذه المُميزات لعُدَّ ذا جنة أو أنه من المُمخرقين.
على أن الشهرة لا تقي من العثرة، والإجادة في شيء ليست الإجادة في كل شيء، والإصابة ليست دائمًا في جانب الإجماع، فالعدد ليس حجةً قاطعة أو هو وحده برهان القوة الوحشية فقط، والحقيقة ما كانت أدنى إلى الواقع.
•••
الناس في مجموعهم مذهبان مُتناقضان؛ نظريون وحسيون. فالأولون، وهم الأسبقون والأكثرون، بنَوا آراءهم في الطبيعة على تخرُّصات وأوهام لقلة تعرُّفهم لها في أول الأمر، وأوسعوا لعقلهم مجال النظر والاجتهاد، فبنَوا على هذه الشبهات تعاليم كان الفطير فيها أكثر من الخمير، ثم ألِفوها مع الزمان بالتربية والتوارث، حتى صارت لديهم في عداد الحقائق المقرَّرة.
والآخرون، وهم الأخيرون والأقلون، تعرَّفوا الطبيعة أكثر من أسلافهم، فوجدوا المعلوم كافيًا لأن يُفسر المجهول، ورأوا أنهم بذلك خطوا خُطًى صائبة في زمنٍ قصير، الدقيقة منه أتت بأعمالٍ نافعةٍ ملموسة، قصرت عنها تخبُّطات مُخالفيهم في قرون، فاستمسكوا به، ولم يريدوا أن يحيدوا عنه لغير سبب راجح.
•••
نظر الفلاسفة الطبيعيون إلى مواليد الطبيعة، الجماد والنبات والحيوان، فوجدوا أن استقلالها ليس مُطلقًا كما ترمي إليه مذاهب أهل النظر، بل نسبي فقط بالنظر إلى مقامها في سُلَّم التحول والارتقاء، فكما أنه ليس لها مواد مُستقلة ليس لها كذلك قوًى أو نفوسٌ مُستقلة. وقد كان لها ذلك في اعتقاد سواهم قبلهم، بل كان لكل جسم، بل مادة جسم، نفسٌ خاصة قبل أن استأثر الإنسان وحده بالنفس.
ثم نظروا في علوم الأحياء على الإطلاق، فوجدوا أن بين الأعضاء وأفعالها نسبةً شديدة، فإذا علَّت الأعضاء علَّت الأفعال، وعلَّ الحي نفسه القائمة حياته بها وهلك. وإذا مات انحل إلى البسائط المؤلَّف كل عضو منها، ولم يجدوا في كل ذلك أثرًا لقوةٍ خارجة عن قوى المادة المشتركة.
ثم نظروا إلى الإنسان والحيوان فلم يجدوا الفارق الجوهري الذي يُفرق الواحد عن الآخر، لا في تركيب جسمه ولا في جوهر عقله، والفارق النسبي بينهما ليس بأعظم منه بين الحيوان والنبات وهذا والجماد، بل بين أحط فروع الإنسان وأرقاها. فالإنسان عاقل لأنه يعمل أعمالًا مغيَّاة، والحيوان يعمل أعمالًا مغيَّاة أيضًا، وليس من قوة في عقل الإنسان مهما تعالت إلا موجودة في الحيوان بحالةٍ أثرية، وما الفرق إلا نسبي لفرق في التركيب.
ثم نظروا إلى عقل الإنسان نفسه، فوجدوه يتمشَّى على نفس النظام الذي تتمشى عليه سائر الأحياء في النسبة التي بين الأعضاء والأفعال؛ أي إنه فعل من أفعال الدماغ نفسه، وصار بذلك علم العقل فرعًا من علم منافع الأعضاء.
•••
ولما كان العقل والنفس واحدًا في المعنى، كما كانوا يعتقدون في القديم ويخلطون بينهما، كما تدل عليه لفظة البسيكولوجيا نفسها، التي هي في الأصل معناها علم النفس، والتي تُطلق اليوم على علم المعقول؛ صار من الضروري أن ينتقل البحث في النفس من دائرة علوم الكلام التي كانت تجول فيه لا ضابط ولا رابط، وتُقيم البرهان إثر البرهان والدليل إثر الدليل لتُثبت أن النفس قوةٌ غير ذات مادة تفعل في المادة، وأن يدخل في علم منافع الأعضاء نفسها، وأن تُعتبر النفس كالعقل فعلًا من أفعال الدماغ خاضعة لجميع المؤثرات التي تؤثر في مادته.
