المقالة السادسة والخمسون
إن الناظر إلى مصالح الأمم والباحث في حقوق الأوطان لا يسلم حكمه من الخطل إلا إذا نظر إلى ذلك من خلال البحث في طبائع العمران ليقف على نواميسه في سيره البعيد، وعلى تقلُّباته في أطواره المختلفة. والباحث في ذلك لا يسعه إلا الإقرار بأن حركة العمران الارتقائية اليوم أسرع جدًّا منها في الماضي.
فقد كانت هذه الحركة في الماضي بطيئة للغاية، تمرُّ على العمران آلاف السنين وهو واقف لا يتغير، سواء كان في علومه أو صناعاته أو شرائعه، يتقلب فيها على غير هدًى، ويعود فيها من حيث أتى.
فكانت علوم اليونان وفلسفتهم وشرائعهم وسائر نظاماتهم حتى أوائل القرن الماضي موضوع بحث الأجيال التابعة، يستقون منها ويتخبطون فيها ويتناقلونها لينسجوا على منوالها، كأنها الغاية في الكمال والنهاية في الحسن، حتى رسخ في الأذهان أن غاية الإنسان من ارتقائه في العمران هو الوقوف عند فهم فلسفة أرسطو، وطب أبقراط، وكيمياء هرمس، وعلوم أرخميدس، وتطبيق شرائعه على شرائع تلك العصور المُتحيرة في ظلمات الجهل، والموسومة على تبايُنها بميسم الأثرة والاستبداد.
وكانت الصناعات بسيطة جدًّا، وقائمة على استخدام قوى الحيوان والقوى الطبيعية الأخرى البسيطة، كهبوب الرياح ومجاري المياه والجاذبية العامة، فكان الناس ينتقلون من بلد إلى بلد ومن قُطر إلى قُطر على الجِمال والخيل والعجلات في البر، والمراكب الشراعية في البحر. ولا يخفى كم كان يقتضي لذلك من المشقَّات والزمن؛ ممَّا كان يجعل المسافات بين الأقطار مُتباعدة جدًّا، والمصالح العامة بين الأمم مُتباينة كذلك.
وكانت الشرائع بناء على هذا الفصل، والتقاطع بين الأفراد والجموع، وبين البلدان والأقطار بسبب هذا التباعد؛ أميَلَ إلى تأييد المصالح الخاصة المُنفردة منها إلى تأييد المصالح العامة المشتركة، فكانت حقوقًا ممتازة يُنظر فيها إلى مصلحة البعض لا إلى مصلحة الجمهور، وإلى مصلحة كل بلد لا إلى مصلحة العالم. وكانت أكثر الآثار القديمة لخدمة أغراض خاصة لا آثارًا ذات شأن في المنافع العمومية، فكانت قصور ملوك كالخورنق والسدير، ومقابر ملوك كالأهرام، ومعابد آلهة كبعلبك، بل صار الملك حقًّا خاصًّا يُجيز لصاحبه أن يصدَّ به النفع العام. وكما قامت حقوق الأفراد على هذا الأساس الواهي قامت حقوق البلدان والأوطان، وضحَّوا بذلك المنافع العمومية على مذبح المصالح الخصوصية.
وما زال الإنسان في المجتمع العمراني على هذه الحال، شرائعه لا تتغير لجهله، ومواصلاته لا تختلف، ومصالحه لا تأتلف لبُعد المسافات بين البلدان حتى أوائل القرن الماضي، فارتقت حينئذٍ علومه الطبيعية، واكتشف البخار أولًا ثم الكهربائية، ووقف على الرابطة التي تربط قوى الطبيعة بعضها ببعض، فركب البخار، وامتطى البرق، وأنطق الجماد؛ فتقاربت المسافات بين الأقطار المُتباعدة، وارتقت صناعاته جدًّا. والذي شهدناه من ذلك في النصف الأخير من القرن الماضي وفي العقد الأول من هذا القرن لم يُذكر له مثيل في مئات الأجيال بل ألوفها، حتى إن الإضاءة التي بقيت آلافًا من السنين لم تتغير، السراج الذي كان مُستعملًا على عهد الفراعنة هو نفس السراج الذي كان مُستعملًا بيننا من عهد أربعين سنة. أصبحت في هذه الآونة الأخيرة وأمرها كل يوم في شأن من التفنن والإبداع. وقِس على ذلك سائر الصناعات، وسائر وسائل الانتقال بين البُلدان بالبخار والكهرباء في البر والبحر، وفي الهواء أيضًا.
