المقالة التاسعة والخمسون
ألا قُل للذي ادعى أنه ارتقى، فما برَّ وما اتقى، إنك قد ضللت الهدى؛ فقد كان الإنسان أعز فيما مضى، فضلَّ وغوى، فذلَّ وساء مصيرًا.
فلقد كان آباؤنا غطارفة الأرض وأبطال الوغى، إذا مدُّوا بأيديهم إلى المجد استطالوا إلى العُلا، وإن حدَّثتهم نفوسهم الكبيرة اضطربت أحشاء الجحيم، فانخلع قلب «بلوتون» رب السعير هلعًا، وقلق سكان «الأولمب»، ووقع جوبيتر القدير في التفكير.
وكان الآلهة يُدانونهم ويختلطون بهم، ولهم معهم كل يوم شأن، يُطارحونهم الغرام، في الغياض والرياض، على ضفاف الأنهار، وفي ظلال الأشجار، وحول جداول الماء المُترقرق على حصباء كأنها حصى الدر، وينفرون عنهم إلى الغابات، ويظهرون لهم بمظاهر الوحوش الضارية للإيقاع بهم، أو يختبئون لهم فيها جآزر بعيون المها لأخذهم في شِراك الهوى. فإذا ملُّوهم وأرادوا الاحتجاب، تجلَّوا لهم من وراء الغيوم أصواتًا قاصفة كهزيم الرعد، أو من خلال الهشيم لسانًا مُندلعًا من نار، أو شهابًا مُنبثقًا من نور، آياتٍ بينات عذابًا لقوم وهدًى لآخرين، ولا يستنكفون أن يُمازحوهم بالكلام، ولو على لسان حمارة بلعام.
وأما اليوم فبئس ما انحطَّ إليه الإنسان، دودةٌ تدبُّ على الأرض وتسعى، منها المبدأ وإليها الرجعى، فنفرت الآلهة عنه ترفعًا إلى سماء أولمبها، واحتجبت وراء جبلها المقدس، وحجبت عنه آياتها إلا من مثل ما أُوحي به إلى ستيد الغبين، وما هو من ذلك المعدن الكريم إلا سحالة، ومن تلك الكاس المُترعة إلا ثمالة، انحط هذا الانحطاط وما درى، وبات مع ذلك فخورًا.
فزعم أنه بلغ من العلم حدًّا قصيًّا، وأنه امتلك ناصية المعجزات، وكشف أسرار الكائنات، وغرَّه أنه حدَّد بصره بالآلات المُخترعات، وترامى به بين الأجرام، فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى استدناها، وقاس ما بينها من الأبعاد كأنها منه على قاب قوسين أو أدنى، ونزل به إلى قلب الأجسام المُصمتة ففتح المُغلق، ثم استنطق الطبيعة الصامتة، فما لبثت أن تكلَّمت، وباحت له بسرِّها المكنون، ووقف على سر نشوء الأحياء، فدفعه الغرور من خلال ذلك إلى تنسُّم سر التولد، وقرأ المطبوع على صفحات الهواء بخطرات الكهرباء فأنكر المُمتنع، وقرأ ما في الضمائر من اختلاج الأفكار، وعقد النيات في القرب والبعد، فقال إني والعالم واحد. وأطنب بهذا الارتقاء، يُفاخر به السلفاء.
