المقالة الثامنة

حول مقالتي١ بحثٌ بسيكولوجي سوسيولوجي أو أخلاقيٌّ عمراني

إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.

كنت جالسًا ذات يوم بين فريق من نخبة الأدباء، فسمعتهم يتحدثون بما جاء في «كتاب مصر الحديثة» من التعريض بدين القرآن، وما أحدثه ذلك من الثورة في الأفكار، وما ترتَّب عليها من المُناقشات في الأندية والمجالس والردود في الجرائد. ورأيت مدار بحثهم قائمًا على المسائل الخلافية التي لا ينضب البحث فيها، ولا تأتي بجدوى غير إثارة الضغائن واحتدام الخصام، واشتداد الجدال على أمورٍ لا طائل تحتها يظنُّها الباحث من جوهر الدين، وهي عند العاقل ليست منه في شيء. ورأيت أن البحث على هذه الصورة لا يزيد نار الخلاف إلا استعارًا، ويزيد الانشقاقَ بين أصحاب الأديان المختلفة، ولا يُفيد أصحاب الدين الواحد فائدةً عمرانيةً البتة. يدخلون لبحث بهوى التشيع، ويخرجون منه بنار التحمُّس، وكلٌّ يُخيَّل له أنه مُحكم العقل فيما يذهب إليه، وأنه على هدًى وسواه في ضلالٍ مُبين، وما منهم من يشك فيما يقول، ولا يذكر أنه إنما شبَّ على هذا الدين أو ذاك المذهب كرهًا لا طوعًا، طبقًا للحديث النبوي: «كل مولود يُولَد على الفطرة حتى يُعرِب عنه لسانه، فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه.»

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الحكمة الرائعة والفلسفة العالية، وكأني أشرت إلى ذلك في كلامي على التربية الأولى، وما لها من الأثر الراسخ في الذهن حتى يصير فيه من البدائه التي تفُوق طور الرويَّة، فلا تقبل تمحيصًا ولا تُطيق جدالًا.

وكأن الحقيقة بدَت لي في غير ما هم فيه يخوضون، فرأيت أن في المسألة نظرًا دقيقًا، وكأنما الكل عنه غافلون، فقلت لهم إني لا أرى رأي أحد منكم، لا رأي صاحب كتاب «مصر الحديثة»، ولا رأي كل منكم على اختلاف مَنازعكم الدينية؛ فالدين في نظري لا علاقة له رأسًا بالعمران من حيث تأثيره في ارتقائه ووقوفه وتقهقُره، أو هو تأثيره واحد فيه؛ لأن كل الأديان أصولها واحدة في كل الأمم، وتصبو إلى غايةٍ واحدةٍ اجتماعية، وهي إصلاح أمور الإنسان في معايشه، ولا يؤثِّر فيه إلا نزعات رجاله في أحكامه الفرعية. فإذا عملوا بمُوجِب الدين، وحكَّموا العقل في تطبيق هذه الأحكام على مصلحة العمران بحسب روح كل زمان؛ لم يصدَّه ذلك عن الارتقاء.

وعزمت على الكتابة في الموضوع؛ لأني قلت في نفسي إن لم يُوجَّه تيَّار البحث في هذه المسألة الوعرة إلى هذه الجهة، فإنه يستحيل زحزحة الأفكار عن مألوفها بالسرعة اللازمة لتحقيق هذه الأمنية المنشودة، وهي ارتقاء الإنسان في العمران، وإلا فهناك تيَّارٌ آخر سَيْله جارف يسير بسرعة البرق، سوف يقضي علينا إذا كنَّا لا ننهض لمُقاومته بسرعةٍ تُحاكي سرعته، وبمعَدَّات تُحاكي معَدَّاته. وأبديت فكري هذا لكثيرين، وأكثرهم استصوبوا رأيي، ولكني رأيت بعضهم يشكُّ في النتيجة، ومنهم رجلٌ ذو علم وأدب وقف مُطرِقًا ولم يتكلم، وكأني قرأت على وجهه أنه غير واثق من عملي؛ لعِلمِه بما أنا عليه من المبادئ، وما انطوى الجمهور عليه من الانطباع لفهم الأشياء كلٌّ على هواه، فيصعب عليَّ أن أخوض لُجَّ هذا البحث وأخرج منه سليمًا من دون أن أمسَّ شعائر أصحاب دين في دينهم، وهناك الطامة الكبرى. ولما أبديت له أن كلامي سيكون على علاقة الدين بالعمران، وهذا لا يستلزم البحث إلا في جوهر الأديان، وأن النزعة العمرانية في هذا الجوهر تكاد تكون واحدة في سائرها حتى الاجتماعية منها، وأن الأحكام الفرعية في كل دين يلزم أن يُرجَع فيها إلى هذا الجوهر؛ رأيت كأني أقرأ على وجهه أكثر من ذلك، وهو اعتقاده بأن الإسلام ليس في أحكامه المرونةُ اللازمة لتطبيقها على مصلحة العمران، فتذكَّرت عند ذلك أثرَ تلك النشأة، وقلت إذا كان هذا مفعولها في ذي عقلٍ راجح، فما بالك في سواه؟ وما قلت قولي هذا إلا لاعتقادي بأنه ما من دينٍ يجوز أن يقف حائلًا في سبيل الارتقاء إذا حكَّموا العقل في أحكامه المُتعلقة بالمعاملات. ومنهم من نصحني بالعدول لئلَّا أُصادف ما لا أُحب؛ علمًا منه بأن الناس يذهبون في تأويلِ كلِّ أمرٍ مذاهب، ويُخرِجونه كما يشاءون وكما تشاء أهواؤهم، فلا يبعد أن يرموني بغير ما أقصد، ويدفعوني إلى ما أكره.

