المقالة السابعة والخمسون
أيها الوطن العزيز
افتقدتك هذه المرة، فحسبتك وُهمت بي أني أقول باللاوطنية فحنقت عليَّ، فأردت أن تختبرني فاحتجبت عني، فقمت أبحث عنك، وقد قيل لي إنك في شاغل عني بي في التفسير والتأويل في أمر لا يحتاج إلى تفسير، حتى عثرت عليك أمس، فإذا أنت مُضطر، وقرأت لك شرحًا يُزري ﺑ «عَرف الطِّيب»، فزاد إعجابي بك، ووددت لو أني المتنبي لتكون أنت اليازجي، فلا أعدم حينئذٍ خير شارح لقولي:
كما لم يعدم المتنبي خير شارح لقوله:
مسألة الدين والوطن مبحثٌ وَعْر المسالك، ومجرد ذِكر اسمهما يُقلق الأفكار المُطمئنة، ولو أنها بحالةٍ اجتماعية لا تُحمد ولا تُوجب الاطمئنان، حتى إنه لتُسدُّ لديهما منافذ العقل، ولا تبقى سوى عواصف العواطف، مع أن المسألة بسيطة جدًّا ككل الحقائق؛ فالدين للآخرة، والوطن للدنيا، والذي يهمُّ الإنسانَ منهما في هذه الدار هو إصلاح حاله مجتمعًا. ولا يُنكر أن غرض الشارعين، كلٌّ بحسب روح عصره، كان هذا، ولا يُنكر كذلك أنهم جاءوا من أول الخليقة إلى اليوم مُتعاقبين لأجل هذا الغرض، وقد رأوا تعذُّره على من تقدَّمهم، أو اختلاف الحاجات بحسب المواطن والعصور. جاءوا متَّفِقين في الكليات مُختلفين في المُرغبات والجزئيات، ولكنهم جميعهم لم يُفلحوا بجعل العالم دينًا واحدًا ووطنًا واحدًا، فقامت الاختلافات بين الأديان والمذاهب والمواطن عراقيل في سبيل ارتقاء المجتمع. فرأى العلم أن لا سبيل إلى ذلك إلا بفصل الدين عن الدنيا أولًا، فأخذ يبثُّ تعاليمه الصادقة الحرة، والناس يدخلون فيها أفواجًا، وكلما زادت بينهم انتشارًا زادت حالهم في مجتمعهم صلاحًا، ثم رأوا أن العلم كلما انتشر قلَّل الفواصل بين الأوطان، وذكروا ما كان تخاصُمهم بسبب ذلك يجرُّ عليهم من الشقاء.
ورأوا مزايا التعاون الكلي فمالوا إليه، ورأوا أنهم كلما مالوا إليه قلَّ شقاؤهم، وكادوا يكونون سعداء. ورأوا كذلك أن الاتفاق ممكن وليس حلمًا، فلم يعُد يستهوي العقلاءَ تعليمٌ آخر في مجتمعهم سوى تعليم العلم الذي اعتبروه أنه الدين الحق الذي يستطيع إتيان هذه المعجزة التي عجز عنها سواه، وأرصدوا كل قواهم له، وعلَّقوا كل آمالهم به، وتركوا للدين الغاية الأخروية يتعلق بها من شاء، على شرط ألا يتذرع بها لمُعاكسة سواه في دنياه، كلٌّ يبثُّ تعاليمه كما يتراءى له، وإلا اشتدَّ التنازع بينهما على نفقة المجتمع المسكين إلى أن تتم الغلبة لأحدهما، ولكن كلما اشتد التنازع دان حلول أجل وقرب حلول أجل، والغلبة النهائية اليوم للعلم لا محالة.
وبالحقيقة إذا نظرنا إلى الدين والوطن نظرًا اجتماعيًّا، فإن لم نستطع أن نجعلهما وسيلة لترقية المجتمع — وكيف يمكن ذلك مع اختلاف الأديان وتفرُّق المذاهب، وهو لا يرتقي إلا بالتعاون؟ — فما الحكمة من الوقوف بهما سدًّا في سبيل كل إصلاح؟ فإذا لم نفصل الدين عن الدنيا، واتخذناه كما هو اليوم وسيلةً للشقاق، ولم تتوسع بالأوطان فصددنا بها عنا غوث المدنية بسدود التعصب، ولم نقتبس من محاسنها ما يجعلنا شركاء في العمران، مُتضامنين مُتساوين في المساعي، واستمسكنا بما يجعلنا أعداءً مُتخاذلين، ونحن لا نستطيع أن نكون إلا مُتفاضلين، فماذا تكون النتيجة على المفضولين سوى خسارة الدين والدنيا معًا؟ ولا يفعل ذلك الأتقياء العقلاء من أهل الأديان، والمُخلِصون في حب الوطن، ولا يفعله — وهم العدد الأكثر — إلا الجهلاء منهم، ولا سيَّما المُنافقون المُتاجرون بهما، الذين إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مُستهزئون.