ولكن الرضا بهذا الحد يُزيل عن النفس روحانيتها، وهي أوسع من أن تقع تحت حصر في نظر أصحابها، وهم إذا رضوا بأن يتنازلوا عن امتياز العقل الروحاني، فلا يرضَون بهذا الدموج النفساني، فضحَّوا العقل في سبيل النفس، ومالوا حينئذٍ، ولكن على نوعٍ مُبهم، إلى فصلها عنه، وحاولوا في أول الأمر أن يُثبتوا لها مركزًا في الدماغ مُستقلًّا، ولو مهما كان صغيرًا تجلس عليه كالملك على عرشه، تأمر وتنهى وتستبد بالجسم إذا شاءت، وكأنهم لم يبقَ لهم اليوم مثل هذا المتَّكأ، فصارت النفس عندهم أوغل في الإبهام، لا يعرفون أين تستقر، ولا من أين تدخل، ولا كيف تخرج، ولكنها مع ذلك موجودة، والتعنت برهان أيضًا.
•••
فالطبيعيون رأوا كل ذلك، فلم يروا أن يحيدوا عنه، رأوا أن لا شيء في الطبيعة يتلاشى، وأن لا شيء فيها يحدث، فوقفوا عند هذا الحد، وقالوا أن لا شيء معلومًا يخرج إلى ما وراء الطبيعة؛ إذ يجيء من وراء هذه الطبيعة. ولو شاءوا أن يبحثوا فيما وراء الطبيعة لتعذَّر عليهم أن يفهموا استقلال هذه النفوس أو العقول أو الأرواح الذاتي، وهل هي محدودة تحل في الأجسام ثم تُفارق، ثم تعود إلى سواها؛ أم هي خصيصة تُصنع لكل مولود، ثم تعود لتُخزن أو لتُطرق وتُصب ثانية؛ أم هي كالرديف محجوزة للنجدة عند الحاجة إليها، وما نسبتها من حيث الاتصال والانفصال إلى مكانها، سواء كان ضمن الطبيعة أو وراءها، وهذا «الماوراء» نفسه أو «المافوق» ما هو، وكيف هو، وأين هو، ما دام الطبيعة نفسها مالئةً الفراغ كله.
ولما كان الدماغ عضو العقل كالرئتَين للتنفس، والمعدة للهضم، والكبد لإفراز الصفراء؛ كانت العِلل التي تطرأ على الدماغ تؤثر في العقل أيضًا، وهذه العلل كثيرة منها ما هو كليٌّ يُلم بكل مراكز العقل، ويُحدث ما يُسمَّى بالجنون المُطبق، ومنها ما هو جزئيٌّ يقتصر على بعض مراكز كالذاكرة مثلًا، أو قوة الحكم أو التصور … إلخ. فإما أن يُلم بها كلها أو بشيء منها، فيسمع الإنسان أصواتًا غير موجودة، أو يرى أشباحًا غير حقيقية، أو يسمع هذا الصوت أو ذاك، أو يرى هذا الشبح ولا يرى ذاك، أو، وأو … إلى ما لا يقع تحت حصر ممَّا لا يخفى اليوم على علم الطب في جملته، وإن خفي عليه في كثير من مُلابساته.
ولهذا قيل: «الجنون فنون.» وزِدْ على ذلك أن درس أحوال الدماغ وسائر الجهاز العصبي — لأن الدماغ ليس مُستقلًّا في الجمجمة كما يُتوهم لأول وهلة، بل يمتد في أصوله المشتركة إلى أعماق الجسم، وكل ما يعرض في هذه الأعماق يؤثر فيه — قد أبان لنا أمورًا كثيرةً هي في عِداد الغرائب، من مثل قراءة الأفكار، وسرد الوقائع الحاصلة والتأثر بها، ولو عن بعدٍ شاسع، والاستهواء الخارجي والداخلي أو الذاتي أيضًا، إلى غير ذلك مما لا يتسع المقام لاستيفائه هنا. وقد علَّلنا كل ذلك تعليلًا طبيعيًّا في مقالٍ ضافٍ في جريدتنا الشفاء من نحو عشرين سنة وأكثر، وقد نقله عنه المقتطف في مجلد سنة ١٩٠٧، يشمل الكليات، ويرجع إليه في الجزئيات، بحيث تبدو كل هذه الغرائب في حكم المُحتمل مع بقائها في دائرة سائر أعمال الإنسان الطبيعية، فيُفسَّر الجلي منها بذلك، ويُبحث عن الغامض حتى ينجلي سره الطبيعي على هذا القياس بشرط أن نتأكد صحته؛ لأن الدجل يدخل في كل شيء، والكذب كثيرًا ما يُلابس كل شيء.
