المقالة الثامنة والخمسون
مللت الخروج ولو إلى الحق، وغلبتني عوامل الرجعة ولو أنها ردة إلى الباطل، فرأيت الناس يفخرون بأجدادهم ولو أنهم بهم بئس الأحفاد، فتولَّتني السآمة من حقارة النسب، ولو زانها كرم الحسب، فقمت أبحث في كتب الحكماء لعلي أهتدي إلى شرفٍ عظاميٍّ أضمُّه إلى فخرٍ عصامي، فوجدت أني من سلالة الآلهة يوم فتنوا بأخلاط الناس فلذتُ بأجدادي، وزهوت بهم على كلِّ مخلوقٍ وضيعٍ من أبي البشر إلى الذي أبى وتكبَّر، وكان مقرُّه بهم النار وبئس المُستقر، وعلمت أن الطب ليس من موضوعات الناس كسائر صناعاتهم، بل هو صناعة سكان الأولمب، وأن أهله هنا من أهله هناك تربطهم فوق صلة العلم صلةُ الدم لفهمٍ أحقَّ بتفهُّم الداء ووصف الدواء، لا كالدعيِّ الذي يندسُّ بينهم، ثم يرميك بدائه وينسلُّ.
فعلمت أن هرمس رب البلاغة والبيان الذي تخرج من فمه سلاسل الحكمة، فتُقيِّد اللسان وتعصمه عن مواقف الخطل ومواطن الزلل؛ أشفق على البشر، فنقل إليهم من صناعة الآلهة على ما رواه القديس أكليمنضوس الإسكندري كتبًا ستة في التشريح، ومنافع الأعضاء، والطب، والجِراحة، وأمراض العين، وطبابة النساء، ضمَّنها كنوز اختباره واختبار إخوانه الأطباء في السماء؛ إذ إن كثيرين من الآلهة كانوا يحترفون هذه الصناعة الشريفة، وأشهرهم فيها بلا منازع الجرَّاح الشهير الإله «بيون»، وقد داوى كثيرين من الآلهة المُشاغبين، فشفاهم من جروحهم التي كانت تعرض لهم في خصامهم بعضهم مع بعض، ومع البشر أنفسهم، وقد ضمَّ إلى عيادته الإلاهة «ديونه» الجميلة، فكانت تُساعده في تضميد الجروح.
فالآلهة وإن كانوا معصومين من الموت إلا أنهم لم يكونوا في عصمة من المرض، بل كانوا يتألمون في حياتهم الخالدة كسائر الناس، ويقصدون الطبيب مُتسكعين مُلتمسين الشفاء منه نظيرهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، فإن «فولكان» بن «جوبيتر» من «يونون» وُلد شنيعًا جدًّا، فلما أبصرته أمه راعها ما في صورته الجاحظية من القبح، فرمت به من عالي كرسي مخاضها إلى بحر الظلمات (البحر المتوسط اليوم)، فتهشَّم، وبقي أعرج أكسح طول حياته.
و«هرقل» قصد أن يزور «أتروبوس» إحدى غزَّالات خيط الحياة في الجحيم، وكانت من غزَّالات حبال الهوى أيضًا، فاعترضه «بلوتون» في الباب، فطعنه هرقل طعنةً نجلاء أدمت كتفه اليسرى حتى أخلى له السبيل، فداواه «بيون» ببلسمه العجيب، وشفاه في الحال، ثم انتقم بعد ذلك من «هرقل»، فطعنه برمحه طعنة لولا صناعة «إسكولاب» لما نجا بها من العرج.
وفي الحرب التي نشبت بين الإغريق والترواديين زجَّ «مارس» إله الحرب نفسه بينهم، فرماه «ذيوميد» بضربة مِقلاع مُحكمة أصابت بطنه، فأخذ يصرخ من الألم كمائة ألف رجل معًا، حتى ملأ صراخه الفضاء، ثم هرع وألقى بنفسه بين يدي الجرَّاح الشهير «بيون»، فداواه بمساعدة الفتاة الجميلة «هيبة»، وشفاه.