هؤلاء هم الذين في كل أمة وزمان يتذرعون بعامل الدين والوطن، ويسطون بهما على الأغرار، ويُلصقون بهما العار فيهدمون المجتمع ويهدمون الوطن، ويهدمون الدين نفسه ليبنوا على أطلالها عروشهم إلى حين. وكم قامت أمة على أمة، ومملكة على مملكة، ومذهب على مذهب، لعلةٍ دينية أو وطنيةٍ طفيفة كان يمكن حلها لمصلحة الاجتماع على أسهل سبب، مع بقاء الدين دينًا والوطن وطنًا. وماذا يمنع اعتبار العالم كله وطن الإنسان الأكبر من اشتغال هذا الإنسان لوطنه الأصغر؟ ألا يشتغل الإنسان اليوم لوطنه وهو يشتغل لنفسه مُعتصمًا في بيته؟ نعم، إنه يشتغل لنفسه حينئذٍ أحسن، ويكون ارتقاؤه أسهل كذلك.
وقد كان الناس في الماضي لا يُدركون ذلك، فكانوا لأقل سبب يخدم أفرادًا منهم ولا يخدمهم يُمثلون بأنفسهم وبوطنهم وبالمجتمع كله، ولكن الإنسان كلما ارتقى في العلم علم مزايا الارتقاء بالسِّلم أكثر، والأمم الراقية اليوم أميل إلى التنازع العلمي والمُباراة بإتقان العمل، ولو أبرقت وأرعدت منها إلى التنازع بالحروب حتى غلب بفضل العلم على المجتمع اليوم الارتقاء بالنشوء التحولي على الانتقال بالثورات الهمجية.
هذا من الجهة الاجتماعية، ولقد أجدت أنت الكلام فيها. وأما من الجهة العلمية البحتة، فلا أعلم السبب الذي يُثير الضغائن والأحقاد إذا تراءى للبعض أن الأديان مُتحولة عن الأوهام في الماضي، وأبدى رأيه في ذلك بصراحة حتى يقوم عليه الناقمون ويصدعونه بالكثرة، ويحجُّونه بالقوة. وماذا يضرُّ ذلك باعتقادهم الخاص والمقامُ حينئذٍ يكون أفسح لهم؟ يدعون بعضهم بعضًا إلى المُزاحمة هناك على كنزٍ دائم، وهم هنا لا يُطيقون المُزاحمة على كنزٍ فانٍ.
فيا للعجب من هذه المُفارقات، استئثاريون إلى حد الجشع هنا، واشتراكيون بل إباحيون هناك! فليستبدُّوا بأموال الأمم، وليشيدوا بها المعاهد على ما يهوَون لترسيخ تعاليمهم في الأفكار، وليستدرُّوا بها المزيد، وليلوذوا إليها، وليقصدوها لقضاء مآربهم، وليحرموا المجتمع من كل ما هو باحتياجٍ شديد إليه، بشرط أن يُعلموه مع ذلك التساهل؛ حتى يستطيع سواهم أن يرفع صوته أيضًا، ويُبدي رأيه بدون أن يكون عُرضةً للمثالب والتضييق؛ حتى يعدم الصدق بين الناس ملاذًا، وينتشر الرياء، وتصير الحكمة مُداجاة ونفاقًا. وما أعجب مما تقدَّم إلا خوف الراقين منهم على الأخلاق والآداب إذا تراخت المبادئ الدينية، فلقد رُبِّينا حتى اليوم في مهدهم، واغتُذينا بلبانهم كل هذه العصور الطويلة، فهل نحن اليوم ونكاد نُبصر قليلًا أسوأ حالًا منا في الماضي؟ كلا، نحن اليوم أصلح حالًا، ومن المسئول عن البقية الباقية الفاسدة الكثيرة فينا سواهم؟