المقالة الثانية والستون
ليس أصعب من مُصادرة المقرَّر المألوف، هذا يقول لك إنه منزَّل، وذاك يقول إنه مقرَّر بالإجماع، وقم ناضِلْ بينهما. وكل قضية من ذلك مَعقلٌ تخور دونه قوى أعظم الجيوش، فكيف بأفراد لا حول لهم سوى جرأة القول، ولا سلاح لديهم سوى رأس اليراع؟ ولكن رُبَّ قولٍ كان ألهب من شرارة الكهرباء، ورُبَّ قلمٍ كان أمضى من السيف.
قامت عليَّ قيامة الكُتاب من كل صوب لقيامي على القضاء ونظامه، ولم يقم لي حتى الآن نصير إلا في مثوى الضمائر، ولكنه لم يجسر أن يجهر بالحق عملًا بقول الشاعر:
وأما الذين نسبوا كلامي إلى الغرض فهؤلاء دعهم في ضلالهم يعمهون، فما ينالون مني غرضًا حتى يشفوا من غرضهم، أو أصاب بمرضهم. وأما الذين وجدوا أن نوري ظلمة، وأن ظلمتهم نور، فدعهم في نور ظلمتهم يتخبطون، وما ربك بظلام للعبيد. وأما الذين أتوني من طريق العقل فإني لا أُنكر عليهم ما في كلامهم الراجح من القول السديد، والاعتراض الوجيه، فهم لا ينكرون ضمنًا نقص القضاء، ولكنهم يقفون حائرين أمام الصعوبات، فهؤلاء أُعيد عليهم قول الإمام الغزالي: «لو لم يكن في ذلك إلا ما يُشكك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعًا، فإن من لم يشكَّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يُبصر بقي في العمى والحيرة.»
وهذه حُجتي لدى حضرة الفاضل المُحقق «ي. ش.» على قوله إنه لولا ما لي من المكانة — وهذا من أدبه — ولولا خوفه مما سيكون لكلامي من الأثر؛ لَمَا عُني بالرد على ما كتبت. فأنا أشكره على حسن ظنه بي، ولكن هذا الذي خافه هو الذي دفعني إلى ذلك، ولو علمت أن كلامي سيذهب بدون أثر لما خططت منه حرفًا، ولو علمت أن مكانتي هي كما يقول لكسرت من حدَّتي، ولكن جهلي بما أعلمني به عن نفسي، وعلمي بأن الاستكانة للمألوف تُوقع في الخمول والاستسلام؛ دفعاني إلى تشديد الوخز. ولولا ذلك لما اضطرَّ العقلاء في المعمورة كلها، من الأنبياء إلى الحكماء وسائر المُصلِحين، أن يلجئوا إلى العنف في الانتقاد، واستعمال السيف أحيانًا لحمل الاجتماع على السير في سبيل الارتقاء، ولو مُتثاقلًا في قيوده. أقول ذلك، لا غرورًا مني بأني بلغتُ مبلغهم، بل لشغفي بالتشبه بهم، ولو أني في سبيل ذلك أجهل فوق جهل الجاهلين.
ولكن من أين أبتدئ؟ فإن الموضوع كالتنِّين ذي الرءوس الكثيرة، ولو جاريت حضرة السائل في الاقتصار على الرد على أسئلته لقطعنا القول في أشياء مهمة، ولكان فاتنا أشياء أكثر وأهم. وما ضربتها في مقالي إلا مثلًا من أمثال، لو أردنا كلانا أن نتعقَّبها كلها للَزِمنا أن نُلازم القاضي في غرفته، والمُحامي في محفظته، والمدَّعي والمدَّعى عليه في شكواهما، والاجتماع كله في تظلُّمه.
وليس ذلك فقط، بل لو جاريته لانصرفنا عن النظر في الكليات التي هي موضوع كلامي إلى البحث في الجزئيات التي يتسع لنا فيها مجال المُغالطات، وينتهي الكلام فيها على غير نتيجة مُرضية، وهذا ليس غرضي، بل غرضي هو أن أُوجه نظر الباحث إلى أن هذا النظام الموضوع كما هو موضوع لا يفي بالغاية التي وُضع لأجلها، وليس ذلك فقط، بل إنه في جملته مُنافٍ لهذه الغاية. ولا ريب أن كثيرين سيستغربون قولي هذا لأول وهلة، ولكن استغرابهم هذا لا يلبث طويلًا حتى يتحول فيهم إلى تفكير، وهذا هو مُستصغَر الشرر المقصود لإيقاد نار الثورة في الخواطر إحداثًا للإصلاح المطلوب، فلا يمنعهم الوُجوم المُكتسب بالاعتقاد الراسخ من القيام في وجه كل نظام لا يفي بمصلحة الاجتماع مهما عزَّزته الرهبة.
