المقالة السابعة والستون
متى عرف الإنسان في الاجتماع واجباته كما يعرف حقوقه قلَّت الشرور من بني البشر.
ومتى فهم الإنسان جيدًا معنى قوله: «حب قريبك كنفسك.» عرف غرض الشارع الاجتماعي، ونال أجر عمله، إن لم يكن في الدارَين ففي هذه الدار أولًا.
ومتى عمل بهذه القاعدة الذهبية: «وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم.» علم أن الاجتماع لا يُرجى صلاحه إلا بالعدل في التعاون.
ومتى فهمنا أن الاجتماع لا يقوم إلا بأفراده، علمنا أن حق الفرد على الكل مثل حق الكل عليه.
ومتى علمنا أن هذه الحقوق طبيعيةٌ لا وضعية، علمنا أنه لا يمكن الإخلال بها حتى يختلَّ نظام الاجتماع نفسه، وعلمنا أن كل ما نصنعه في الاجتماع من حسنٍ نُثاب له، وأن كل ما نأتيه من قبيحٍ نُعاقب عليه، لا بالشرائع الوضعية، بل بالشرائع الاجتماعية الطبيعية نفسها.
فإن أصلحنا حال الفقير دفعنا عنا شرور الجنايات، وشرور الأوبئة من فساد أخلاقه، وفساد معيشته بقذارته.
وإن اعتنينا بالمريض دفعنا شرور الأمراض وانتشارها بيننا وتأصُّلها فينا، فما نفعله مع كل واحد في الاجتماع يجب أن نفعله حرصًا على مصلحتنا، ومصلحة الاجتماع نفسه التي هي مصلحتنا أيضًا، وما نطلبه منه يجب أن نطلبه كذلك.
فلا استرحام إذن ولا تمنين.
وما دفعني إلى هذا القول إلا ذهولنا عن هذا المبدأ الذي تؤيده نواميس الاجتماع، وآراء المُصلِحين، والشرائع الدينية نفسها.
هذا الذهول منا واقع في كل أعمالنا، كما تدل عليه شرائعنا المدنية، ولو أقرَّها الإجماع فالإجماع لا يُكسبها متانةً ما دام هو نفسه عمل عقل مُتعدد في رءوسٍ كثيرة، ليس للكثرة فيه مزيَّة على العقل الواحد.
وكما يدل عليه أيضًا سلوكنا نحن أنفسنا في أكثر مطالبنا، وخصوصًا سلوكنا اليوم في مطالب المُستأجرين وسلوك اللجنة نفسها المُدافعة عن حقوقهم.
وكأني بالجميع رأوا تراكُم الصعوبات من حوائل النظامات ومجرى الأفكار، فقاموا يستلينون القاسي من الشرائع بالاستعطاف، ويُنبهون الغافل من الحكام بالاسترحام، كما فعلت اللجنة في عريضتها إلى الحكومة، وكما فعل مُكاتب البصير نفسه؛ فإنه بعد أن نصر المُستأجرين رأى كل هذه الحوائل، فقام يطلب إلى الحكومة أن ترأف بهم كما يرأف الله بعباده. وأخشى أن تُعول الحكومة على هذا الهز بالحرف فتكون النتيجة سلبًا، وليس لهم هنا عزاء كما لهم هناك في الحياة الأخرى.
فأردت أن أُنبه هنا إلى أن مطالب الاجتماع لا تدع سبيلًا للواحد أن يمنَّ فيها على الآخر، فالاجتماع كما قلت سابقًا أكبر مُرابٍ، ولكن على عكس المُرابين يردُّ كل شيء برباه، ولو تبرَّعت به عليه تبرعًا، لعل الأفكار تنصرف إلى النظر في هذه المباحث وأمثالها من وجه التضامن في الحقوق والواجبات؛ فإن ذلك أحق وأنجع.
ولأنه يُظهر حقيقة أن أكثر الناس يظنون أن مثل هذه المطالب تهجُّمٌ غير معقول، وأحلامٌ لا تُنال، ودليلنا على ذلك جريدة الأخبار نفسها، مع ميلها فيما نظن إلى نصر المُحتجين، فقامت تكتب ما يُشم منه رائحة التثبيط. ولعله الْتَوى عليها الأمر لانشغالها اليوم بأمور غير هذا العالم.
على أنه يُعجبني جدًّا ما كتبته جريدة الظاهر، ممَّا يتضح منه جليًّا أن هذه الأحلام إنما هي حقائق، وقد طمحت إليها أنظار العالم الراقي حتى صارت فيه في حكم الشرائع.
وقد بحثت في ذلك جريدةُ المقطم في مقالةٍ ضافية بحثًا اقتصاديًّا مُحكمًا تذليلًا للصعوبات، وتقريبًا للمنفعة المشتركة.
والحق يُقال إن الشر كله من تصرُّف بعض المُلاك مع المُستأجرين المُقيمين في ملكهم منذ زمان اعتمادًا على الصعوبات التي تنالهم في انتقالهم من مكان إلى آخر؛ فلذلك يختارون أخف الشرور بالبقاء على القديم أو بقبول الزيادة مُضطرين، وإلا فإن هناك ناموسًا اجتماعيًّا طبيعيًّا لا بد أن يعدل كل شيء. وإذا طالت الحال على ما هي — ويُخشى أن تطول وتشتد ما دامت الحكومة لا تُبدي ولا تُعيد — فلا بد من نزول الأجور إلى حدٍّ يفُوق حد التصور، خصوصًا بهذا التشبث من الفريقين.
ونِعم ما قام به المُحتجون من تنبيه الجمهور إلى ما له من الحقوق للمطالبة بها، ولو لم يكن الآن لمثل هذه المظاهرات سوى تمهيد العقبات الاجتماعية للمستقبل لكفى بها نفعًا، إلا إذا اشتد الفريقان، فتكون الفائدة في جانب الأقوى، ولعلهما لا يفعلان حرصًا على منافعهما المُتبادلة.