ولم تكن الإلاهات أنفسهن أقل تحمسًا من الآلهة أنفسهم، فكنَّ يخضن معامع الحروب نظيرهم، و«فنوس» ذات الجمال الباهر لم يشفع جمالها بها لدى «ذيوميد» القاسي، فطعنها طعنة شلَّت يدها، فأدركتها «ديونه» ذات الحنان، والمُتطوعة في جمعية الصليب الأحمر الأولمبي، وضمدت جِراحها وشفتها. و«يونون» ذات الكيد الذي يُضرب به المثل، وأم النساء بذلك، خانها الهوى، فاستقبلت في ثديها الأيمن سهام قوس «هرقل»، فداواها رئيس الجرَّاحين «بيون»، وشفاها.
ولم يكونوا يُداوون العِلل الجراحية فقط في المستشفى الأولمبي، بل كانوا يُداوون الأمراض الباطنية أيضًا، وأخص الأمراض التي كانوا يُداوونها الأمراض العصبية، خصوصًا أمراض العقل. وقد كان «باكوس» إله الكرمة، وسيد المُصابين بهذيان السكارى، من أعاظم مشاهير المجانين، وقد عرض له وهو في «دلفوس» نوبة جنون، فتهيَّأ له أن يبلع المسافات بلعًا، فأخذ يطوف في العالم وهو يعدو عدوًا سريعًا، فالتقى باثنتين من أخواته فأمسكتاه، وكأنه وقع بهما في شرَكِ النخاسين، ولكن «جوبيتر» أبا الآلهة الشفوق رأف به، وأعاد له العضو المفقود وشفاه.
وهرقل سيد المُشاغبين جُنَّ لكثرة ما قاسى من المشقَّات في وقائعه الكثيرة، وفي نوبة من نُوَب جنونه المُطبق ألقى بأولاده من وصيفته «مغار» في النار، ولكن جنونه لم يطُل به، بل انقلب إلى نُوَب صرع، وقد شفاه من إحداهن مرة المدعو «أنتيسير»؛ إذ سقاه مقادير كبيرة من الخربق الأسود، ولكن نُوَب الصرع عاودته بعد ذلك، ولم يُشفَ منها تمامًا إلا بعد أن أكل مخ الطير المعروف بالسماني بناءً على إشارة صديقه «يولاس»، أول واضع لطريقة علاج الأعضاء بالأعضاء المُماثلة المعروفة ﺑ «الأوبوثرابية» اليوم.
و«سرس» إلاهة الحصاد كان بها وسواسٌ سوداوي شديد، فكانت تجلس دائمًا إلى حجر مُقطبة الوجه، وبينا هي على هذه الحالة من اليأس التقت بها عجوزٌ تُدعى «بوبو»، فوقفت ترقص أمامها رقصًا جمع إلى براعة الإفرنجيات خلاعة المصريات، حتى أضحكتها، وأزالت ما بها من العبوسة.
ولما كان الناس غير معصومين من الموت عصمة الآلهة أنفسهم، كانوا بحاجة إلى التداوي أكثر منهم، وكان منهم أطباء كثيرون، وكانوا يشترون الأدوية من هيكل الحمَّى كما يشترونها اليوم من الصيدليات. و«أونون» وصيفة «أبولون» تعلَّمت من عشيقها خواص المفردات، ووضعت أساس علم العقاقير النباتية، ولكن الناس رأوا أن علمهم هذا لا يكفي لأن يدفع المرض والموت عنهم، فلاذوا، كما لا يزالون يفعلون اليوم، بقوى ما فوق الطبيعة، يستنجدون الآلهة في أمراضهم. وكانوا يضعون كل عضو من أعضائهم، وكل وظيفة من وظائف جسمهم، تحت سلطان إله خاص؛ فقد كان عندهم إلاهة للعظم تُدعى «أوسيلاغو»، يلتجئون إليها في الكسور والخلوع والصدوع، وإله لصيانة عفة العذارى اسمه «هيمن»، وإلاهة لعِلل النساء تُدعى «منة»، وإله كثير الطرب بالموسيقى اسمه «كربيتوس» لمُداواة القراقر والرياح الباطنية!
