المقالة الرابعة والستون
الإنسان لولا الجهل لما وقفت به مطامعه القريبة الخاسرة، وأضاعت عليه غاياته البعيدة الرابحة.
مطامع الإنسان القريبة هي مطامع الحيوان الذي يستخلص قوته بأنيابه من فم سواه، أو يأوي إلى مغارة لا يُزاحمه فيها سواه، أو هي مطامع الإنسان الهمجي الذي يسعى لغذائه مُنفردًا، فيقضي نهاره جائعًا هالعًا، ويبيت ليله خائفًا حاذرًا، أو هي أسرةٌ تتقي أسرة، أو قبيلةٌ تُناهض قبيلة، أو قومٌ يُهاجمون قومًا، أو وطنٌ يقوم على وطن. وغايات الإنسان البعيدة تُناصر الإنسان في كل مكان، كأنه أسرةٌ واحدة.
فلو عرف الإنسان أن تناصُره هذا يُوفر له القوت والكساء والمَبيت، بحيث يكون آمنًا على مُقومات حياته؛ لَمَا هجر الراحة إلى العناء، والسعادة الحقيقية إلى الشقاء.
على أن الإنسان من الحيوانات التي لا تستطيع أن تعيش إلا جماعات، فتألف أولًا جماعاتٍ نبتت في أرض، أو انشقَّت من صلب. وهو أرقى الحيوانات تحصيلًا من الاختبار، فرأى نفسه أنه أثرى بسعة الأرض، وتقوَّى بالتناصر، فقام يكتسح البُلدان، ويضم إليه الأقوام يدمجها فيه ليزيد ثراءً وقوة. ولقد مضى عليه ملايينُ ملايين من السنين قبل أن وصل إلى حالته اليوم.
ولكن الإنسان في كل أطوار ارتقائه في اجتماعه لم يسِر سيرًا حثيثًا، بل اعترضته حوائل كانت تقف به تارة، وتتقهقر به أخرى، فسار مُتذبذبًا، وسيسير كذلك زمانًا طويلًا قبل الوصول إلى غايته تلك.
وأهم هذه الحوائل مطامعه القريبة؛ لجهله وقِصر نظره، فقام المُصلِح الاجتماعي ووضع له الشرائع تسدُّ مسدَّ هذا النقص، ولكن الإنسان لا يحول عن تلك المطامع مهما كان شأنه، فاستبدَّ الوازع بهذه الشرائع، وقلبها إلى غرضه، فصار من الضروري إيجاد لجام لكبح جِماح الحكام.
فقام المُصلِح الديني زمانًا طويلًا قبل الشارعين المعروفين، وقد كان الناس يجدون في كل شيء إلهًا لا يُدركونه، ولكنهم يخافونه، ووضع الشرائع الإلهية، وملأها بالتقريع والإرشاد، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والإنسان مفتون بنفسه، لا يخلد فيها إلا إلى الخلود، لعل الحكام يرهبون فيرجعون عن ظلمهم.
شرائع اجتماعية أو دينيةٌ بائدة أو باديةٌ قديمة أو حاضرة، غرضها واحدٌ نبيل، وهو إصلاح حال الإنسان في العمران، وواضعوها من أنبل المُصلِحين غاية.
ولكن الإنسان الذي حارب آلهته في القديم لم يكن ليعجز عن أن يستخدم الآلهة أنفسهم لغرضه، فقام رؤساء الأديان يسطون بها على الحكام والناس، لا لمصلحة الناس، بل لمصلحتهم، ودامت الحرب سجالًا بين الحكام ورؤساء الأديان، يتراوحون الفوز، يختلفون تارة ويتفقون أخرى على ظهر الإنسان حتى اليوم.
المُصلِح الاجتماعي والمُصلِح الإلهي كلاهما قصدا بشرائعهما أن يضعا في يد الإنسان سلاحًا لخيره ضد ظالميه، فحوَّله الحكام ورؤساء الأديان لصد هذا الخير عنه، ووقفوا به سدًّا، حتى إنهم صرفوه عن أقرب الأشياء إليه، وهو اكتسابه علمًا من اختباره، ومن يُنكر فلينظر إلى الإنسان في التاريخ، بل فلينظر إلى حال الإنسان اليوم في كل المعمورة بالنظر إلى ذلك. فحيثما كانت سطوة الحكام ورؤساء الأديان عظيمةً كان الجهل كثيرًا والعلم قليلًا، وحيثما كان العلم قليلًا كان الإنسان فاقد الحرية، قليلَ التسامح، صعبَ المُساكنة. وبالضد من ذلك تزول منه هذه العيوب، وتتوفر فيه المزايا ضدها، على قدر نصيبه من العلم الصحيح. فدين الإنسان الحق هو العلم، ومزيَّته على سائر الأديان أنه نظيرها، يعلم الإنسان ما تُعلمه الأديان، ويفوقها في أنه لا يجوز عليه ما يجوز عليها من تحكُّم الإنسان بها في الإنسان، ولا تُقيده نظيرها بزمان أو مكان؛ فالدين الحق هو العلم الصحيح.