المقالة السادسة
ليس من غرضي هنا أن أتكلم على الأديان كشرائعَ مُوحاة، ولا أن أُبيِّن مزيَّة دين على آخر، ولا أن أدخل غِمار البحث في قضايا كل دين لإقرارها أو تخريجها إلى ما يُوافَق، بل أن أُبيِّن حقيقة علاقة الأديان بالعمران، وتأثيرها الحقيقي فيه من وَجْهها الاجتماعي.
إن أكثر الباحثين في هذه العلاقة ينسبون كل ما يرونه في العمران من ارتقاء وتقهقر، وسير ووقوف، وحركة وجمود؛ إلى الدين. وأكاد لا أعلم أحدًا خالف هذه القاعدة؛ فغُلاة المُعطِّلين وكبار المؤمنين والذين بيْنَ بين، كلُّهم في ذلك سواء، فيقضون لهذا الدين أو على ذاك بالنظر إلى ذلك. وهم، فيما أرى، مُخطئون باعتبار جوهر الدين، وإلا كانت النتيجة واحدة في كل الأديان وفي الدين الواحد في كل العصور. ولا يُنكَر أن الدين يؤثِّر في أخلاق الأمم التي تَدِين به، ولكن هذا التأثير إذا دقَّقنا النظر يجب أن يكون واحدًا في الجوهر؛ لأنها جميعها تصبو إلى غايةٍ واحدة، وهي إصلاح حال الإنسان في العمران، وتتذرَّع إلى ذلك بمبدأٍ واحدٍ هو الثواب والعقاب في الحياة الأخرى؛ لتحمل الإنسان على أن ينصاع إليها في الغاية الحميدة التي قصدتْها في اجتماعه. فنهَت عن المُنكَر وأمرت بالمعروف، واعتبرت المُنكَر كل ما خالَف مصلحة الاجتماع، والمعروفَ كل ما وافَق هذه المصلحة. فأمرت بإقامة القسط في المعاملات، وتخطَّته إلى وجوب الرحمة؛ فحثَّت الإنسان على الاشتراك بالمنفعة، ونهته عن الاستئثار بها، وأمرته بالعطف على البائس المسكين، ونهته عن الحَيف عليه.
ودينا التوحيد السائدان اليوم هما دين الإنجيل ودين القرآن. الأول يُعلِّمنا التساهل إلى حد أن ينسى الإنسان نفسه في مصلحة قريبه؛ أي أخيه. والثاني يجعل الفقير شريك الغني في ماله؛ إذ يفرض له عليه نصيبًا منه. وكلاهما فيهما من الحِكم الرائعة والآداب العالية ما يجعلهما في مبدئهما الاجتماعي مُطابقَين لمرامي أعظم الفلاسفة المُصلِحين الاجتماعيين اليوم. ولو جاز لي أن أُبيِّن ماهية الفرق بينهما لقلت إن الدين المسيحي يُوسِّع المجال للنظر، والمحمدي للعمل؛ أي إن الأول دين التجريد، والثاني دين المحسوس، ولكنهما يلتقيان في نقطةٍ واحدة، وهي إصلاح الإنسان في دنياه — ومن غريب المُفارقات أن أتباع الأول ساروا شوطًا بعيدًا في الحياة العملية، وأتباع الثاني وقفوا مُتقهقرين! — وهذا لا يُخالف ما قلناه فيهما، وإنما يؤيد مبدأنا من أن حقيقة الأديان لا دخل لها في العمران.
وكلاهما يدعو الناس إليه بطريقةٍ واحدةٍ سلمية؛ فالإنجيل يقول: «علِّموهم وبشِّروهم.» والقرآن يقول: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. وإذا طرأ عليهما ما خالف ذلك في بعض العصور وفي بعض المواقف، فلدواعٍ اجتماعية ليست من جوهر الدين، وكأن كلاهما في هذا الإرغام سواء. هذا هو مبدأ الدينَين الاجتماعي.
