المقالة الثالثة والستون
الانتحار جُبن في كل أحواله، وهو اختلال في القوى العاقلة إلى حد الجنون. فإن جاز لنا أن نأسف على مُنتحر، ونبحث في أمره بحثًا نفسانيًّا وفزيولوجيًّا لنقف على ما في قواه العقلية من الضعف وسهولة الانقياد، وما في تكوين أعصابه من الوهن وقبول التهييج، إلا أنه لا يجوز لنا أن نبحث فيه بحثًا يُشم منه رائحة التصويب لعمله، واستحسان العواطف الدافعة إليه؛ لئلَّا يكون ذلك مُشجعًا لكثيرين من ضعيفي العقول ومُتهيجي العواطف لاقتفاء خطته كلما أحرجتهم الحال، والمُحرجات في الاجتماع كثيرة من فقر وسقام، وحب وغرام، ولا شيء أسهل من العدوى بالقدوة، حسنةً كانت أو رديَّة.
ولولا التربية السيئة المبنية على الخيال أكثر من الحقيقة، وعلى الاستسلام للأماني والآمال أكثر من الاعتماد على العمل، وعلى اعتبار الموهوم أكثر من المحسوس؛ لَمَا فشا الانتحار في هذا التمدُّن المُضطرب لما فيه من المبادئ المُتناقضة؛ لأن الانتحار نفسه مُخالف للمبدأ الأول المُنبعثة منه الحياة، والمُتوقف عليه حفظها، ألا وهو الألفة وحب الذات.
فالإنسان من يوم يُولَد إلى أن يموت تتنازعه عوامل التربية المختلفة، من بيتيَّة ومدرسية واجتماعية، وفيها كثير من التناقض أدبيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا؛ مما يجعل حياته محفوفة بالمصاعب. فينشأ بسبب ذلك غير مُستقل في أحكام عقله، مُتهيجًا في أعصابه، قليلَ الاعتماد على نفسه، سريعَ الانقياد لمن يتوهم أنهم أرقى منه. فإذا رآنا نتأسف على مُنتحر، ولا نشجب عمله في آنٍ واحد كما هو الواجب، نكون كأننا قد دفعناه خطوة بل خطوات للاقتداء به.
ولذلك كانت حوادثُ الانتحار تزداد على ما تقدَّم، وكما اقتبسناها من التمدُّن الحديث، وهو تمدُّن في طور الانتقال، حيث يشتد الخطر خصوصًا بقراءة كتب المُجون المُتداولة بيننا، والتي أكثرها من وضع القصاصين الفرنساويين في النصف الأول من القرن الماضي وما قبله؛ لشدة ما فيها من تجسيم الخيال إلى حد التناهي في ترهيل العواطف، وإنزال الوهم منزلة الحقيقة؛ ولذلك كانت قراءة مثل هذه الكتب من شر العوامل في تربية الأحداث، وفي التأثير على كل من ليست أحكامه الذاتية قوية فيه. والمطلوب من الجرائد أن تُبين بأجلى بيان قبحَ هذه الأعمال؛ لإماتة مثل هذه العواطف المرَضية الباعثة عليها، لا أن تكون سببًا لإنمائها.
فالرجولة الحقيقية تقضي على كل إنسان أن يقف أمام كل المصاعب كالطود الراسخ، يدفعها بما في الإمكان، ولا يهتزُّ لها حتى تصرعه قوةً واقتدارًا، وإلا فهو نذل وجبان؛ فالشجاعة الحقيقية ليست بالانتحار، بل بالصبر على الكوارث.
ومن حسنات النصرانية أنها تَحرم المُنتحر من التمتع بحق الدفن الديني، ولا شك أن ذلك كان له أثرٌ حسن في النفوس لمَّا كان الدين في سطوته الأولى.
ولولا أنه ورد في مقالة الأخبار اليوم «حب الرجال للرجال» في بعض كلامها ما قد يُحبب هذا الأمر لقِصار العقول، الذين يؤثِّر فيهم كلام سواهم؛ لاعتبرتها إلمامًا بشيء من المباحث البسيكولوجية والسوسولوجية التي تتناول البحث في العواطف وقوى العقل بحسب أحوالنا الاجتماعية، ولما أتيت على هذا البيان الوجيز مُوضحًا أن الانتحار ليس فيه شيء من رجحان العقل ولا نبل العواطف، ولا فيه شيء من الشجاعة التي يُفتخر بها بين الأقران في الاجتماع؛ إنذارًا للمُترشحين الذين قد يستهويهم الكلام الذي هو على ضد ذلك، فيقعون في مثل هذا العمل المشجوب في كل شرع.