أما أنا فآفتي — إذا كان ذلك يُعد آفة — أنه متى بدَت لي حقيقةٌ تستهويني حتى لا أعود أضبط نفسي عن إبدائها، وعُذْري في ذلك أن الحقيقة لا يكفي أن تُعلَم، بل يجب أن تُقال أيضًا، وإلا بقي الناس في العمى وساءوا مصيرًا. وقلت إذا كان الاجتهاد الذي هو ركنٌ من أركان الدين الإسلامي لا يُذلِّل هذه الصعوبات، فالذنب ليس على القرآن، بل على الرؤساء الذين بيدهم الحل والربط في هذه الأحكام، وباب الاجتهاد لا يجوز أن يُقفَل مهما قال المُتقوِّلون من أنصار التقهقر ما دام الدين دينًا والعمران عمرانًا. ولا بد لي، كيف كان الأمر، من نصر القرآن إعجابًا به وبصاحبه وإن كنت خارجًا عن دينه؛ فالحقيقة أعمُّ من أن تكون ضالةَ المؤمن وحده كما يفهمون، ونصرُها واجب على كل مُنصِف.

وكيف لا يحقُّ لي الإعجاب بصاحب هذا الكتاب والناس قد بلغ إعجابهم برجلٍ مثل نابليون إلى أن عدُّوه من خوارق الطبيعة، ولو قلَّت عاطفة التُّقى لألَّهوه. والظاهر أن الناس لا يُعظِّمون إلا كل فتَّاك بهم. والفرق بين الاثنين اجتماعيًّا كالفرق بين الثريَّا والثَّرى، وهل يُقاس بالمُصلِح الحقيقي رجلٌ سفَّاح كنابوليون ضحَّى لمطامعه كل غاية اجتماعية، وبنى على أنقاض الثورة الفرنساوية الجليلة المبدأ، التي هدمها بيده بعد أن استخدمها لمقاصده، مُلكًا مُتداعيَ البنيان، لا غاية فيه إلا فخر الفتح، وتأييد المطامع الذاتية وحدها؟ وشاد قانونًا عدَّه الناس آية في المرامي الاجتماعية، وما هو، كما قلت فيه ولو كبُر على مُريديه، إلا مجموع شبهات وظنون فيما هو كائن وما يكون، على ما بين ذلك المُصلِح ونابوليون من التباين العظيم في روح العصر الذي قام كلٌّ منهما فيه. وما من أحدٍ يستطيع أن يقدُر الضرر الذي أحدثه نابليون قدْرَه بتحويله مبدأ الثورة الفرنساوية إلى خدمة أغراضه، وبضربه على يد العمران بقانونٍ كان له كالغلِّ في عنقه والقيد في رجله، حتى إذا مشى مشى به مُتثاقلًا.

وهل يُنكِر التمدن فضل دين القرآن عليه، يوم كانت الشعوب المعوَّل عليها في ذلك العهد مُنغمسة في الترف لاهيةً به عن العلم، فكان الإسلام مُحيِي رُفاته، وناشر لوائه، وحافظ كنوزه. ولولاه لربما كان قد قُضي على علوم اليونان وآدابهم وفلسفتهم، ولا أقول إنه هو الذي نقلها كلها، وإنما صانها من أيدي أولئك الذين لو بقوا وشأنهم لعبثوا بها، ولم يدَعوا شيئًا منها يصل إلينا.

وإعجابي بصاحب الشريعة المحمدية لا يقلُّ عن إعجابي بصاحب الإنجيل، وما في شريعته من الحضِّ على التساهل وحب الإنسان بعضه لبعض، ممَّا لا يمكن أن يصحَّ بدونه عمران، ولا فرق بين الشريعتَين في جوهرهما اجتماعيًّا حتى ولا دينيًّا. كيف لا وقد قال كلاهما إنهما أتيا لا لينقضا الناموس، بل لإكمال أعمال النبيَّين قبلهما؟ ولقد عرف الناس لهما هذا الفضل من الوجهة الدينية، فأقاموا لهما المعابد من مساجد وكنائس، آثارًا ناطقة بمجدهما، ولو أنصفهما العمرانيون لأقاموا لهما آثارًا مدنية (عفوًا سادتي لا تُكفِّروني، لكم دينكم ولي دين) تنطق بمآثرهما الاجتماعية، فيعرف جميع الناس على السواء فضلهما، وتزول الحوائل من بينهم، فيندفعون في العمران مُرتقين، بدلًا من أن يقوموا فيه بعضهم على بعض مُتخاذلين مُتقهقرين.

وبعد أن وطَّنت النفس على ذلك قمت وكتبت مقالتي «القرآن والعمران» مُتكلًا فيها على نفسي، حتى إذا كان هناك تبِعة أتحمَّلها وحدي، وقد تخلَّصت بذلك من تهمتَين؛ تهمة التعصب وتهمة التوكل، اللتَين يرمي البراهمة بهما أتباع الأديان السامية. فقد ذكر الدكتور «هوج» أن البراهمة قالوا له، مُندِّدين بتعصب النصارى لدينهم واضطهادهم لمُخالفيهم: «إن هذا التعصب فيهم دليل على ضيق العقل؛ لأن العاقل لا يضطهد أحدًا لدينه.» ولما أرادوا المُفاخرة قالوا له: «أنتم تجعلون كل اتكالكم على الله، وأما نحن فلا نتَّكل إلى على أنفسنا، ودينكم مصدره من شعب من أصلٍ سامي، وهذا الأصل أدنى من أصلنا، وليس عنده فكرٌ فلسفي غير مُستعار.»

والبراهمة كما في المِلل والنِّحل ينتسبون إلى رجلٍ منهم يقال له «برهام»، قد مهَّد لهم نفي النبوات أصلًا، وقرَّر استحالة ذلك في العقول بوجوه، منها أنه قال: «إن الذي يأتي به الرسول إما أن يكون معقولًا، وإما ألا يكون معقولًا؛ فإن كان معقولًا فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولًا، فلا يكون مقبولًا؛ إذ قبول ما ليس بمعقول خروجٌ عن حد الإنسانية، ودخول في طور البهيمية.»