ولكن الباحث الذي يتعقَّب كلام كل من الكتابَين يجد فيهما كثيرًا من مثل قوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ بعد قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، ومثل قوله: «ما جئت لأُلقي سلامًا، بل سيفًا.» بعد قوله: «من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الأيسر.» إلى غير ذلك من المُفارقات التي لا يذهب مغزاها على العاقل ولا مكانها من القول، ولكن قد تضرُّ كثيرًا بالجاهل، وتكون عنده سببًا للتشبث السقيم، وللأخذ في سباسب الجدال العقيم، فتضرُّ بالدين وبمصلحة العمران معًا. لذلك رأى العقلاء من المؤمنين في النصرانية والإسلام وجوب رد مثل هذه القضايا المُشتبهة التي قد تلتبس على الأفهام، فتبدو مُخالفة لمصلحة الاجتماع، إلى مبدأ الدين الجوهري الذي تقدَّم ذِكره، والذي هو غرض الشارع الحقيقي، وتأويلها بحسب ذلك، حتى صار الاجتهاد أمرًا لازمًا في الدين. والحق يُقال إن رجال الدين في الإسلام قد برزوا في هذا الأمر كثيرًا في العصور الأولى، وفاقوا النصرانية فيه؛ لأن كبار أئمتهم كانوا من كبار الفلاسفة أيضًا لا في الدين، بل بمعنى الكلمة الحقيقي، حتى بلغت علوم الفلسفة التي أخذوها عن اليونان في نهضتهم الأولى أقصى مَراقيها، بخلاف النصرانية؛ فإن الفلسفة طُمست فيها على عهدها الأول، وعُدَّت من المحظورات، فيما خلا النظريات المُتعلقة باللاهوت المسيحي، وبقيت كذلك إلى عهد الانشقاق العظيم الذي حصل في النصرانية في أوائل عصور النهضة في أوروبا.
وأول من أجاز الاجتهاد في الإسلام أبو بكر بعد موت النبي في قتال أهل الردة؛ إذ كان الاعتقاد أن من تشهَّد لا يجوز قتاله على تركه شيئًا من الدين، وهذا كان رأي أكثر الصحابة. أما أبو بكر الخليفة الأول للإسلام فنظر إلى المسألة من وَجْهها السياسي، وخاف عاقبة التراخي مع العرب الذين امتنعوا عن تأدية الزكاة، فقال: «لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى الرسول لقاتلتهم على منعه.» ومضى بنفسه إلى قتالهم، وجرى الإسلام على خطته من جهة الاجتهاد كل مدة النهضة.
وممَّا تقدَّم يتضح لك أن لا فرق بين الإسلام والنصرانية في غايتهما الاجتماعية ومبدئهما في هذه الغاية، ولكن الناظر إلى العمران اليوم يجد بونًا بعيدًا بين الأمم التابعة لكل من الفريقَين، فلماذا هذا الفرق؟
الناس في نظرهم إلى الدين فريقان: فريقٌ يغلبه الهوى، فيندفع بتيَّار التشيُّع والتحمس الأعمى، فيقضي على الصبغة الدينية التي تُخالف صبغته كيفما كان حال الأقوام المُصطبِغين بها، حسنة أم رديئة. ومثل هؤلاء لا شأن لنا معهم في بحثنا هذا، وهم في مجموعهم قذًى في عين العمران، وشجًى في حَلْقه، مُعطِّلين كانوا أم مؤمنين، مُشركين أم مُوحدين، نصارى أم مسلمين، من هذا المذهب أم من تلك الشيعة، والمؤمنون منهم شرٌّ على الدين من سواهم.
وفريقٌ يبحث فيه بحث العالم الاجتماعي، ولكن قد يخونه النظر، فينظر إلى الدين في مرآة الشعوب التي تَدِين به، ومن أعراض الكلام، ويحكم على الجوهر من العرَض، ويؤيده في حكمه. هذا ما يغلب عليه ممَّا يكون قد رسخ فيه من أثر التربية الأولى؛ فإن البدائهَ التي تقوم به في الذهن تتجرَّد عن كل رويَّة (وكلامنا في أصحاب العقول الراقية). ويدلُّك على ذلك الاندهاشُ العظيم الذي يرتسم على وجهه عندما تُصادره فيها لأول مرة، خصوصًا إذا كان يعتقد فيك العلم ويتوسم بك نزاهة الغرض، كأنك ارتكبت جنايةً عقليةً ذبحت بها أمامه كل القُوى الراشدة، ثم لا يلبث أن يُطرِق مُفكرًا كأنه داخَله الريب؛ ولذلك كان الشك أول مراتب الرشد.
وقلما يَسْلم باحثٌ اجتماعي، مهما كانت مداركه راقية، من مفعول هذه التربية الأولى؛ فإنْ سَلِم منها من جهة الدين لم يَسْلم منها من جهة الوطن والسياسة التي تقتضيها مصلحة هذا الوطن، وفي اعتقاده أن الوطن دينٌ ثانٍ، وقليلٌ ما هم أولئك الذين يتملَّصون من مفاعيل هذه العوامل الثلاثة، فيجعلون دينهم الإنسانية ووطنَهم العالم أجمع.