وكان لهم أطباء مشاهير مثل «بابيس» الذي درس الطب حبًّا بأبيه ليُطيل حياته، و«كوسيت» تلميذ السنطور (وهو الخليط بين الفَرس والإنسان) «شيرون»، والذي يرجع له الفضل في رد الحياة إلى «أدونيس» الجميل عشيق «فنوس»، وقد جرحه «مارس» غيرةً منه، وقد ظهر له بصورة خنزير بري في غابات لبنان، و«بودالير» الذي ابنه هيباكون الجد الثاني للجد الثالث لبقراط.
وكانت أمراض تلك العصور الميثولوجية كثيرة الشبه بأمراضنا اليوم؛ فالنساء في ذلك الزمن كنَّ يشكون النمش كما يشكونه اليوم، مثال ذلك «فاس» أخت «عولس»، فلم يكن شيءٌ يُعزيها عن هذا المرض الذي أفقدها صفاء لون وجهها ورائع جمالها، وكان كل مُقترب من مغارة اللص «تمريوس» يُحس بمطرقة الصداع تعمل في رأسه حتى قتلته «تزت»، فأزالت المُسبب بإزالة السبب، وكانت الفصادة المُهملة اليوم فوق اللازم كثيرة الاستعمال في تلك العصور، وقد شُفي بها «بودالير» «دمثوس» ملك «قاريا» من مرض حار فيه الأطباء، فكافأه بأن زوَّجه بإحدى بناته، وبعد خمسة أجيال منها وُلد أبقراط.
«وعولس» نفسه لم يكن طبيبًا، ولكنه اقتبس من معاشرته الأطباء أمورًا كثيرةً نافعة، وقد داوى مرة «تلفوس» من جرح نبلة أصابته، فشفاه بمرهم صدأ الحديد على مبدأ: «وداوِني بالتي كانت هي الداء.» وكانوا يُداوون بهذا الصدأ أصحاب ضعف الباه، يسقونهم الخمر وقد أُطفي فيها الحديد المحمي، كما يُداوون اليوم أصحاب ضعف الدم بالأنبذة الحديدية، أما النساء العواقر فكنَّ يستشفين بالسحر وزيارة الأماكن المقدَّسة كما يفعل كثيرات اليوم.
ومن حوادث الشفاء الشهيرة في القديم شفاء «فيرون» بن «سزوستريس» ملك مصر، فإنه عمي، فوصفوا له أن يكتحل بمُستقطر كُلى امرأة لم يقربها غير رجلها، فبحثوا في كل جهة، وتجاوزوا ينابيع النيل حتى عثروا أخيرًا على ضالَّتهم، لا في شخص الملكة، بل في شخص امرأة رجل بستاني فقير. ولما شُفي الملك تزوَّج بها، ثم أحرق كثيرًا من النساء اللواتي اعتبرهن علة عماه، وهنَّ في قيد الحياة.
والأرق الذي أضنى العاشق «تريبتولم»، وكاد يقضي عليه من اليأس، شُفي منه بقُبلة من «سيرس». وبمثل هذا العلاج شفت هيلانة الجميلة «تليماك» الحزين بأن سقته نبيذًا مُضمخًّا بمعسول اللمى. و«باتوس» الأخرس حُلَّت عقدة لسانه من رؤيته لأسد غضنفر اعترضه في الطريق. ومعلوم كذلك أن «بنولبس» فقدت ذراعها، فاعتاضت عنها بذراع من عاج. و«أشيل» فقد عظم عقبه، فوضعوا له عقبًا جديدة. وإذا استقصينا البحث وجدنا أن كل الطرق الشفائية المعروفة اليوم كانت مستعملة في الطب الميثولوجي، فلا جديد على وجه الأرض.