وما آيات علمه التي يفتخر بها اليوم إلا مما يُزدرى به إذا قِيست بآيات العصور الميثولوجية معجزات مُبتذلات بالقياس إلى تلك المعجزات؛ فقد كان في تلك العصور طبقة من الناس فوق البشر وأقرب إلى الآلهة، تتصرف بقوى الطبيعة العمياء كيفما تشاء، من دون علم وعناء. فالساحرة «سرسه» على رواية هوميروس كانت تخضع لإرادتها حركات الكواكب، وتُغير مجاري الأنهار، وتعرف خواص الحشائش السامَّة، ولم تكن مع ذلك معصومة من داء الغرام، ترتكب فيه المحرَّمات إلى الدرجة القصوى، فكأنها به أم بعض ملكاتنا المُغرمات الجانيات الشهيرات في التاريخ. فكانت تقطن إحدى الجزر وحولها أربع من الحُور الحِسان يخدمنها، وهنَّ على شاكلتها، ولم يكن بينهن رجل، فكنَّ يرقبن فيه الأقدار، وويل للذي كانت تدفعه الأمواج إلى شاطئهن. ولولا أن الإله «مرقوروس» رأف ﺑ «عولس» فزوَّده لسفره بترياقٍ يقيه من شر «سرسه» لما نجا من سحرها، بعد أن هاجت عليه البحار، وأوقعته هو ورجاله في شرَكها. ولكي تستبقيهم عندها ابتدأت بأن مسخت رجاله خنانيص، واستبقت «عولس» على نية أن تمسخه هو أيضًا، ولكنه دفع سحرها عنه وعن رجاله بترياقه، فردَّهم إلى حالتهم الأولى إلا واحدًا اسمه «غريلوس» أبى، كأنه لم يرَ فرقًا بين الإنسان والخنزير إلا في الصورة فقط.
وجوبيتر أكبر الآلهة علَّق قلبه بهوى أنتيلوب، ولكنه لم يشأ أن تكون صلته بها إلا بصورة «ساتير»، فمسخ نفسه نصف خنزير، وأولدها اثنين على صورته هذه، وكأنه رأى «أوروبا» ملَّت صور الرجال، فشاطرها قلبه الذي لم يكن يملؤه شيء — كبرميل «الأدانئيد» السائب من قعره — وهو بصورة ثور، وكان على جانب من المُجون، يحب أن يلبس لكل حالة لبوسَها، فعُلِّق ذات يوم بالفتاة «كليتوريس»، وهي ذات قوام دميم جدًّا، فطلب إليها أن يكون برغوتًا، فأبت إلا أن يكون نملة، فتم لها ما أرادت.
و«يونون» امرأة «جوبيتر» ذات الكِبر المشهور لم تكن حسنة الأخلاق كبعلها، ويوم زواجها أبطأت إحدى الحُور المدعوة «كيلوني» عن حضور حفلة العرس، فمسختها في الحال سلحفاة، وانتقمت من معشوقات بعلها، فمسخت «إيو» بقرة، ثم مسخت «كليستو» دبًّا ثاني يوم ولادتها لابنها «باكوس».
أما «باكوس» هذا فكان عنوان الظرف، فجذب قلب «أريغونه» بأن تحوَّل هو نفسه عنقود عنب. ولما مات صديقه «أمبل» حوَّل جسمه الميت إلى كَرمة حتى يتذكره دائمًا في مجلس شرابه، وتحويل الخمور من غير الكحول لاجتذاب القلوب القاسية، وامتلاك القلوب اللينة كثير في أساطير الأولين. و«أبولون» كان يحب الزهور، كما كان باكوس مُولعًا بالخمرة. فلما غضب على معشوقته «كليتيا» لفرط غيرتها حوَّلها إلى الزهرة المعروفة بالأليوثروب، أي دوار الشمس، لتبقى متَّجِهة دائمًا نحو الكوكب الذي كانت تعبده، كما أنه حوَّل «أكابثه» إلى النبات المسمَّى بهذا الاسم.
و«ديانة» الغزالة الشاردة غضبت على «أكثيون» لما فاز عليها في القنص، فحوَّلته إلى أيل. وفنوس ربة الجمال وإلاهة الحب مسخت «أنكزرتوس» حجرًا؛ لأن عينه لم تدمع، وقد مرَّت جنازة فتًى كان يهواها فأولته صدودًا. وأما «أدونيس» الذي كانت تحبه، فلما مات مسخته شقائق النعمان. و«نبتون» إله البحر تحوَّل ثورًا لكي يمتلك قلب «أرنه». و«مارس» إله الحرب غضب على الكتريون لإهماله مُراقبة رجوع «الأورور»، أي الفجر، فمسخته ديكًا حتى لا يفوته ذلك في المستقبل. و«منرفا» إلاهة الحكمة ساءها تفوُّق «أرخنة» عليها في صناعة النسج، فمسختها عنكبوتًا. وإيزيس المصرية حوَّلت الفتاة «إيفيس» يوم زواجها رجلًا نكايةً بخطيبها. وفي أساطير البوذيين أن «قادومة» امرأة «شريزة» تحوَّلت إلى أنثى قرد لكي تلد الجنس البشري، ومنها وُلد داروين وأولاده.