وما دعاني إلى هذا البسط إلا ما رأيته في هذه الأيام من الحركة الشديدة في الأفكار بسبب ما جاء في كتاب اللورد كرومر من علاقة الأديان بالعمران؛ فقد تعرَّض اللورد في كلامه على المصريين وعلى الأمم الإسلامية قاطبةً لجوهر الدين الإسلامي، وجعل القرآن العقبة الكئود في سبيل ارتقائها والمسئول عن تقهقُرها.
وقد تصدَّت الجرائد الإسلامية للرد عليه. والحق يُقال إن كلا الفريقَين سلك مسلك الحرية في القول والمحقِّق في البحث، إلا أنهما لم يَسْلما مع ذلك من سلطان هذه العوامل. وفي اعتقادي أنهما حامَا حول الموضوع، وقليلٌ من تلمَّس طَرْقه من بابه. اللورد اندفع كثيرًا، فلم ينظر إلى دين القرآن إلا من خلال أولئك الذين وقفوا دونه، ووقفوا به حيث أرادوا. وهم وقفوا مُحجِمين، فلم يروا أن يجسُّوا بأصابعهم موضع الألم. وهذا الذي حمَلني على التعرُّض لهذا البحث مع ما فيه من الوعورة؛ فلعل صوتي الضعيف يكون كالشرارة، وإن أحرقت وآلمت في بعض المواقف فلا تعدم من العقلاء أنصارًا، فتكون نارها بهم نار الخليل بردًا وسلامًا على أممٍ لا ينقصهم من دينهم شيء لكي يسيروا في العمران مع الأمم المُتمدنة جنبًا لجنب، ويحفظوا للشارع مجد أثره.
واللورد كرومر من أعاظم رجال العصر وأصحاب العقول الراقية، ولصوته دويٌّ في محافل العالم المُتمدن، وهو من نادرة الرجال السياسيين، يقول ما يفتكر ولا يُماري، وهو في حكمه لم يُوارب، بل قال ما يعتقد أنه الحق الصُّراح، إلا أن ذلك كله لا يُوجِب أن يكون قوله حقًّا؛ فهو إذن أخطأ — والخطأ تسرَّب إلى حكمه من كل ما تقدَّم — حيث قال إن شريعة القرآن لا تُوافق العمران في كل عصر وإن وافَقته في بعض العصور، ونفس قوله هذا حجة عليه؛ لأن العمران لا يتسامح في شرائعه. ولو قال إن الأديان لا تُوافق مصلحة العمران لكان في قوله نظر، لا بالنظر إلى مبادئها، بل لخروج دُعاتها بها أحيانًا كثيرة عن جادتها، ووقوفهم بها في سبيله. أمَا وقد قال قوله، فالذي يصحُّ على دينٍ يصحُّ على آخر، والقضايا التي استند إليها واعتبرها من جوهر الدين كان يمكنه أن يعتبرها في الدين الإسلامي كسِواها في سائر الأديان ممَّا يمكن تجاوُزه، لولا أنه رأى استمساك رجال الدين بها، وقيامهم في وجه المُصلِحين منهم كأنها من غرض الشارع، ولذكر أن خلافهم فيها وفيما ضاهاها من المسائل الاجتماعية لأشبه شيء بالمُناقشات الدينية التي كادت تقضي على أمم النصرانية في عصور الجهل، والتي أحدثت تأثيرها السيئ في الأمم الإسلامية كما هو اليوم.
وتاريخ الاجتماع شاهدُ عدلٍ على ما نقول؛ فاليونان بلغوا من التمدن شأوًا بعيدًا، وكانوا من المُشركين بمعنى الكلمة الحقيقي؛ أي كانوا يعبدون آلهةً كثيرة، ومثلهم الرومان، وكانوا يعبدون الأصنام. وقد تقهقر الروم على عهد النصرانية حتى انحلَّت عُرى ملكهم، وقام العرب وشادوا على أنقاض دولهم ودول الأكاسرة ملكًا باذخًا، وهم حديثو العهد بالدين. ولقد كانت أوروبا في العصور الوسطى في حالةٍ سيئة جدًّا مع انتشار النصرانية فيها، إلى درجة لم يكن الناس يرون السعادة إلا بالاعتزال في الأديرة والصلاة على قارعة الطريق. ولولا الانشقاق العظيم الذي حصل فيها من قيام بعض رجال الشجاعة كلوثر وما جرَّ ذلك بعده من اضطرام نار الثورة الفرنساوية التي حطَّت من صولة الأكليروس والحكام؛ لَمَا أغنت النصرانية أممها شيئًا، ولما ارتقَوا إلى ما هم عليه الآن.