والظاهر أني نجحت في مقالتي أكثر من نجاح البراهمة بالاتكال على أنفسهم؛ فما انتشرت في المؤيد حتى صادفت استحسان كثيرين من عقلاء الأمتَين المحمدية والمسيحية، بعضهم صرَّح بذلك على صفحات المؤيد، وبعضهم بكتبٍ خصوصية لي، وآخرون مُشافهةً في حديث معي. ولما آنست ذلك من الذين يهمُّهم أمر هذا البحث أكثر من سواهم، طلبت منهم أن يؤيدوني بكتاباتهم في الجرائد خدمة لأمتهم فأحجموا، فعلِمت أن الحرية فيهم لم تتجاوز حد الفكر، ولم تصل بهم إلى القول، وخصوصًا النشر، كأنهم يخشون سطوة الجمهور أكثر من ربهم. واعتذرت عنهم أن ذلك منهم لقلة ثقتهم في هذا الجمهور خوفًا من شرِّه، ولشدة طمعهم برحمة الله. ولولا علمي بناموس الأفعال المُتجمعة وما يترتب عليه بعد حين من الأفعال العظيمة، لقلت إني أخطأت المرمى، وإن مقالتي جاءت قبل أوانها. على أن أثرها مهما كان اليوم قليلًا فسينضج بالاختمار، كما يختمر العجين وتنضج الأثمار، ويصير مع الزمان شيئًا عظيمًا.

ولكن مقالتي لم تعدم مُنتقدًا، وهذا ما كنت أتوقَّعه؛ لعلمي أن ما من عمل حسنًا كان أو رديئًا إلا ويجد أنصارًا مُستحسنين وخصومًا مُهجِّنين؛ فالحَسناء لا تعدم ذامًّا، كما أن الفولة المُسوسة تجد كيَّالها الأعمى. فأنا لم أستغرب قيام بعضهم للرد عليَّ، ولا أنا ممَّن يكرهون الانتقاد أو يدَّعون العصمة، ولا أنا أجهل قول المثل: «من ألَّف فقد استُهدف.» وإنما الذي استغربته صرْفَ كلامي إلى غير وجهته، وتأويله على غير مفهومه، وهو بالحقيقة اجتهاد هنا إلى حد الشرود عن المقصود. والحق يُقال إن أعمال العقل غايةٌ في الغرابة، ولولا ذلك لَمَا اختلف الناس في نظرهم إلى الشيء الواحد، وإلى هذه الغرابة أُفضِّل أن أنسب اختلاف نظر الذين نظروا في كلامي على ما فيه من التعيين الواضح، لا إلى قصدٍ سيئ منهم.

ففريق من النصارى زعم أني عرَّضت بالدين المسيحي، ونشر أحدهم في جريدة الوطن مقالةً أنكر عليَّ فيها استشهادي ببعض آيات الإنجيل ناسبًا إليَّ وضعها في غير موضعها، كأني فهمتها كما يدل عليه ظاهرها غير مُعتبر المقام الذي وردت فيه. ولو أنصفني لعلِم أني ما ذكرتها إلا وأنا في مقام بيان أُظهر فيه ما في كتب الدين من كلام الاستعارة والمجاز الذي يتسع فيه مجال التخريج والتأويل؛ حثًّا على وجوب الاجتهاد في قضايا الدين كلما وُجد بينها وبين مصلحة العمران ومصلحة العلم أقلُّ اختلاف؛ لئلَّا نجني على العمران وعلى الدين نفسه معًا إذا استمسكنا بتلك القضايا استمساكًا أعمى. وبعضهم ألمع إلى ما يُشمُّ منه أني مُتحيز فيما كتبت لا ناصر حقيقة. وهؤلاء هم الذين يقرءون كل شيء كما هو في باليات قحوفهم. فليعلم الذين لا يُدركون معنى ما يُكتب أو ما يُقال أني حتى اليوم ما تحيَّزت إلا لِما اعتقدته الصواب، فأنا لم أكتب ما كتبت إلا لاعتقادي أنه الحق، ولم أجعل لعاقل سبيلًا لأن يرميني بتهمة التحيز لدين من الأديان أو لقوم من الأقوام، وما قصدت بذلك إلا خدمة مصلحة الإنسان في العمران.

ومنهم من قام يُناقشني في المُفاضلة بين الدينَين، وهو خروج عن بحثي، كما أوضحت ذلك في ديباجة مقالتي، فقام في الرد عليَّ يُظهر تحامُله على الدين المسيحي، وليس في بحثي ما يجعل له أقل مُسوِّغ لأن ينحو معي هذا النحو، فجذبني من سماء التجرد للكليات إلى أرض المُشاحنات في الجزئيات، ونصَبني في مقام رجل مسيحي أو أقول قوله، وأخذ يغرف لي من تلك الألوان ما شاء وشاء سخاؤه، وأنا من فضله أُصيب حتى امتلأت معدتي، وهو أدبٌ رائع. ولا شك أنه انقاد إلى ذلك بهوى التشيُّع وهو يقرأ مقالتي، فذهل عن مسلكي فيها، ونسي في تحمُّسه الغاية التي قصدتُها منها، وقام يضرب على هذا الوتر المضلِّل والمنفِّر، والذي يرجِّح عندي ذلك قوله: «قرأت مقال فلان (أي مقالتي) الساعة.» أراد بذلك أنه قرأها في الساعة التي بعث فيها بردِّه إلى الجريدة، فكأنه لم يتروَّها جيدًا، فما وصل إلى آخرها حتى كان قد نسي أولها حيث أقول:

ليس من غرضي هنا أن أتكلم على الأديان كشرائعَ مُوحاة، ولا أن أُبيِّن مزيَّة دين على دين، ولا أن أدخل غِمار البحث في قضايا كل دين لإقرارها أو تخريجها إلى ما يُوافَق، بل أن أُبيِّن حقيقة علاقة الأديان بالعمران من وَجْهها الاجتماعي.