فالآن وقد تقرَّر هذا التمهيد الضروري لفهم ما يترتب عليه في أمر تصريحات ستيد وأمثالها، نقول إن ستيد الكاتب الشهير والمُبرِّز في فن التحبير متأثرٌ تأثرًا شديدًا بتعاليم أصحاب المذاهب النظرية، والتي تربيته الأولى وعلومه الأدبية وأشغاله الخصوصية إن لم تُساعده على تمكينها، فلم تعمل شيئًا لتخفيف وطأتها عنه مع ما به من الاستعداد الخاص. فقضية النفس والحياة الأخرى كما يظهر من كلامه همَّته جدًّا مع الميل الشديد به إلى ترجيح الجانب الذي تحلو فيه للإنسان أمانيه، وما فتئ طول حياته تحت سلطان هذا الهاجس مُترددًا فيه بين الشك المكروه واليقين المحبوب، حتى أُصيب من هذه الجهة بنوع من الهوس امتلكه وغلبه على سائر قواه العقلية، ووقع به تحت سلطان الاستهواء الذاتي مع استعداده لقبول الاستهواء الخارجي من هذه الجهة خصوصًا.
فهو من هذا القبيل معَدٌّ إعدادًا خاصًّا طبيعيًّا لشدة الانفعال، وذكاؤه دليل عليه، ومكيَّف له بسلطانٍ فوق سلطان إرادته فزيولوجيًّا، ومستهوًى له من الخارج والداخل طبيًّا. وهذا لا يشين الرجل، ولا يمنع كَوْنه من النابغين في فنه، فلا يجزع، ولا يُقم أنصاره للأخذ بخناقي؛ فقد عرض لأناسٍ مشهورين أكثر منه في التاريخ كقيصر ونابليون وجان دارك — مُضطهَدة الأمس وقديسة اليوم — وسواهم أنهم كانوا يسمعون أصواتًا ولا مُخاطِب، أو يرون أشياء لا يراها سواهم. ولو أمكن للإنسان أن يتحقق بصدق شهادة الآخرين مُبهمات شعوره وواضحاته لبدا الأمر لكثيرين أكثر مما هو معروف، ولكن إذا لم يخُنك الصدق في هذه المسائل فكثيرًا ما يخونك كيفية النظر فيها، وما آفة الأخبار إلا رُواتها. فستيد من هذه الجهة أحوج إلى طبيبٍ منا إلى مثل تصريحاته.
فرواية ستيد تنحصر في أمرَين مهمين، أحدهما يتعلق به رأسًا، كمسألة الكتابة تحت سلطان إرادة صديقته المُتوفاة وبإملائها. وهذا تعليله سهل جدًّا بالاستهواء الذاتي، فكان يفعل ما يفعل من نفسه وهو يظن أنه مُنقاد فيه لإرادة سواه. نعم هو مُسخَّر فيه إذا صدَّقناه، وإنما هو مُسخَّر لإرادته المُستهواة.
