المقالة التاسعة
رأى وقال١
كل شيء في الكون سلسلة: العالم المادي والعالم المعنوي على حدٍّ سوى. وكما نشأت الأحياء الراقية من أحياءٍ أدنى، وهي من مواد الطبيعة، هكذا نشأت الأديان من الاعتقادات، وهذه من الخرافات، وهذه من قلة تعرُّف الإنسان لظواهر الأشياء التي حوله وتوهُّمه فيها.
***
آياتٌ بيِّنات، وحقائق باهرات. ضلالٌ استمسك به الناس كأنه العروة الوثقى، كل حزب بما لديهم فرحون، وهدًى إذا ذكروه فإنما هم يهمسون.
أناسٌ يجوعون ويعطشون ويموتون، نظروا إلى ما حولهم، وإذا الأرض تُخرِج لهم ما يأكلون مريئًا ويشربون هنيئًا، فقالوا: «أُمَّنا ارحمينا ولا تحبسي عنا قوتًا يغذِّينا وماءً يروينا.» وارتفعوا إلى ما فوق، وإذا البرق يكاد يخطف أبصارهم والرعد يُصمُّ آذانهم، فانخلعت قلوبهم من هول ما يُبصرون ويسمعون، فأغمضوا جفونهم، وجعلوا أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، وخرُّوا خاشعين.
أوهامٌ أصلها أحلام، تطوف بالناس وهم نيام، فينتقلون وهم في مكانهم مُقيمون، فقالوا الإنسان اثنان؛ جسمٌ مُقيم، وروحٌ يَهِيم، يُفارق ثم يعود، ولا ينفكُّ إلا إذا حلَّ الموت الزؤام، فينطلق في مُنفسخ الوجود، يذكُر المعاهد والعهود. وما ذلك إلا ذكرى ما كانوا يعلمون لو كانوا يفقهون.
رأى الأوائل أنهم يرقدون ثم يستيقظون، ويُغمى عليهم ثم يُفيقون، وقد يُدفنون كأموات فيقومون، فداخَلهم أن الموت رقدة، ثم يُبعثون بعثًا تحيا به أجسادهم وتعود إليها أرواحهم، ذلك خير لهم من موتٍ يكرهون، فدفنوا معهم كل ما كانوا يحتاجون إليه في الحياة الدنيا من طعام وشراب ولباس ومتاع وسلاح به عن حياضهم يذُودون، وعبيدًا يخدمونهم في الحياة الأخرى، وأعدُّوا لهم البلايا رءوسها في الولايا، يركبونها يوم يُحشرون.
من الناس القومُ الأشرار، ومنهم القوم الأخيار، فانتشرت أرواحهم في الأرض كلٌّ يعمل على شاكلته، فخافوا الأرواح الشريرة، ولاذوا بالأرواح الصالحة يتعوَّذون بكل ملك كريم من كل شيطان رجيم.
آباءنا، كنَّا برَرة وأنتم أحياء، وما نعقُّكم أمواتًا، فما نحرمكم من كل ما كنتم به تتمتعون؛ فقد أعددنا لكم طعامًا ممَّا كنتم تأكلون، وشرابًا ممَّا كنتم تشربون، وزوَّدناكم كل ما كنتم إليه تحتاجون، وحنَّطنا أجسادكم تحنيطًا وأعددنا لها القبور؛ لتُحفَظ إلى يوم النشور، وقد زيَّناها بالزهور؛ لعلكم عنا ترضَون، وإيانا تذكُرون.
ذكرى لم يكن يُقصد بها سوى الإكرام، ثم استرضاء خوفًا من زوال منفعة، ثم تجسم الوهم حتى ضاع الرشد في هوى حب النفس، فقاموا يعبدون ما يجدون.
حيوانًا يُجاور القبور، أو نباتًا ينبت على هذا المكان المأنوس والمهجور. قد يتعالى وتنزل أصوله إلى باطن القبر المعمور؛ فلعل روح الحبيب انتقلت إلى هذا الجار القريب. وما كانوا إلا واهمين فيما كانوا يزعمون.
تناسخٌ تُمسخ به أرواح الأشرار، وتترقى به أرواح الأخيار، خالَط الناس فيه جميع أصناف الكائنات، حتى اختلط عليهم أبشرٌ ما يرون في صورة حيوان وجماد ونبات، وباتوا في أمورهم حيارى لا يدرون.
وهِموا أن الحياة الأخرى كالحياة الدنيا، مساكن الموتى فيها إنما هي مساكن الأحياء أو هي قريبة منها؛ عنها يرحلون، وعليها يترددون، ثم لمع نورٌ ضئيل في ظلمات الأوهام، فأبعدوها إلى الغابات والحراج، فالبراري فالجبال الشاهقة، حيث صارت أقرب إلى الغيوم والارتفاع منها إلى السماء، بعد أن كانوا قد هبطوا بها إلى أعماق الجحيم، قبل أن استقلَّ به الشياطين وفصلوه عن النعيم، فأكرموها في الحيوان والأشجار، فالحجار فالقفار، حتى وقفت بهم الآمال، على أعالي الجبال، لِما رأوا فيها من المهابة والجلال. وهم يهيمون فيما راحوا عنه يبحثون.
عبدوا أبًا كريمًا، أو ملكًا عاتيًا أو حليمًا، أو حيوانًا نافعًا أو شريرًا، أو شجرة في العراء، يُستظل بها من الرمضاء، أو بئرًا يرِدونها في الصحراء، أو حجرًا أسود سقط من العلاء، أو نهرًا يروي رياضهم، أو نارًا يصطلون بها، أو طبائع تميل إليها شهواتهم، باتوا في سبيلها مُتهالكين. عبدوا ذلك كله دفعًا لمكروه، واستجلابًا لمنفعة. معبوداتٌ تعدادها تعداد الكائنات، فأنواع المنافع فأصناف القوات. وما كانوا إلا أوهامَهم يعبدون.
غابت عنهم معبوداتهم، فطلبوها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فأقاموا لها التماثيل والأنصاب يذكُرونها بها في المصائب، ومازجتها الأوهام، فنحتوا منها الأصنام، يقصدونها في المهمَّات، ويستنجدونها في المُلمَّات. لقد ضلوا فيما كانوا يقصدون ويستنجدون.
وقفوا عند ذلك زمانًا طويلًا، ألوف السنين تُعدُّ فيه كأمس الدابر، والأفكار في اضطراب وحيرة، والاعتقادات مُتناقضة غير مُتوافقة، مقطوعةٌ موصولة غير مُتناسقة، والعالم ميدانٌ ترمح فيه الأرواح والأشباح، والصور المُريعة والخيالات الشنيعة، فانفتح الباب واسعًا للسحر والسحرة والشعوذة والمُشعوذين والرُّقى والطلاسم، كلٌّ يجد في ذلك مصلحة له؛ المضلَّلون والمضلِّلون. أما هؤلاء فأهل مكر، وأما الأولون فأغبياء. هؤلاء ليسوا على هدًى من علمهم، وما كان أولئك بمُخطئين.
ذلك كان نشوء الإنسان في الأوهام، قبل مجيء الثلاثة العِظام: موسى اليهودية، وعيسى النصرانية، ومحمد الإسلام.