وكما أنه حصل هذا الارتقاء في العلوم والمُخترعات والصناعات حصل أيضًا في الأفكار، فتغيَّر نظر الإنسان في الشرائع والحقوق والواجبات، فعلِم عن يقينٍ أن حقوق الأفراد لا يجوز أن تبتلع في جوفها حقوق الجموع، وأن المنافع العمومية مقدَّمة على المنافع الخصوصية، وأن الشرائع التي لا يتوفر معها كل ذلك يجب أن تُمزق تمزيقًا. فضعفت سطوة الملوك، وما عهدُنا بقيام الشعب في وجه تبجُّح بعض العوائل ببعيد. وعلم أن حقوق الأمم هي فوق حقوق كل فرد مهما تعاظم، وحقوق العالم أجمع فوق حقوق كل مملكة، بل علم أيضًا أن المصالح المُختلطة اليوم يجب أن تجعل وطن الإنسان العالم كله، لا بقعةً في الأرض نشأ فيها ودبَّ عليها، وأن لا شريعة يجوز لها أن تحظر عليه هذا الحق الطبيعي المقرَّر بالعلم والمصلحة اليوم، بل علم الإنسان من كل ذلك أن الشرائع السائدة حتى اليوم موسومة بمسيم الحيف، وأنه يجوز له الانتقاض عليها دفعًا لشرها وتعميمًا لنفعها.
وقد بدت في الاجتماع البشري الراقي حركةٌ هي كل يوم في شدة لنقض القديم وتأييد الحديث. والاشتراكية التي تنتفض لذِكرها أعصاب الكثيرين اليوم لأنهم لا يفهمونها على حقيقتها، ليست إلا تمخُّض الاجتماع بهذه المبادئ الحديثة لإقامتها على أطلال القديم الذي لا بد من نقضه عاجلًا أو آجلًا، ولكنه أجل بالنسبة إلى نظام الاجتماع قريب. ولا يدري مبلغ سرعة هذه الحركة الانتقاضية الارتقائية إلا من تروَّى قليلًا في مبلغ العلوم والصنائع في ارتقائها السريع في هذا العهد الأخير. وسنن الطبيعة في الاجتماع واحدة، فهي في سرعتها دائمًا بالقلب كمربع البعد، بحيث إن الذي كان يلزم له مئات السنين بل ألوفها لأن يتغير في الماضي صار في الإمكان اليوم أن يتغير في بضع سنين.
وما حملني على هذا البيان المُوجز إلا ما رأيته من الحركة الانتقاضية الشديدة ضد مشروع تمديد قناة السويس مُقابل مبلغ تتقاضاه مصر وتنتفع به قبل انقضاء أجل الامتياز المضروب؛ أي قبل ستين سنة لا تنتفع مصر فيها بشيء. وعجبت جدًّا لما رأيت أن أكثر الباحثين في الموضوع وقفوا فيه كأنهم في الماضي لا ينظرون إلى ما نحن فيه من الحركة الارتقائية الشديدة، غير حاسبين أدنى حساب لما سينجم عنها من التغيرات الاجتماعية المهمة في المستقبل القريب. وفي نظرنا أن الستين سنة اليوم هي بمقام ستة آلاف، بل ستين ألف سنة من سِني الماضي، ستصبح فيها المواطن بالنسبة إلى العالم كالمدن بالنسبة إلى الوطن الواحد، وتُغيَّر حقوق المرور بالنظر إلى ذلك.