المقالة الخامسة والخمسون
علماء هذا العصر مُتصاعبون جدًّا لا يتساهلون في قضايا العلم، فقلَّما يقبلون قولًا لم يُعززه البرهان، وبرهانهم ليس قضايا منطقية قد تتناهى فتنقلب إلى غرابة وسفسطة، من مثل قولهم: لك أذن، بل أذنان، وأذن وأذنان ثلاث، إذن لك ثلاث آذان. بل برهانهم برهان الامتحان، وهو برهان الحس والعيان. ولئن كان الحس الظاهر نفسه يخدع ويقع في التوهم أحيانًا كثيرة، إلا أنه أقل انخداعًا من المشاعر الباطنة وأسلم منها عواقب، ولا سيَّما أن المشاعر الباطنة مُنقادة في أحكامها إلى ما تنقله لها الحواس الظاهرة نفسها، خلافًا لمن يرى لها الاستقلال.
ولذلك لما أعياهم سر التولد الطبيعي ولم يستطيعوا أن يؤيدوه بالامتحان تلجلجوا، فوقف بعضهم كما وقف حمار «بوريدان» بين حزمتَي الحشيش، وانضمَّ إلى طائفة اللاأدريِّين. وهي حكمةٌ بالغة سَل عنها كثيرين من نواب أمة بني عثمان في المبعوثان، بل سَل عنها الحكماء النفعيين؛ أي أصحاب مذهب «الأوبرتونيسم» الذين هم في الاجتماع على رأي القائل: «لا يترك الساق إلا مُمسكًا ساقًا.» حكمة لولا أنها أبلغ من حكمة أصحاب المبادئ لما صاغها شعر المولدين في قالبٍ تتبرأ منه فصاحة شعراء الجاهلية، وإن كان يعدُّه البعض بليغًا ولكن باعتبار أن البلاغة تُناسب بين الصيغة والمصوغ فقط، ألم يقل شاعرهم:
والعجيب الغريب أن آفة الفهم لم تأتِنا في كل عصر إلا من علماء الفلك وأطباء الأبدان، مع أنهم أقرب الناس إلى اختبار عجائب المخلوقات، وهم كل يوم معها في شأن، كأن المثل «ما احتقرك إلا من خبرك، وما استصغرك إلا من عرفك.» صحيحٌ على سائر أحوال الإنسان؛ ولذلك لم يكن نبيٌّ بلا كرامة إلا في وطنه.
وانقاد بعضهم في الأصول إلى علماء الكلام الأبعدين، الذين لولا هديهم لَمَا وقف الإنسان في ضلاله عند حد، ولكنهم خالفوهم في الفروع ليجمعوا بين النقيضين، ويُمسكوا الحبل من الطرفين، كما هو شأن الكثيرين في الاجتماع، وكما فعل داروين نفسه في العلم. وبعضهم رأى التخلص بالهروب ليدفع الحجة بنفس الحجة، على مبدأ مُعالجة المثل بالمثل. وهذا شأن السير وليم طمسون، المعروف باللورد كلفن أيضًا، وهو من كبار الفلاسفة الطبيعيين والرياضيين. فزعم أن جراثيم الأحياء لم تتولد في الأرض، وإنما أتتنا من بعض الأجرام محمولةً على بعض النيازك. وكأن لسان حاله يقول للذين يشكُّون ويستغربون نحن في الغرابة سواء، والذي لا يُصدق فليذهب يُحقق.
وأما الذين وقفوا على أرضهم، كالبلايا رءوسها في الولايا، لا يتحولون عنها ولا يُثبتون، وهم مع ذلك يُكابرون ويتفلسفون، كهكسلي وهكل وبخنر ومن تعلَّق بزمكاهم، فلا شك أنهم من طينة القذى الذي رسب في قارورة الخلق بعد توزيع النفوس — وما من قاعدة إلا ولها شواذ — فأنكروا على سواهم ما هم خالون منه بحكم الضرورة، وبنَوا على الأقلية الشاذة حكمًا أطلقوه على الجميع.
والظاهر أن العلم لا تهوله صعوبة، ولا تصرفه غرابة، فالإنسان الذي لم تسعه الأرض على سعتها وصغره ما زال من أول خلقه يتطاول إلى الأفلاك، كأنه شاعرٌ أن أصله من العُلا، لعله يصنع له أجنحةً يطير بها إليها، أو مراكب يركب بها الهواء، كما يركب الماء، فيسافر عليها، وينتقل بين الأجرام كما ينتقل في القارات والمدن، ولكن ما كل مُستطاب هين، «ولا بد دون الشهد من إبر النحل»، وحلاوة استرداد الصحة تُنغصها مرارة تجرُّع الدواء. فما كاد يتحقق له حلم السفر في الفضاء، ويتعرض للغرق في أوقيانوس الهواء، كما هو يغرق اليوم في مُحيط الماء، حتى بدت له صعوبات الحدود كأنها سد الإسكندر، إن وصل إليه فلا يستطيع أن يتعداه، فالهواء لا يتجاوز حدًّا محدودًا، وهو لا يعيش بلا هواء، وإن عرف كيف يذخره لحاجته، فأي هواء يركب غير هذا الهواء لقطع المسافات، ومقاومة الثقل الذي يجذبه إلى الوراء، إلى أن يقع في جوٍّ يدفعه ناموس جذبه إلى الأمام أو إلى العلاء؟
ولكن الأمل زاد الإنسان في دنياه، ولولاه لأحجم عن كل عمل فيه مشقة، وقد علمته مُكتشفات العلم ومُخترعات الصناعة ألا يجزم بمُمتنع ولا يستسلم لمُستحيل، فأخذ يبحث ليعلم أي الأجرام يقصد أولًا، فوجد المريخ أقربها منالًا، ووجده كذلك أشبهها بطبيعة أرضه، فوجد فيه المياه والثلوج، والليالي والأيام، والسنين والفصول، والمروج الخضراء، ولكنه لم يتأكد فيه وجود الإنسان، حتى ولا الحيوان البري، وكأنه سُرَّ من ذلك؛ لأنه يسهل عليه الفتح والاستيطان، فيخلو له الجو، ويستعمر جِرمًا كبيرًا لا يُنازعه فيه مُنازع، وأول ما افتكر حينئذٍ أن يؤلف الشركات لاستثمار تلك المجاهل الشاسعة وللمُضاربة بها.