والآخر اتصل إليه بواسطة أصدقائه، وبالاعتماد على روايتهم. وأصدقاؤه هؤلاء من جنسه بالاشتغال في هذا الموضوع، وقد يكونون أخص منه فيه؛ إذ قد يكونون أعضاءً من الجمعيات الخاصة المُشتغلة بهذا النوع من العرافة الشبيهة بالعلمية، وكلامهم يحتمل الصدق والكذب، فضلًا عن أن المرويَّ عنهم إن لم يُفسَّر طبيعيًّا أو بالصناعة، فهو مع ذلك من السخافات التي لا طائل تحتها. فأصحاب هذه المباحث إما مُمخرقون وخادعون أو مُستهوَون ومخدوعون، ولا يصح أن يكونوا إلا واحدًا من هذين الاثنين مهما علا مقامهم. وفي العلم لا يجوز تضحية المبدأ إكرامًا لعالم أو علماء مهما ارتفعت مكانتهم، كما أنه لا يجوز اليوم في عصر الدستور أن تُضحى مصالح الأمة لخاطر عظيم ولو رزح تحت أثقال النياشين، خلافًا لمن لا تزال تستهويهم هذه الأعراض في الأمرَين حتى اليوم. فإن كان أصدقاؤه غير مُخلِصين، فماذا يمنع أن يكونوا نقلوا له كل ما ذكره غير مُخلِصين أيضًا، إن كان ما ذكره مما هو بعيد الاحتمال كأمر الصورة نفسها؟ فليس أسهل من نقلها من صورها الفوتوغرافية بالتحليل والتركيب حتى يُبعدوا سائر الأعراض، ولا تبقى إلا صورة الوجه فقط بزيٍّ جديد.
وأما ما بقي مما يحتمل الصدق والكذب، كأمر العلاقة الخاصة ورسائل ابنه المتوفَّى، وكرؤية أحدهم لصديقته دون الباقين؛ ففي حال الكذب لا حاجة إلى التعليل، وفي حال الصدق والإخلاص فكله مُحتمل على مبدأ قراءة الأفكار، والعلم عن بعد، وتجسُّم الوهم بالاستهواء … إلخ. وقد يكون هو نفسه قد أباح بصورة العلامة الخاصة ولم يدرِ.
ثم إن هذه المعلومات نفسها التي أخبر بها ما قيمتها بالنظر إلى المعلومات التي لا شك كان ينتظرها من أصحابه المُتوفين، والتي كانوا هم أنفسهم يعِدونه بها. ولو كنت مكان ستيد لما رضيت من أصحابي المُتوفين ما داموا قادرين على مُخاطبتي إلا أن يُخاطبوني رأسًا، وأن يُنبئوني بالإسهاب بكل ما تتُوق إليه نفسي بالصراحة التامة، فيُخبروني بمكانهم وحالتهم وانطباقها على المعلوم في هذه الدنيا أم عدمه، وينصحوني فيما يلزم وينهَوني عما لا يلزم، لا أن يُنبئوني بأمورٍ مُبهَمة كالأحلام، وبطرائق هي أقرب إلى صناعات المُشعوذين من العلم. ولماذا لا يفعلون ذلك، ويجعلون هكذا حياة أصدقائهم وأقاربهم، بل سائر إخوانهم في الإنسانية، سعيدةً في الدارَين؟ ولعل ستيد نفسه المُتحمس في هذا السبيل، والمُتطوع في هذا الجهاد العلمي من نوعٍ غريب، والذي يشعر بنقص كل هذه المُخابرات المرغوبة يُخبر الناس بعد عمر طويل بما لم يأتِهم به بشر من قبل، ويحل لهم هذه المشكلة العويصة، اللهم إلا إذا حُظِر الأمر عليه هناك؛ لئلا تفسد على المُحتكرين صناعاتهم هنا، وقد أُعطيت لهم امتيازاتها في عهد حكومة الاستبداد الأسمى. أما أنا فلا أظن أن ستيد مع شدة رغبته يقدر على ذلك، لا لهذا السبب ولا لسواه من جنسه، بل لأنه … لا يقدر …
هذا جوابي على السؤال الموجَّه إليَّ في الجريدة، وهو الأول والأخير، وقد صدَّرته بمقدمة تُمهد السبيل لتفهُّمه جيدًا على أسلوبٍ أقرب إلى العلم منه إلى النظر؛ لأُبعد عني المناقشات التي هي أقرب إلى الجدل، خصوصًا وأن الموضوع على الطريقة التي ينحوها أصحاب هذه المباحث تلذُّ للمُولَعين بالغرائب، وبقراءة الأقاصيص التي هي أقرب إلى الخيال أكثر جدًّا مما تلذُّ لسواهم ممَّن هم أرغب في المباحث الجافَّة، وأنا لا أميل إلى تلك، وكأني أسمعك بعد كل هذا البيان تقول: «عنزة ولو طارت.»