فالقضاء ليس الغرض منه تشييد تلك المعاهد الفخيمة، وإحاطتها بكل ما يجعلها أمنع من عُقاب الجو على اللائذ بها، فلا يدنو منها حتى تصطكَّ ركبتاه، وينعقد لسانه، ويضطرب جنانه، فلا يعرف كيف يدخل إليها، ولا كيف يخرج منها، ولا كيف يطلب منها حقًّا، ولا كيف يدفع بها حيفًا. يرى هناك على منصَّاتهم أنصاف آلهة وحولهم كهنتهم، فلا يستطيع أن يتقرب إلى هيكل أولئك الآلهة إلا بواسطة أولئك الكهنة، حتى صار القضاء بذلك أشبه شيء بجوقةٍ دينية، مع الفرق بأن كل إنسان يستطيع أن يُصلي في المعابد بنفسه، وإن لم يضمن لنفسه الخلاص إلا بواسطة، وأما في المحاكم فالحوائل دونه كثيرة لا يقوى عليها العالم، فكيف بالجاهل؟ وينضب دونها كيس الغني، فكيف بالفقير المُعدم؟
فالقضاء أبسط من ذلك كثيرًا، ويجب أن يكون أسهل من ذلك كثيرًا، وقد يتعذر فهم هذه البساطة على أولئك الذين تعوَّدوا ألا يروا في أحنائه إلا كل تعقيد. وقد رسخت هذه القضية في الأذهان، حتى إن المُحامي لا يُسرُّ بكسب دعواه بقدر ما يُسرُّ إذا ركب فيها متن الإغراب، فخاض في كل يم، ونبش أحشاء الأرض، وحلَّق في الفضاء، وأخذ يتنقل بين الشِّعرى والجوزاء، يُناجي أحيانًا طوائف الجن وأخرى سكان السماء، وكل ذلك لكي يقول لسامعيه إن أُذني التي بجانب رأسي هي هذه. ولو قال غير ذلك فهل يتأثر القضاء، أو يرتضي الزبون؟ حتى صار علم الحقوق بفضل هذا النظام من العلوم الكلامية البحتة التي لم تنضج ولن تنضج، بعد أن كان المأثور عنها أنها من العلوم الوضعية التي نضجت وكادت تحترق.
وهذا النظام إذا أفاد — بعد مُحتكريه — طائفةً من الناس هم الأقوياء والأغنياء، فهو لا يُفيد الضعفاء والفقراء، والاجتماع معظمه مؤلَّف من هؤلاء، فكيف يطمع بعد ذلك بإقامة القسط بين الناس؟ ألا ترى أن المدَّعى عليه إذا لم يحضر أجاز هذا القانون الحكم عليه بأقصى العقوبات، وجاز للقاضي أن ينطق بمثل هذا الحكم خالي البال مُرتاح الضمير؟ وما معنى ذلك؟ معناه أنه إذا لم يعرف المدَّعى عليه كيف يدفع عن نفسه، كما يحصل كثيرًا بمُقتضى هذا النظام، أو إذا كان ضعيفًا لا نصير له، وخصوصًا إذا كان مُعدمًا لا يستطيع أن يكفي مُحاميًا، فلا حق له أن يعيش. وحضرة القاضي لا يضطرب في حكمه، وهو يتحصَّن وراء هذا القانون. ولقائلٍ يقول: إن القضاء يُسمِّي مُحاميًا يُدافع عن الفقير. ولكن نحن نعلم كم يُكلف ذلك من المشقَّات الأخرى، حتى يُسمي القضاء هذا المُحامي. وأنت تعلم أيضًا كيف أن هذا المُحامي «يُكلفت» دفاعه غير المأجور.
بل إن هذا النظام لا يفي بمصلحة الإجماع، ولا يثقل كلامي على طائفةٍ ذات شأن، أُجلُّها كأفراد، وإن أنحيت عليها كمجموع؛ فالاجتماع يشكو من نظامها مُرَّ الشكوى، بل هي قيد في رجل الاجتماع، وغلٌّ في عُنقه. ولولا ما يتسرب إلى أفرادها من مبادئ العلوم الطبيعية بالعرَض لا بالذات، لَمَا خطا الاجتماع بها خُطوة في سبيل الارتقاء، بل هي بنظامها عبءٌ ثقيل عليه، تمتص دمه ولا يستفيد منها فائدةً حقيقة. فهي كالجيوش التي بنظامها تُحرم الاجتماع من استثمار الأرض وإحياء الصناعة بأيديها، وتُحمِّله نفقاتها، وكان في الإمكان أن تكون فيه عاملةً نافعة.