ثم قارنت بين أصول الأديان، واتصلت فيها إلى نتيجةٍ اجتماعيةٍ واحدة، وبنيت عليها بحثي.

ولعله أراد بذلك أن يُجاري أكثر كُتابنا فيما اصطلحوا عليه من مثل قولهم: «ما حملني على أن أكتب في هذا الموضوع إلا إشارة من لا تسعني مُخالفته، فقمت على ما بي من المشاغل وضيق الوقت وقلة البضاعة.» إلى غير ذلك من كلام الكِبْر في التواضع؛ ليُبيِّنوا للناس فضلهم وسرعة خاطرهم. ولو تدبَّروا الأمر جيدًا لعدَلوا عن مثل هذا الكلام البارد، ولعلِموا أن الإسراع وعدم التأني لا يقِيانِهم مَلامًا إذا أخطئوا، ولا يُكسبانهم زيادة فخر إذا أصابوا، كما أن التدبر والتردد ليسا دليلًا على العِي. وأما أنا فاللهُ يشهد والناس يشهدون أني تردَّدت كثيرًا، ولولا أن فُوجئت من كل جهة، ولولا خوفي أن ينصرف الجمهور بذلك عن فهم مقالتي على حقيقتها؛ لَمَا عمدت إلى الرد واضطررت إلى هذا البيان.

ولقد أعجبني قول أحد أفاضل المسلمين في انتقاده على مُنتقدي إذ قال: «لو قال قوله هذا في مقالٍ وجَّهه إلى سواك لربما كان له فيه وجه، أمَا وقد قاله في وجهك فما وجهه فيه وأنت تُدافع عن دينه؟» قلتُ لعله كبُر عليه أني جعلت أصول دينه كأصول سواه، فاعتبرني شرَّ نصير، فدفع إليَّ كتابًا كان قد جاءني به وقال: «خذ اقرأ.» فقرأت:
اعلم أن دين الله في كل الأمم واحدٌ لا تختلف أصوله باختلاف الأمم وأحوالها وأزمانها وأمكنتها، وإنما الذي يختلف باختلاف ذلك هي الأحكام الفرعية. وذكر الآية: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ … إلخ.٢

والذي حمَلني على هذا الظن ذِكره دين البراهمة في هذا المعرض، وهو لا ينظر إلى النصرانية بأحسن من نظره إليه، فهو يأبى أن يسلِّم بأن أصول دينه كأصول دين سواه. فاعلم يا صاحبي، قبِلت أم لم تقبل، أن أصول الأديان المُختصة بالعمران واحدة حتى في الأديان الاجتماعية. قلت الأديان الاجتماعية لأنه يوجد دينٌ يجوز أن يُسمَّى كذلك ليس فيه شيء ممَّا هو مُصطلَح عليه في سائر الأديان، وأساسه الأدب والإنسانية، وبعبارةٍ أخرى الفضيلة، وهو دين بوذا الذي هو أكثر الأديان انتشارًا بعد دين المسيح؛ فإن البوذيين يبلغون ٤٥٠ مليونًا، والمسحيين ٤٧٥ مليونًا.

وهذه شذرة من تعاليم هذا الدين تُنبئك عن أصوله. جاء في المِلل والنِّحل قال: «ودون مرتبة البد (أي بُوذا) البوديسعية، ومعناه الإنسان الطالب سبيل الحق، وإنما يصل إلى تلك المرتبة بالصبر والعطية، وبالرغبة فيما يجب أن يُرغب فيه، وبالامتناع والتخلي عن الدنيا، والإعراض عن شهواتها ولذاتها، والعفَّة عن محارمها، والرحمة على جميع الخلق، والاجتناب عن الذنوب العشرة: قتل كل ذي روح، واستحلال أموال الناس، والزنا، والكذب، والنميمة، والبذاء، والشتم، وشناعة الألقاب، والسفه، والجحد لجزاء الآخرة.» انتهى. وهي كما ترى أشبه شيء بالوصايا العشر عند النصارى.

ولم تقتصر الأديان على أخذ الفضائل عن بعضها ممَّا يُعد من أصول الدين، بل أخذت أيضًا بعض العقائد الدخيلة عل الدين. فالبراهمة وهم أصحاب الفكرة، كما يقول الشهرستاني، لتمييزهم عن البوذيين أصحاب المحسوس، يُعظِّمون أمر الفكر، ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول. فالصور من المحسوسات ترد عليهم، والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضًا. فهو مورد العلمَين من العالمين. فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضة البليغة والاجتهادات المُجتهدة، حتى إذا تجرَّد الفكر عن هذا العالم تجلَّى له ذلك العالم، فربما يُخبر عن مغيَّبات الأحوال، وربما يقوى على حبس الأمطار، وربما يُوقِع الوهم على رجلٍ حي فيقتله في الحال؛ ولهذا كانت عادتهم إذا دهَمهم أمرٌ أن يجتمع أربعون رجلًا من المهذِّبين المُخلصين المتَّفِقين على رأيٍ واحد في الإصابة، فيتجلَّى لهم المهم الذي يهضمهم حمله، ويندفع عنهم البلاء المُلمُّ الذي يَكْأدهم ثِقله. انتهى. ألا ترى أن ذلك يُشبِه التصوف وحلقة الذِّكر الدخيلة على الإسلام؟

ولم ينتشر هذا الرد في المؤيد حتى قال بعضهم لمن كان معه حين اطلاعه عليه: «قل للشميل إنه يستأهل.» وكأن أقل ما أراد بذلك أني وإن كنت قد نظرت إلى الحقيقة فلم أنظر إلى طبائع القوم واستعدادهم. وقال غيره: «جدح جوين من سويق غيره.» يريد أني جنيت هذه الجناية على الدين المسيحي، فكأني جُدت من مالٍ غير مالي، فخاف على نصيبه منه، ولا مسوِّغ له على هذا الخوف مني عليه.