والذي أصاب النصرانية أصاب الإسلام نفسه؛ فراح فريسة مطامع الطامعين من الحكام ورجال الدين من ضعاف الأفهام وأصحاب الأغراض، وسقط الشعب في مهواة الجهل، فأخذ يتقهقر وسواه يتقدَّم، وجنى على الدين حكمُ الحاكمين عليه.
فترى ممَّا تقدَّم أن الدين نفسه ليس العقبة الحقيقية في سبيل العمران، بل رجال الدين أنفسهم، وأي برهان على ذلك أسطع من سهولة ارتقاء اليابان؟ فإنها لمَّا تحاكَّت مع أوروبا، وقام فيها عاهلٌ يفهم قيمة الارتقاء بنشر العلم، وتأييد الصناعة؛ نشطت وارتقت بسرعةٍ لا مثيل لها في التاريخ؛ وما ذلك إلا لأن الحائل دون ارتقائها كان السلطة الحاكمة، فلما زال هذا الحائل لم تُصادف الأمة عقباتٍ أخرى من رجال الدين؛ لأنهم هناك ليسوا شيئًا يُذكَر؛ لأن الدين عندهم شذرات من شرائع أهمُّها البوذية، وهي تعاليمُ أدبيةٌ اجتماعيةٌ أكثر منها دينية.
ولقد ردَّت الجرائد على هذا الطعن كلٌّ بحسب ما تراءى له أنه مُعزِّز للدين، ولكني أقول بكل أسف إنهم لم يريدوا أن ينظروا إلى الحقيقة كما هي، فلم ينظروا إلى تقهقُر العالم الإسلامي والأسباب التي دعته إلى هذا التقهقر، وهم في موقفٍ اليوم يُغبَطون عليه للمُجاهرة بالحق. نعم إن الحق يجرح، ولكن الإنسان الذي يبحث في جسمه عن محل الألم ليُداويه يُفلِح أكثر من الذي يُحاول أن يُخفيه. ولو فعلوا لخدموا الدين وخدموا أنفسهم بالتنبيه إلى مواطن العلة للنهوض من الوهدة التي سقطوا فيها بسبب جهل زعماء الدين، الذين هم وحدهم المسئولون عما جنَوا على العمران وعلى أممهم وعلى الدين نفسه بالاشتراك مع الحكام، فساقوهم بعِصيِّ المظالم عصورًا مُتطاولة، ولفتحوا أمامهم الباب واسعًا لإدخال الإصلاح بينهم ولو بثورة في قلب الأمم الإسلامية تحديًا بمن سبقهم من الأمم الأخرى، ذلك خير لهم من فنائهم بالابتلاع شيئًا فشيئًا كما هو الواقع اليوم.
فالمُنصِف لا يسعه أن يُلقي على القرآن تبِعةَ تقهقُر الأمم الإسلامية، بل على الرؤساء من رجال الدين والحكام. فإذا أرادت الأمم الإسلامية أن تُجاري الأمم المُتمدنة في ارتقائها فالقرآن لا يحُول دونها، كما أن الإنجيل لم يكن الباعث على نهضة تلك، وما عليها إلا أن تُجاريهم وتضرب الضربة الشديدة على أيدي الرؤساء عمومًا؛ لتكشف بالعلم سُجوف الجهل المسدولة على عقول الشعب.
وإني لأستغرب من جرائدنا مع ما أظهرته اليوم من الحميَّة لنصر الدين، كيف أنها لم تقُم قيامتها اللازمة لنصر رجل جهر بالحق منذ عهدٍ قريب لتطهير الدين من البدع الشائنة، ولمنع وقوع الحيف عليه، ولم يُسمَع حينئذٍ إلا صوت أولئك الذين ضربوا على يد الضارب على هذه البدع، ولم يُسمَع لهم صوتٌ اليوم كأن الدين معايش، وهي لو فعلت لنصرت الدين نصرًا مُبينًا، ومهَّدت السبيل ﻟ «لوثر» يُصلِح من عقائدها، ويدفع عن القرآن تهمًا ما أنزل الله بها من سلطان. ولعل الصوت القاسي الذي جاءهم اليوم من وراء البحار يُنبِّههم أكثر إلى هذا الفرض الواجب، فيهبُّون هبَّتهم إلى هذا الإصلاح، ويقولون ونحن نُردِّد معهم: وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.