المقالة الخامسة والستون
قام في هذه الأيام جمهور من سكان القاهرة والإسكندرية يشكون من تحكُّم أصحاب الأملاك أنهم يتقاضونهم أجورًا فاحشةً حق سكنهم، ولم يقصدوا بذلك سوى مُظاهرة بسيطة ليس فيها شيءٌ بعدُ من الاعتصاب الحقيقي، وإنما هي خطوةٌ كبرى نحوه لعل الحكومة تتنبَّه، وتستعمل حقها الطبيعي المشروع، وتتداخل في هذه المسألة وغيرها من المسائل الأخرى الاجتماعية الحيوية للفصل فيها، بحيث لا يقع حيف على أحد لمصلحة الآخر.
ولقد ذكرت الجرائد ذلك بين مُصوب ومُخطئ، ومنهم من أراد أن يُثبط عزائم المُحتجين، فقال إن نجاحهم مشكوك فيه، لا لأن الشرائع عمياء، والآذان صمَّاء، بل لأن المسألة حقوقية، والمرجع فيها إلى مبدأٍ اقتصادي (اكشفوا رءوسكم) هو مبدأ العرض والطلب.
ولو قال هذا القولَ قاضٍ أو مُحامٍ لعذَرناه؛ لأن كل مؤمن مُعجَبٌ بمسجده، ولكنه قاله صحافيٌّ أقل ما يُطلب منه ألا يُضلل وهو في مقام مُرشد. والجرائد تُعتبر مِشكاة الجمهور في المسائل الاجتماعية الكبرى؛ ليعرف الجميع على السواء كيف يجب عليهم أن ينظروا فيها؛ منعًا للحيف واتقاءً للقلاقل التي قد يجرُّ ذلك إليها حرصًا على مصلحة العمران نفسه.
ومنع الحيف واتقاء القلاقل لا يكونان بالضرب على عقول الجماهير بسجف التمويه، وعلى أيديهم بعصا الظلم؛ لأن ذلك يُشبه أن يكون كذرِّ الرمال على النار، فلا تلبث أن يكون لها ضرام، بل بتعريف كل واحد في الاجتماع ما له من الحقوق فلا يتخطاها، وما عليه من الواجبات فلا يقف دونها. وقول هذا الصحافي يُعجبني أكثر من صمت أولئك الذين يعرفون جيدًا وجه الحق، ولكنهم يُحجمون عن إبداء رأيهم لئلا يخسروا رضا مشترك مالك، والصحافة عندهم ليست إلا حِرفة من الحِرف، فهي ليست عندهم سوى تجارة رابحة.
من المقرَّر البديهي الذي لا خلاف فيه أن الاجتماع لا يقوم بفرد ولا بطائفة من أفراد، بل بأفراد وطوائف من أفرادٍ يؤدون أعمالًا مختلفة على قدر اختلاف المنافع التي يحتاج إليها الاجتماع، بحيث إن كل واحد من أفراده يؤدي العمل الذي لا يستطيعه سواه، ويستفيد من الآخر المنفعة التي لا يستطيعها وحده. وقد شبَّه الطبيعيون العمران بجسمٍ حيٍّ كبيرٍ هائل، وأفرادَه بمثابة الأعضاء في هذا الجسم، فكما أن الأعضاء لازمة لسلامة الجسم الحي، كذلك الأفراد لازمة لسلامة العمران.
ومن البديهي أن من كان هذا مركزه في الجسم يكون له فيه مثل ما عليه؛ لذلك كان لكل فرد في الاجتماع حقوق على الاجتماع نفسه، كما أن عليه واجباتٍ له. ومن المعلوم أن من المنافع في الاجتماع ما هو ضروريٌّ لازم لا يمكن الاستغناء عنه من غير أن يؤذي الاجتماع في أهم أركانه، ومنها ما هو غير ضروري يمكن الاستغناء عنه بدون ضرر، والحق الذي للفرد من ذلك يُسمَّى حاجيًّا في الأول، وكماليًّا في الثاني.
فالكمالي مثل التأنق في المأكل والمشرب والبذخ في لبس الوشي وسُكنى القصور، فإذا استطعت ذلك فليس لأحد عليك اعتراض، ولا يمنعك أحدٌ أن تتبرع وتهب إذا شئت، ولكن إذا أردت أن تبقى ضمن دائرة حقوقك وواجباتك، فلا سلطان لأحد عليك في أن يُجبرك على أن تتعداها، وبقيت المسألة بينك وبين سائر أفراد الاجتماع مسألة تراضٍ؛ أي مسألة «عرض وطلب».