فكأن حضرة الفاضل كامل السويفي لم يكتفِ بأني جعلت مدار بحثي على أصول الأديان، مُتجنبًا البحث في الوحي والمُفاضلة بين دين ودين، والكلام على قضايا كل دين حتى يمكنني التوفيق بين جوهر الأديان ومصلحة العمران، كما قلت في أول مقالتي، بل أراد أن يجرَّني للبحث معه في طبائع الأديان وحقائقها، وأن يُلبسني إما قلنسوة راهب وإما عمامة شيخ (مليح بعد هالكبره جبة حمرا). ولو جارَيته للزِمني أن أجول معه جولة في قضايا كل دين، وأن نغرق كِلانا والجمهور معنا في هذا البحر اللَّاقرار له، الذي هو علم اللاهوت وعلم الكلام (ولقد أنصف العرب بتسميته بهذا الاسم)، وهذا ما لم تصْبُ نفسي إليه حتى اليوم. فلا نعلم حينئذٍ من أيِّ مَضيقٍ نركب، ولا في أيِّ لُجٍّ نخوض، ولا على أيِّ شطٍّ نحطُّ ونقع في تِيهٍ نفقد معه خيط أريانا. وهذا ليس محله في هذا المقام مقام تمهيد العقبات الحائلة بين تقارُب الأمم، وبينهم وبين ارتقائهم في العمران. وإني لأشكر لحضرة العالم المُتبحر الفاضل الجيزاوي؛ لأنه كفاني الخوض في هذا البحث، فأظهر جليًّا بمقالته البديعة التي نُشرت في المؤيد ما يصحُّ أن يُعتبر في الخلاف بين الدينَين فصل الخطاب في هذا الباب عند ذوي الألباب.

وأما استشهاده بمن ذكرهم من كبار الكُتاب الأوروباويين ليُثبت أن النصرانية أضرَّت بالاجتماع في أوروبا، فقد قلناه في مقالتنا الأولى، ولكننا لم نعتبر هذا الضرر من جوهر الدين، بل من الرؤساء من رجال الدين والحكام، كما أننا لم نعتبر تقهقُر الأمم الإسلامية إلا لهذا السبب عينه، واعتبرنا نهوض النصرانية وارتقاءها هذا الارتقاء الباهر إنما هو لنبذها العقائد التي أدخلوها على الدين وليست من جوهره، حتى صار الدين عند القسم الكبير المُتنور منهم عند المؤمن صلةَ القلب إلى الله، كما في قول شاعرنا الأديب نقولا أفندي رزق الله:

إنما الدين موعدٌ واتفاقٌ
بين هذا الورى ورب البرية

وحتى صار عند غير المؤمن موضوعَ بحثٍ اجتماعي بالنظر إلى ما في مبادئه الاجتماعية من المُوافقة للعمران. وكثيرون يُعجبون بهذه المُوافقة، فلا يجعلون البحث في حقائق الأديان سببًا للمُنازعات الاجتماعية العقيمة، تاركين لكل واحد الحريةَ في أن يعبد ربه كما يريد، ناظرين فيها إلى تلك المبادئ العمرانية التي تجعل مصلحة الإنسان القريبة في دنياه اشتراكيةً بين أفراده، وأي دين لا يعلِّم ذلك؟ وهذا الذي نظرنا إليه في أصول الأديان، فعظَّمناها تعظيمًا لم يفُقْنا فيه باحثٌ ديني مهما كان مُتحمسًا في إيمانه، فهل يجوز بعد ذلك أن يُنحى علينا بأنا غضضنا من دين لنصر آخر؟

على أن العمراني الذي يريد أن يجعل بحثه في العمران لتطبيق نواميسه على قول فلان وفلان أو دين من الأديان؛ إنما مثله كمثل الذي يُحاول أن يُطبِّق المطبوع على الموضوع، فيتسامح بما لا يجب أن يتسامح به من المطبوع، ويستمسك بما لا يجب أن يستمسك به من كل موضوع ومشروع، فيركب متن الضلال، ويَهِيم في فيافي الخيال، فينطق بما لا يفهمه سواه، ولا يفهمه هو نفسه، ويَحسب أنه أتى ببدائع الإعجاز في الاستعارة والمجاز، فيجني على ذلك المشروع من حيث يظن أنه يخدمه، ويجني على العمران نفسه.

أما نحن فننظر إلى العمران ومُرشدنا في نواميسه ذلك الكتاب البسيط المفتوح أمام كل إنسان، والذي يستطيع أن يفهمه كل واحد إذا قرأه بإمعان، ألا وهو كتاب الطبيعة، الذي هو أساس كل قياس صحيح؛ أي أساس كل منطق سليم وبيان.

على أني لا أعلم، كيف أن الدين الذي فيه مثل هاتَين الآيتين: «حِبَّ قريبَك كنفسك، وحِبَّ اللهَ فوق كل شيء.» و«كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم.» الجامعتين فيهما كل واجبات الإنسان نحو ربه ونحو قريبه؛ يجوز أن يُقال فيه مثل قول أديبنا السويفي من أنه دين شرك بالله ودين خراب في الدنيا، ولا أناقشه في اللاهوت؟ ولعل له في علم الاقتصاد نظرًا جديدًا يُخالف قولهم: «الإنسان مدنيٌّ بالطبع.» ويُعلمنا أن «التكافل في العمران غير التكافؤ في قُواه»، فتعمر حينئذٍ الدنيا عنده بالتفريق والتخاذل والاكتفاء والانفراد والاستئثار، فيتألَّف المجتمع بانفراط عقده — وما هي إلا لآلئ منثورة — ويتقدم تقدمًا سرطانيًّا مُتباريًا في مشي القهقرى، حتى يبلغ ما بلغنا إليه في هيئتنا الحاضرة من الارتقاء الدركي (وإن شئت إلا الموضة اليوم فالرقي)، الذي صارت سماؤنا فيه كسماء خيل المعري وهي تعبُّ، وصارت عقولنا فيه أضيق من دوائر جماجمنا، ومرامي نظرنا أقرب من أرانب أنوفنا منا. وهل قارئ كتب مثل هؤلاء الأساطين في العلم والأدب والفلسفة الذين ذكر لنا أسماءهم يجوز له — مع كل سعة هذا الاطلاع — أن يقف في فهم كلامهم على مثل هذا الاكتفاء؟ وما هو لعَمْري لو درى إلا مثل اكتفاء القارئ في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. على أن غرضنا هنا ليس هذا، فما باله يدفعنا للنظر في حقيقة الأديان والمُفاضلة بينهما، ولم نقصد في كل ما كتبنا إلا مصلحة العمران بالتوفيق بينها وبين أصول الأديان بما تراءى من الإمكان؟ وهل في مقالتنا الأولى غير ذلك حتى يقوم علينا المسيحيون يتَّهموننا في أننا تعرَّضنا للدين المسيحي، والمسلمون يُناقشوننا في المُفاضلة بين الدينَين؟ إنها لمُصيبة.

