المقالة الستون
كذب القضاة، وكذب الأطباء، وصدق المال.
برَّأ المُحلفون «ثو» قاتل مُقلق راحته، ومُثير غيرته، ومُراود امرأته، والمُتباهي بفعلته، والمُتناهي في قحته.
كذب القضاة — لا لأنهم برَّءوه — بل لأنهم فقدوا في حكمهم كل شجاعة، فلم يُصغوا إلى صوت الضمير وحكم العقل.
وكذب الأطباء، لا لنسبتهم الجريمة إلى جنونٍ طارئ عليه، بل لاعتبارهم الجنون فيه مُلازمًا.
وكذب «ثو» لأنه بعد أن ارتكب الجريمة وثاب إليه رشده جاراهم، وجبن لأنه لم يقضِ عليهم بالقضاء عليه.
ولم يصدق إلا «قاضي الحاجات» الذي يحلُّ شاش القاضي، ويعقد لسان الطبيب.
ولماذا هذا؟
لأن شرائع الإنسان تريد ذلك.
الإنسان لا يخجل من الكذب نفسه أمام نفسه، بل يخجل بالنظر إلى سواه، فإذا وجد لنفسه مخرجًا فيه لم يخجل منه. فهو يخجل من الصورة لا من الحقيقة، ومن العرَض لا من الجوهر؛ لذلك كان في كل أفعاله تحت هذا السلطان.
«ثو» ليس بالمجنون فيُعامل كالمجانين، وإلا فالناس جميعهم شركاؤه في مثل ظروفه، وهو هنا ليس بالمسئول حتى يجب عليه القصاص.
الإنسان مهما عقل، فلا ينجو من أن يكون تحت تأثير عوامل اشتداد الحاجة وتهيُّج العواطف.
إذا عضَّ الجوع إنسانًا بنابه، أو ثار به الغضب إلى الدرجة القصوى فارتكب الجناية سدًّا لجوعه وإطفاءً لغضبه، فهل يُعد مجنونًا؟
ولماذا المُسوغات التي دفعت «ثو» إلى ارتكاب جنايته لا تُنجيه من القصاص إلا إذا قضينا عليه بالجنون المُطبق؟
نظام الشرائع حكم على المُحلفين، فلم يكن في وسعهم أن يحكموا إلا بأحد أمرَين، وحكم على الأطباء فاختاروا أهون الشرَّين، وأفقدهم جميعهم الشجاعة، فكذبوا على العلم، وكذبوا على الحق.
«ثو» جنى لأنه ليس في الشرائع ما يصونه من هذا العدوان، والذين برَّءوه كذبوا لأنهم لم يجدوا فيها مخرجًا آخر لنجاته، وإن كانوا قد أظهروا كل هذا الاهتمام فالفضل للأصفر ذي الوجهَين.
فويل للفقير!
وسيخرج «ثو» من البيمارستان سليم العقل، ويُوضع تحت المُراقبة، ثم يُطلق من قيودها.
إذا كانت الشرائع حقًّا فالعقل رزيئة، وإذا كان الغِنى قوة فالفقر لا شك جناية.
•••
وأما وجوده في المارستان، فلا تضييق فيه عليه؛ لأن ثروته تضمن له كل ما يتوق إليه من الراحة.