ولو أردت أن أؤيد كل قضية مما أقول بأمثلةٍ أتخذها من نظام هذا القضاء كل يوم لنفد الحبر والورق، ولما وسعتني الجرائد، ولنفد صبر القُراء قبل أن ينضب هذا المَعين. فأترك الحكم فيها للذين يُعانونها كل يوم — ولا يعرف الشوقَ إلا من مُعانيه — وأكتفي بالقضاة والمُحامين أنفسهم، فليرجعوا فيها إلى ضمائرهم واختبارهم، فضلًا عما يلحق بهذا النظام من الأعراض التي أصبحت لازمة، وإغفالها يُعرض الجوهر للضياع، والتي هي في عُرف العقلاء من السخافات المُضحكة اليوم.
وأما ضربه المثل بين العلوم القانونية والعلوم الطبية، فليسمح لي حضرته بأن أدفع هذه المُقارنة؛ فالعلوم الطبية أساسها العلوم الطبيعية، التي هي في أحكامها كالعلوم الرياضية، والتذبذب هو في الاهتداء إلى أسرارها، والخطأ المُتوقف على الأفراد لا يُعتدُّ به في بحثنا، ولم أُحاسب حضرته عليه. وأما العلوم القانونية كما هي اليوم فقد أصبحت كالعلوم الكلامية، وأساسها النظر، وكأن في الإمكان أن يكون أساسها العلوم الطبيعية، ولكنها حتى اليوم لم تفعل، وهل يُنكر حضرته أن الطبيب القاضي يكون أوسع نظرًا وأرجح حكمًا من القاضي المُتشرع فقط؟ ومن يجهل اليوم حكم الأسرار الطبيعية في أفعال الإنسان الاجتماعية؟
ولقائلٍ يقول: إن الاعتراض سهل، ولكن العمل صعب، فهل لك دواء لهذا الداء؟ وجوابي على ذلك بسيطٌ فِطري. اجعلوا القضاء أبسط جدًّا مما هو، وعمِّموه أكثر كثيرًا. ما قولك لو كانت المحاكم بسيطة جدًّا، وموزَّعة في كل مدينة وفي كل قرية على نسبة أحيائها وسكانها؟ ألا يكون الفصل في الدعاوي أسرع، والنفقات خصوصًا أقل، والفائدة الاجتماعية أعظم؟
ومهما بدا هذا القول غريبًا لبعضهم فإني لا أخشى أن أقول إن المستقبل لي، أي لكلامي، ولكن هذا لا يتم حتى يتقلص ظل العلوم الكلامية وتعمَّ العلوم الطبيعية، وإن كان مثل هذا البحث لا يُفيدنا فائدةً قريبة إلا أن ما يُحدِثه من الأثر ولو صغيرًا جدًّا لا بد أن يختمر على توالي الأيام، ويفعل في العقول فعل الشرارة في الأفعال المُتجمعة، فيعلم الجميع على السواء أن الشرائع الموضوعة، والراسخ في يقين البعض أنه لا يجوز مسُّها، يجوز النظر فيها حتى قلبها رأسًا على عقب، إذا كانت غير مُلائمة لمصلحة الاجتماع. وهذا هو المقصود هنا.
روزفلت والقضاء٢
إن الذي يُعجبني من قول الرئيس روزفلت ليس تنديده بالقضاء لتمسُّك قُضاته بسخافاتٍ فنيةٍ اصطلاحية تتأخر بها الأحكام، وتضيع معها الحقوق، بل صدور ذلك من رجل في وظيفةٍ عمومية هي أعظم المراكز شأنًا. والعادة أن الذين يشغلون مثل هذه المراكز في الهيئة الاجتماعية تضرب الوظيفة على عيونهم حجابًا كثيفًا. ولكن الرئيس روزفلت ليس موظفًا كسائر الموظفين، ولا ملكًا كسائر الملوك، بل هو الرجل الاجتماعي العظيم الذي عرف أدواء الاجتماع، وكم حاول أن يجد الدواء لها، خصوصًا قيامه ضد شركات الاحتكار التي تفشَّت جدًّا في هذا العصر، ولا سيَّما في العالم الجديد. ولا يخفى أن هذه الآفة من شر الضربات الاجتماعية التي إذا لم تُتدارك قبل تفاقُم شرها جرَّت إلى ثورة، ليست الثورة الفرنساوية (وهي قيام الشعب على النبلاء) بالنسبة إليها شيئًا يُذكر؛ لانحصار تلك إذ ذاك في بقعةٍ معلومة، وأما هذه فهي قيام العمل ضد المال، فشرُّها لا ينحصر اليوم في بقعةٍ معلومة وفي قومٍ معلومين، بل سيمتدُّ لهيبه إلى كل العالم المُتمدن، ومن يعش يرَه.