وقبل أن ننتهي من هذا البحث أريد أن أُجاري حضرته مُجاراةً كلَّية للوصول إلى النتيجة المُترتبة على كلامه، والتي وقف عندها. فأنا أُسلِّم له جدلًا ﺑ «أن العالم المسيحي [كما يقول] لم يرتقِ إلا بعد احتكاكه بالعرب، وأن المسيحية عثرة في سبيل الارتقاء، وأن الإسلام هو مُوجِد هذه المدنية الباهرة.» فقط يبقى عليه أن يقول لنا لماذا إذن أتباع النصرانية ساروا في مِضمار التمدن شوطًا بعيدًا، وأتباع الإسلام وقفوا مُتقهقرين؟ فإن قال إن الأسباب اجتماعية، عُدْنا إلى حيث افترقنا وكنتُ مُصيبًا. ولعله لا يقول غير هذا القول؛ لئلَّا يجني حينئذٍ جنايتَين على العمران وعلى الدين نفسه. أم هو يريد بهذه المُغالطات التمويه حتى يبقى حجاب الجهل مسدولًا على عقول الناس؛ ليبقوا كما في قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ؟ أما نحن فنميل إلى ما هو أدْعَى لمصلحة العمران من مثل قوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، يرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. وهذا ينطبق كل الانطباق على ما رمينا إليه في مقالتنا الأولى إنارة للأذهان؛ لكي يعلم الجميع على السواء إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.

ننشر هنا المقالة التي أشرنا إليها في هذا الرد، والتي نُشرت في المؤيد بتاريخ ٣٠ مارس سنة ١٩٠٨ دعمًا لمقالنا، ولو أنها ليست لنا؛ لما فيها من الفائدة في هذا الموضوع؛ حسمًا لهذه المسائل الخلافية التي يتذرَّع بها المُتنطِّعون في الأديان لإثارة الفتن بينهم. وقد نُشرت بتوقيع «محمد صادق الجيزاوي»، وهو — في عِلمنا — اسمٌ مُستعار، ولولا أننا لم نستأذن صاحبها لصرَّحنا باسمه الحقيقي، وهو من خيرة علماء المسلمين وأفاضلهم، وهذا نص هذه المقالة مع بعض حذف.

كلما خمدت زادوها سعيرًا

من أجل كرومر قامت في هذه الأيام ضجةٌ دينية بين المسلمين والنصارى في هذه البلاد؛ فالمسلمون قد فرحوا إذ ظنوا أنهم قد فازوا على كرومر بقولهم كما قال، وصَولتهم في التبشير والتنفير كما صال؛ والنصارى لم يجدوا من الذوق أن يُجادلوا في بعض ما سمعوه عن دينهم؛ لعلمهم بأن كرومر تخطَّى الحدود، وأتى بما لا يُنتظر من مثله، فأحرج صدور إخوانهم.

ولكن أحرجت هذه الضجة أيضًا صدور الذين يعتقدون أن الارتقاء إنما هو بتربية العقول، ومُزاولة الشئون الاجتماعية باستقلال أفكار، وأن الديانات كلها سواء من جهة أنها لا تضرُّ بالاجتماع إذا كانت عقول أهلها مُرتقية، كما أنها لا تنفع فيه إذا كانت عقول جماعاتها مُتدينة، وشاهدهم على ذلك أن أهل دين واحد ارتقَوا يومًا وانحطُّوا يومًا، والاعتقاد لم يُفارق قلوبهم، والعبادة لم تبرح معابدهم وبيوتهم.

هؤلاء قومٌ يُحسِنون الظن بالديانات، ولا يرونها عوائق عن التقدم والتمدن، وإنما يرون أن تشيُّع أهل كل دين منها وتحامُلهم على دين الآخرين قد أحدث ويُحدِث فظائعَ من نتائج البغضاء والنفور، فيودُّون لو ينتهي هذا التحامل والتجادل في الدين، ويقولون إذا لم يمكن قطع حبال هذا الجدل فلا ينبغي أن تبقى منصوبة إلا بأيدي فريق مخصوص لا يُمد بشيءٍ البتة من القُوى المادية، فتتنازل الأقوال والأقوال وتنتهي على لا شيءٍ الأحوال؛ لأنه لم يُعهَد أن الجدال أفاد في تغيير المذاهب، وإنما تُغيِّرها أسبابٌ أخرى لسنا في صدد تفصيلها.

ومن عرف الدكتور شبلي شميل كان ذلك حسبه أن يعرف مقصده من المقالة التي كتبها في هذا الصدد، ونشرها في المؤيد؛ أي يعرف أنه يرمي إلى تفنيد الجدل والحث على خير العمل، أما من لم يعرفه فربما ظن أنه مسيحيٌّ كتب ينتصر لدينه بطريقةٍ حبِّية.