ولكن الحاجي مثل حق الأكل والشرب والمسكن الضروري الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وإلا هُدَّ الاجتماع من أركانه، هل يجوز أن يُقال فيه مثل ذلك؟ فهل يجوز أن يُقال لطالب الرغيف ليقتات، والماء ليروى، والبيت ليأوي إليه، إن المسألة مسألة «عرض وطلب» لا بد فيها من التراضي كالتراضي على ثمن خاتم من ماس أو مطرف من خز؟
ومعلوم كذلك أن قيمة كل شيء في العمران تزداد بكثرة الزحام حول المنفعة الحاصلة من هذا الشيء؛ أي إنها تتوقف على عدد الأفراد الذين يتألف منهم الاجتماع. فرغيف الخبز تعظم قيمته إذا كثر طالبوه، وكذلك يقال في المسكن وسائر مرافق الحياة الضرورية، فهل يجوز والحالة هذه أن تنصرف المنفعة من هذا الشيء إلى مصلحة طائفة من طوائف الاجتماع على حساب الغير، مع معرفتنا أن هذا الغير هو المُقوم لقيمة هذه المنفعة، حتى يجوز أن يُقال إن حقه من هذه المنفعة لا يقلُّ عن حق صاحب الشيء نفسه؟ وإذا صح له هذا الحق جاز له صرف المنفعة إلى مصلحته، كما يجوز لصاحب الشيء صرفها إلى مصلحته أيضًا؛ ولذلك كان من وظيفة الوازع القيِّم على مصلحة العمران أن يُراعي في المنفعة مع ذلك ظروف الزمان والمكان أيضًا لتعديلها لمصلحة الاثنين، وإلا وقع الاجتماع في الفوضى.
لأن في الاجتماع ناموسًا هو ناموس التنازع، يحمل كل واحد فيه بما فيه من حب المحافظة على الذات على أن يجدَّ ويكدَّ بكل ما له من القوى للحصول على أحسن نصيب من هذه المنافع، إلا أن هذا الناموس الذي هو من أركان القوى الاجتماعية اللازمة لارتقاء الاجتماع، لا يبقى نافعًا فيه إلا إذا بقي محصورًا ضمن دائرة معلومة تتفق فيها المنفعة الخاصة مع المنافع العامة، وإلا انقلب إلى الضد، وأضرَّ بالمصلحتين معًا. فلا بد إذن من مُعدَّل لهذه المنفعة لتبقى ضمن دائرة هذه الحدود؛ ولذلك كان من أول واجبات الهيئة الحاكمة التي يهمُّها أمر الهيئة المحكومة النظرُ في هذه المسألة الحيوية كلما دعت الحال إلى ذلك.
أنا لا أجهل أن هناك ناموسًا يده فوق كل يد يعدل كل شيء في العمران، وهو ناموس التكافؤ، ولكني أعلم حقَّ العلم أنه قبل أن يتم ذلك على مُوجب هذا الناموس يقع الحيف على الكثيرين، وهذا مُضرٌّ بالعمران. ومن وظيفة الوازع اتقاؤه، وهذا لا يكون بإطلاق مبدأ «العرض والطلب»، وجعله أساس كل المعاملات على حدٍّ سواء، غير فارق بين الضروريات وغير الضروريات؛ أي بين الحاجيات والكماليات.
ولقائلٍ إن الساكن مخيَّر في أن يسكن البيت الذي يُناسبه، وهذا يُساعد على هذا التعديل. وعلى ذلك أجيب بأن الشكوى ليست من ذلك فقط، بل من اغتنام أصحاب المساكن غالبًا فرص وجود السكان فيها لكي يُحرجوهم، إما بقبول الزيادة وإما بالخروج؛ لعلمهم ما عليهم في ذلك من الصعوبات، فيضطرُّون لقبول أحد الشرَّين، وإلا عرَّضوا أنفسهم لشرٍّ ثالث، وهو قضاء القانون عليهم بناء على مبدأ «العرض والطلب» المُعتبَر للمالك حقًّا مقرَّرًا.
على أن في جميع الشرائع متَّسعًا لذلك، إلا التي ضُربت بالقانون، وأكثر الحكومات حتى تلك التي نظن بأنفسنا أننا أرقى منها تهتم بالأمر. وأما نحن فنأكل الرغيف ممزوجًا بالتراب ونشارة الأخشاب، ويتقاضوننا أسعار المآكل كما يشاءون، ويتحكمون في أجور المنازل، وينصرهم القانون؛ وما ذلك إلا لأن شرائعنا صارت بهذا التحوير والتبديل نتفًا من شرائع غير ناضجة، وحكومتنا خليطًا من حكوماتٍ مُتنابذة. فنحن اليوم معهما كما في المثل القائل: «أسلم الظهر، ومات العصر.» فعيسى أنكره، ومحمد لم يعرفه. فنحن لم نبلغ فيهما مبلغ الحكومات الراقية، ولا حفظنا من شرائعنا حسناتها.
وهنا لي كلمة أُوجهها إلى المُحتجين، فأقول لهم أنتم مُحقُّون في شكواكم، وأنتم في الاجتماع أعضاءٌ لازمون، لكم عليه مثل ما له عليكم، وأنتم مظلومون أيضًا، وظالمكم حكامكم وشرائعكم، فلا تنحل عزائمكم، فقط أنصحكم أن تلوذوا في مطالبكم إلى جانب الحكمة، حتى إذا كثر عددكم واشتد تضامنكم، ولم يُنصفكم الذين يجب عليهم أن يهمَّهم أمركم؛ كان لصوتكم صدًى فوق كل صوت، وليدكم مدًى فوق كل يد.