المقالة الثالثة والخمسون
جاء في مقدمة بخنر: «ولا يتوهَّمن القارئ أن مُرادنا بذلك قلب الموضوع، وعكس المطبوع قهرًا وظلمًا؛ أي استعمال القسوة لنفي الديانات على حد استعمالها لتأييدها، كلا ثم كلا؛ وإنما القصد أن الحكومات لا تُكرِه الناس على الإيمان، ولا تُخمد الأنفاس عن إبداء ما في الصدور، بل تدع كلًّا وشأنه، وتتحاشى الضغط على العقول.»
ثم قرأت اليوم في الصحف عن الجالية الإيطالية في الإسكندرية أنها يوم تذكار مُحرِّرها غريبلدي، نصبت في أحد معاهدها العلمية أثرًا نقشت عليه الكلام الآتي: «إن العلم والأدب لا يُدرَكان إلا بزوال العقائد والأديان.»
وقلت في نفسي التطرفُ من طبع الإنسان؛ أولئك أقنعوك بحد السيف، وهؤلاء يريدون أن يحظروا عليك أن تؤمَّ معهدًا للعلم وأنت لا تقول قولهم. ومن يضمن لنا أن الذين يقولون هذا القول اليوم لا يعمدون إلى نفس البرهان إذا توفَّر لهم الحول والصول؟
على أن الدين والعلم بريئان من هذا التحمس؛ فالدين يدعونا إلى الإيمان، ولكنه يقول لنا: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، والعلم لا يدعونا إلى الإلحاد، بل يكشف لنا الحقائق. وإذا الدين قال: قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، فإنما يقول: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وهذا من حقوق الدفاع العمومية. فإذا جنى عليه دُعاته، فأين فضل دُعاة العلم إذا حذَوا حذوهم؟ وهل تُدرَك غاية العلم بذلك؟
ولذلك لا أظن أن أحدًا من كبار المُلحدين يُصوب هذا العمل؛ لأن هذا الكلام، مُعلقًا في مدرسة من مدارس الحكومة والأمة، مُنافٍ لحرية الفكر التي هي غاية العلم، ولا سيَّما أن مجموع الأمة لا يقول كله هذا القول، والحكومة ليست إلا مُمثلة الأمة، حتى ولو كانت الأمة جميعها على هذا المذهب لَمَا جاز أيضًا؛ لأن العلم الذي يُعلمنا احترام حرية الفكر، كيف يجوز له أن يُعلمنا الإكراه في الإلحاد؟ وإذا أجاز العلم لنا أن نفتكر، ونقول مثل هذا القول، وننشره في الكتب، ونُعلمه للطلبة حتى في المدارس مُبينين لهم وجه الصواب فيه أو الخطأ في سواه، إلا أنه لا يُجيز لنا أن نجعله شعارًا نُعلقه على معهدٍ عمومي للتعليم. ألا يرى أصحابنا أن ذلك ضرب من التعصب مقلوب الموضوع. ولقد طالما شكونا المضارَّ التي لحقت بنا من تعصُّب دعاة الأديان، ودعاة الحرية يريدون أن يُعلمونا بصنيعهم هذا التعصب للإلحاد، لا لعمري! إن ذلك لا يقبله أشد المُلحدين تعصبًا، ولا يقول به منهم إلا المُنقادون المُقلدون لا المُفكرون بأنفسهم، ومثلهم مثل المُنقادين في تعصُّبهم للدين. فالإلحاد وإن كان نتيجة العلم أحيانًا إلا أنه ليس غرضه، بل غرض العلم حلُّ العقل من قيوده ليصير حرًّا، يفتكر لا لغرضٍ معلومٍ نشأ فيه وتربَّى عليه، بل ليصير قادرًا أن يحكم لنفسه بنفسه.
وإنا لنستغرب منهم ذلك ونحن اليوم في عصرٍ نرى مِرجل الأفكار فيه في أشد غليانه، وكلها متَّجِهة إلى غايةٍ واحدة، وهي مُقاومة التعصب في كل مقاصده، لا في الأديان فقط، بل في الأوطان أيضًا؛ لأن المُصلِحين الحقيقيين ينظرون إلى العالم نظرًا عامًّا، ويعتبرون الوطن أعم من أن ينحصر في قوم، ويقف عند حدٍّ من الأرض؛ ولذلك تراهم في سائر الممالك يسعَون لتحقيق هذه الآمال مادِّين أيديهم إلى ما وراء حدودها، مُتصافحين على ما بينها من اختلاف المنازع السياسية، كأنهم يريدون أن يُحققوا مقاصد كبار الوازعين من أهل الدين بجعلهم الدنيا وطنًا واحدًا، وأهلها شعبًا واحدًا، وكيف يتم لهم ذلك إن لم يلتفُّوا كلهم حول كعبة العلم الصحيح؟ إذ يتخذونه وسيلة لهدم آخر صرح شادَه الجهل في العقل، ألا وهو مَعقل التعصب. فالعلم لا يجوز أن يبني باليد الواحدة ما يهدمه بالأخرى، وإن يفعل فلا يجوز أن يُسمَّى علمًا. فليتوخَّ دعاة الإصلاح هذه الغاية في معاهد التعليم؛ فذلك أدعى لاتساع المدارك، وإلا فهم ناشطون بها من عِقال للوقوع في آخر.