•••

كان من جملة الذين لم يعرفوا هذا الحكيم ولا قَصْده حضرة الكاتب محمد كامل السويفي، الذي نشر يوم الخميس ردًّا على الدكتور فتذكَّرنا إذ قرأناه أن كرومر بتصدِّيه للمُفاضلة بين الدينَين إنما كان مُوقِد النار، وأن قومنا كلما خمدت هذه النار زادوها سعيرًا. فإن بعض الذين يكتبون الردود في هذا الموضوع يُقابلون كرومر بمثل ما صنع، وينسَون أنه ليس من الضروري إذا أخطأ سليم مثلًا بشتم ملة جرجس أن يُخطئ جرجس بشتم ملة سليم، وينسَون أن للدين المسيحي أهلًا هم إخواننا في لساننا ووطننا، تغيظهم لوائح التحامل على دينهم وروائح تفضيل غيره عليه.

ولولا أن كان قبيحًا عدمُ وجود من يدعو بيننا إلى أسباب الوئام، ويُنكِر عليَّ أسباب الخصام بقدر الإمكان؛ لَمَا وجدنا من اللائق أن نأتي ما نُنكِره من الخوض والمُماحكة في هذه المسائل، ولكن تلك الضرورة من الدعوة إلى الوئام هي التي حمَلتنا على تذكير حضرة الأديب كامل السويفي ببعض كلمات.

•••

رأيتُ في كلام حضرته مواضعَ كثيرةً جديرة بالأخذ والرد معه، ولكن ليس هذا من مقاصدنا، ولا ندخل فيه، وإنما نقتصر هنا على سبعة مواضع قد رأينا التذكير فيها أوْجَب، والحاجة إلى الإيضاح فيها أمسَّ وأدْعَى. جاء في عُرْض كلام الدكتور ما يفيد أن الدين المسيحي دين توحيد كالدين الإسلامي، فأنكر صاحب الرد وقال: «إن دين النصارى دين تعديد لا دين توحيد.» فاعلم أيها الأديب أن النصراني يبتدئ عقيدته بقوله: «أومن بإلهٍ واحد … إلخ» فالإله واحد عندهم كما هو عندنا. وأما ما نسمعه في صفات المسيح ابن مريم، فإنها فلسفة لا نعرفها نحن ولا يعرفونها هم، وقد حملهم عليها بعض النصوص التي هي عندهم مقدَّسة، وكل دين لا يخلو من أمور تحمل أهله على فلسفة كان في غنًى عنها لولاها.

وقد جهل أكثر كُتاب المسلمين عقيدة النصارى في الإله الواحد الذي ليس بمادة، كما جهل أكثر كُتاب النصارى عقيدة المسلمين، ولكن لظهور الصعوبة في فلسفة العقيدة النصرانية يقول النصارى: «إن في الدين شيئًا هو فوق العقل.» ويعدون ذلك من مفاخرهم في تديُّنهم، فيظنُّ المسلم أنهم يريدون بقولهم فوق العقل أنه غير معقول. وليس هذا هو المراد، بل المراد أن العقل لا يكاد يُدركه. وكان مثل هذا القول شائعًا ومعروفًا عند المسلمين أيضًا، ولكن بعض كُتابهم في هذه الأيام الجديدة قاموا يُنادون بأن الدين الإسلامي وحده دين العقل، ويُفسِّرون بأن العقل يُدرك كل شيء فيه. ولسنا ندري كيف يُدرك العقل أمور العالم الغيبي، مثل أنهار اللبن والعسل التي في الجنة، ومثل عالم الأرواح المجرَّدة وعالم الملائكة، ولا نعرف كيف يستطيع أولئك العقلاء تفسير النار التي رآها موسى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، أي عقل يُدرك حقيقة هذا النداء الذي سمعه موسى فخرَّ صعقًا؟ وأي عقل يُدرك حقيقة نفخ الله في فرج مريم كما جاء في القرآن المجيد بنص هذه الآية: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيه من رُوحِنَا.

النصراني يقول الإلهُ واحد كما يقول المسلم، ثم يقول النصراني إن عيسى كلمة الله وروح الله، وهكذا يقول المسلم أيضًا، والنصراني يقول إن مريم عذراء حملت بعيسى الذي هو روح الله وكلمة الله من غير أن يمسَّها بشر، وهكذا يقول المسلم أيضًا. فأنا أسأل إخواني المسلمين أن يُبينوا لي الفرق أولًا بين هذه التعابير، وأن يفهموها جيدًا قبل أن يُجادلوا النصارى على التعبير بالآب والابن والروح القدس، وقبل أن يسألوا عن الفلسفة التي تُبين أن هذه الكلمات الثلاث تدل على حقيقةٍ واحدة ظهرت في ثلاثة مظاهر، وما نار موسى عن القاري ببعيد.

إني لأعلم أن هذا المبحث سيستغربه إخواني المسلمون، وربما جلب فيَّ الظنون، ولكني لا أُبالي بظنونهم في سبيل حقيقة مهمة أكره أن يجهلها إخواني، وأن يجهلها النصارى أيضًا، وهي أن دينَي الفريقَين مبنيٌّ على الإيمان بالغيب،٣ وعلى تصديق الرسل٤ بما جاءوا به من أخبار الملائكة والشياطين والجن، وأول الخليقة، وخبر آدم، وأخبار رسل الله وكتبه٥ التي بعثها إليهم، والغرائب التي حدثت بإذن الله، نحو ولادة عيسى، ثم صفات الله الذي ليس بمادة، مثل أنه متكلم، وقد كلَّم موسى، وسميعٌ يسمع الذي يدعوه، وبصير يكره كشف عورة الإنسان في خلوته لأنه يراها، ثم صفات الجنة موعد المتقين، وما فيها من العنب والرمان والنساء الحِسان والوِلدان وصفات النار موعد الكافرين، وما فيها من آلات العذاب وصنوف العقاب أبد الآبدين ودهر الداهرين على جُرمٍ هو عدم تصديق الإنسان بما لا يُدركه عقله.