فيلزمنا والحالة هذه، ولا حياء في قول الحق، أن نعترف بأن هذه التحولات تفوق جدًّا كل ما يستطيعه تصوُّر دماغ أعظم عالم اليوم، نشوان بخمرة العلم، مُعجب به. وليس بين علمائنا من يجسر أن يقول إنه رأى في معمله تحولًا أو شبه تحوُّل من مثل ذلك وقع لأقل كرية من كريات الأجسام الحية. ولقد ادَّعى بعضهم أنه رأى الحياة تتولد في قارورة اختباره. وما هو بالحقيقة إلا واهم، ومن منهم اتصل أن يغلب الموت؟ وأما في العصور الميثولوجية، فقد كانوا أرقى جدًّا منا اليوم، وإحياء الموتى كان عندهم شيئًا عاديًّا مُبتذلًا ميسورًا للغاية.
وفي الحرب بين جوبيتر أبي الآلهة والجبابرة الذين أرادوا أن يصعدوا إلى السماء على جبالٍ أركموها بعضها فوق بعض، أُخذ أبو ساتورن أسيرًا وقُطع إربًا إربًا، وحُفظت قِطعه بعضها إلى بعض كما كان حيًا، فخاطها «مرقوروس» وأعاد له الحياة. كذلك فعل الجبابرة بباكوس، فأحياه جوبيتر، وفوق ذلك أعاد له العضو الضائع، وكان أخواته قد رمين به بعيدًا في تيرينيا.
ومثل ذلك حصل لبلوبس بن تنتال، وقد قطَّعه أبوه طعامًا لضيوفه، فعرف المدعوُّون بالأمر قبل الأكل، فهاجوا وماجوا، وجمعوا الأعضاء إلى بعضها إلا الكتف، فكأنها وقعت في يد من يعرف «من أين تؤكل»، إلا أن جوبيتر صنع له كتفًا من عاج، وقد أحكمت «منرفا» تركيبها به.
ولقائل: إن هذه المعجزات من صنع الآلهة، وأين منهم البشر؟ على أن التاريخ فيه كثير من حوادث إحياء الموتى بقوًى أقل من القوى الإلهية.
حُكي عن «هرقل» أنه قتل بقرًا ﻟ «بلوتون»، وبحث في دمها، واستخلص منه مادة تردُّ الحياة للأظلال التي تقطن على ضفاف نهر الستيكس في الجحيم. و«بوليد» الساحر الشهير في بلاط الملك مينوس رأى صلًّا ميتًا، أتاه صلٌّ آخر ولمسه بحشيشةٍ معلومة فأحياه، فاقتبس ذلك عنه، وأحيا به غلوقوس بن مينوس سيده، وكان قد وقع في برميل عسل وفطس. ويُحكى أيضًا عن «أغاميذ» ابنة «أوجه» ملك «أبينس» أنها تعرف بعض حشائش تُحيي بها الموتى، وكان عندهم في القديم عين تُسمَّى عين ماء الحياة، وماء الشباب أيضًا، فإذا شرب منها القائل:
وإذا به شاب غرانق، وقد صار عشاه حورًا معروفًا، وانحناء ظهره قوامًا موصوفًا، ولكنهم ما لبثوا أن اهتدوا إليها حتى ضلَّلتهم الآلهة لئلا يُشاركوهم في ملكهم.
مسكينٌ قارئ كتاب «أسرار الكون» اليوم بالقياس إلى قارئ كتاب «عجائب المخلوقات» في الماضي!