المقالة الرابعة والخمسون
إذا عُدَّت اكتشافات البشر وأعمالهم العظيمة في العصور من أول الخليقة إلى اليوم، فلا ريب أن هذا النفق الذي أنبأنا عنه أوليفر لودج، العالم الطبيعي الإنكليزي والرجل السياسي، أعظمها جميعها.
الإنكليز اشتهروا حتى اليوم بأعظم الاكتشافات العلمية الكبرى، فنيوتن اكتشف الجاذبية العامة، وليل مذهب التعاقب الجيولوجي البطيء، ولستر مذهب الجراثيم في الأمراض، وداروين مذهب النشوء والتحول. فلا غَرْو أن يكون مُكتشف هذا النفق اليوم أوليفر لودج الإنكليزي.
ونفق أوليفر لودج ليس سربًا في الأرض يخرج منه إلى مكان في الأرض، بل هو سرب بين الأرض والسماء يخرج منه أهل الأرض إلى السماء وأهل السماء إلى الأرض.
هذا النفق الذي سيقلب العالم قلبًا، ويجعل الأرض والسماء مشاعًا بين سكانهما — كقنال السويس بعد أقل من ستين سنة — لم ينتهِ الحفر فيه، ولم تتم به المُواصلة حتى الآن، ولكنها صارت به على وشك التمام.
وهو وإن كان العمل فيه مشتركًا بين سكان العالمين إلا أن الفضل في حفر القسم الأعظم منه لسكان السماء أنفسهم، ومن البشر لفئةٍ صغيرة من عمال الإنكليز النشيطين كستيد ومن لفَّ لفَّه.
والظاهر من قول أوليفر لودج أن الحاجز الباقي قائمًا في هذا النفق، والفاصل بين العالمين، قد رقَّ جدًّا حتى صار يُسمع من خلاله صوت ضرب المعاول من الجانبين، وربما صار أرق من دين الكافر. ودليله على رقة هذا الحاجز هو سهولة التخاطب اليوم بين البشر في هذا العالم والأرواح في العالم الآخر، وهو يقول إن هذا الحاجز سيسقط قريبًا، وربما لا ينتهي هذا القرن حتى تتم المواصلة الفعلية بين العالمين.
حينئذٍ يسهل على أبناء البشر معرفة المخبَّأ لهم، وعلى الأرواح إنباء البشر بما ينتظرهم. ولا بد أن افتتاح هذا الطريق يتبعه تغيُّر في نظام الأرض والسماء، واختلاط بين سكانهما، فيتحقق في هذا العصر ما أُنبئ به منذ القديم من أن سكان الأرض سيصيرون بطبائع سكان السماء ملائكة، ويعم ملكوت الله. فطوبى للذين يعيشون ويشهدون ذلك.
إنما يُخشى أن السياسة تتداخل في الأمر، فتدَّعي دولة الإنكليز حق السيادة على هذا النفق، وتضرب عليه رسم مرور، وتحصر الامتياز فيها؛ لأن العاملين فيه من رجالها، ومهما يكن من الأمر فإنها لا تستطيع احتكار هذا الامتياز إلا سنين معدودة، ثم يصبح المرور مشاعًا للعموم، كما هو مصير قنال السويس — قبل ستين سنة — ولو بدفع تعويضات لها يكون القول الفصل فيه للاتفاق الدولي، لا لتحكماتها هي نفسها، اللهم إلا إذا بقيت دولة الإنكليز أقوى الدول كافة، ولو مُجتمعة تتحكم فيها كما تريد، وهذا بعيد.
ويظهر من مباحث المُنقبين في العاديات السماوية أن هذا النفق كما في الميثولوجية كان موجودًا في القديم — كما كان قنال السويس موجودًا أيضًا على قول — ثم سُدَّ، أي النفق، لحصول اضطراب بين سكان العالمين كاد البشر يُفسدون فيه الملائكةَ كما في التوراة، فصَونًا للمصالح السماوية وللفضائل الراقية سُدَّ هذا النفق، وقُضي على الناس أن يُعانوا مشقة فَتْحه مرةً ثانية؛ قصاصًا لهم على شرورهم.
فعسى أن يتم لهم هذا الفتح اليوم فيعود الناس إلى مُعاشرة آلهتهم، كما كانوا في عصور الميثولوجية، وعلى عهد التوراة أيضًا، ولكن بالمعروف ليستتبَّ لهم الفتح نهائيًا من دون أن يخشوا سدًّا في المستقبل، وكأن البشر اليوم صاروا أصلح حالًا، وأسهل تمازجًا من ذي قبل، حتى لا يُخشى عليهم أن يقعوا فيما وقعوا فيه من الغضب عليهم في الماضي.
حينئذٍ يُسطر التاريخ لهذا القرن أعظم عمل قام به البشر حتى اليوم في هذا النفق، وينقش على بابه بأحرف من نور اسمَ أعظم مُكتشف، ويُسمَّى «نفق أوليفر لودج»، ويصبح صاحبنا للأجيال الآتية رابع الثلاثة.