فيا أخا العقل ومن يريد كل شيء من الدين بالعقل، إياك ثم إياك من الوقوف في العالم الغيبي مع العقل، إذا كنت ترجو تلك الجِنان وتخشى تلك النيران، فإن كنت لا ترجو ولا تخشى ما هنالك فإياك ثم إياك أن تدَّعي الدين؛ فإنك كاذب بشهادة أهل كل المِلل أجمعين. ها قد أبلغتك الحقيقة، والله يعلم أني لك من الناصحين.

فإذا علِمت ذلك يا صاحب العقل من المسلمين فاعلم أن المسيحي يُسلم إلى الله في إيمانه بعالم الغيب تصديقًا لمتَّى ومرقس ويوحنا وبولس، وإذا علِمت ذلك يا صاحب العقل من النصارى فاعلم أن المسلم يُسلم إلى الله في إيمانه بعالم الغيب تصديقًا لمحمد ، وإذا علِمتما أنه لم يُسلم أحدكما في هذَين الإيمانين المُتشابهين بمجرد عقله، فاعترِفا بأنكما مُتشابهان في سبب الإيمان وتصافَحا؛ فإنكما في هذا الباب إخوان.

وأزيدك أيها المسلم بيانًا في أن النصراني يؤمن بإلهٍ واحد، فأقول إن القرآن المجيد لم يُسمِّ النصارى مشركين، كما لا يخفى، بل سمَّاهم أهل كتاب، وأجاز أكل ذبائحهم والتزوُّج بنسائهم، ولم يُجِز هذا ولا هذا في الذين سمَّاهم مشركين. وقد اشتبه الأمر على بعض العلماء من الأقدمين، فسأل عالمًا آخر: «كيف لا يكون النصراني مشركًا وهو يقول إن الله ثالث ثلاثة؟» فقال له: «إن الله الذي لم يُسمِّه مشركًا أعلم مني ومنك.»

هذا ما رأيته واجبًا من بعد أن رأيت وسمعت كلمات القاصرين في هذه المباحث العميقة لدى المؤمنين بالغيب، والعقيمة لدى الذين لا يريدون إلا ما يشهد به الحسُّ أو العقل بسهولة، فإن أقنع ونفع فنعما ذاك، وإلا فليتجادل القوم ما شاءوا أن يتجادلوا حتى تطلُع الشمس من مغربها، أليس كذلك؟

•••

وجاء في عُرْض كلام الدكتور أنه جعل الأديان بمثابةٍ واحدة من حيث علاقتها بالعمران وتأثيرها في الاجتماع، فأنكر ذلك عليه صاحب الرد. وقد طال المقال فضاق المقام عن الإسهاب في هذا الموضوع؛ فلذا أكتفي بكلمةٍ واحدة، وهي أن صاحبنا يُسلِّم معنا ومع الدكتور بأن ديننا الإسلامي لا يُنافي العمران، فافرض أنك لا ترى دينًا آخر له هذه المزيَّة، وأن ديانات الأقوام الآخرين قد خرَّبت ديارهم وقطعت نسلهم؛ فلذلك لم يبقَ في الصين من نسمة ولا حجر على حجر، ولم يبقَ في أوروبا وأمريكا من ديَّار ولا نافخ نار، فما الذي يضرُّك إذا كان دليلك الحس ودليله الخيال أن تُجامل من حولك من الذين يتديَّنون بالنصرانية، إخوانك في الوطن واللسان، الذين لم يبقَ لهم من إخوان في الدين إلا أربعمائة وخمسون مليونًا فقط! نعم أقول لك ما الذي يضرُّك إذا لم تُفاجئ القوم جيرانك بأن ليس بيدهم إلا دين يُخرب الديار ويُفني البشر؟

•••

بقي شيءٌ واحد ممَّا أحببت الكلام فيه، وهو أنه جاء في عُرْض كلام الدكتور أن الزواج والطلاق ليسا في الإسلام والنصرانية من المسائل التي يُقيد بها الاجتماع، وقد قال صاحب الرد بأن ذلك صحيحٌ في الإسلام دون المسيحية. ولولا أنني ما وصلت إلى هذا المقام حتى ملِلتُ لشدة كراهتي الجدل في الدين، لأسهبت في هذا الموضوع أيضًا، ولكني أعدل عن ذلك إلى توجيه نظر الكاتب إلى كتاب الوجود؛ ففيه صحائف الأمم، وهناك يجد أن لاجتماعها سننًا قد راعتها الديانات كلها. فالمسيحية جاءت في هذه الأبواب بوعظٍ ونصائح، ولم تجئ بشرعٍ حاتم يجب تأييده على الملك والحاكم. فهذا سر اختلاف طوائفهم في هذه الأبواب قديمًا وحديثًا، فمن تمسَّك بهذه النصائح من ملوكهم وشعوبهم بنَوا عليها قوانينهم في هذه المسائل، ومن رأى مندوحة في تفسيرها وتأويلها وجواز مُخالفتها اجتماعيًّا، تراهم توسَّعوا فيها على قدر ما آنسوا أن العادات تُساعدهم. وبهذا البيان تعرف صحة قول الدكتور.

وبعد، فإنني قد عملت ما عليَّ من الإرشاد إلى وجوب التفاهم وآداب المُناظرة ومُراعاة الأوقات فيها، وأرجو بعد ذلك أمرَين: الأول من حضرات الكُتاب المسلمين، أرجوهم إذا مدحوا دينهم ألا يذمُّوا دين غيرهم. والثاني من حضرات الأدباء المسيحيين، أرجوهم ألا يظنوا الدين الإسلامي هو الذي يأمر بذم غيره من الديانات، بل هو يأمر بالحكمة والموعظة الحسنة. انتهى ببعض اختصار.

١  نُشرت في المؤيد سنة ١٩٠٨ على إثر رد بعضهم على رسالة القرآن والعمران المذكورة آنفًا.
٢  من كتاب «الإسلام دين الفطرة» للشيخ عبد العزيز شاويش.
٣  ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيه ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.
٤  وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ من قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (الآية).
٥  قُولُوا آمَنَّا بِالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ (الآية).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