باب عرض الكتاب لعبد الله بن المقفع١
هذا كتاب كليلة ودمنة، وهو مما وضعته علماء الهند من الأمثال والأحاديث، التي التمسوا بها أبلغَ ما يجدون من القول، في النحو الذي أرادوا، ولم يزل العقلاء من أهل كل زمان يلتمسون أن يُعقَل عنهم، ويحتالون لذلك بصنوف الحِيَل، ويطلبون إخراج ما عندهم من العِلل، فدعاهم ذلك إلى أن وضعوا هذا الكتاب، ولخَّصوا فيه من بليغ الكلام ومُتقَنه على أفواه الطير والبهائم والسباع؛ فاجتمع لهم من ذلك أمران: أمَّا هُم فوجَدوا مُتصرَّفًا في القول، وشِعابًا يأخذون فيها، وأمَّا هو فجمع لهوًا وحكمةً، فاجتباه الحُكماء لحكمته، والسخفاء لِلَهْوِه، وأمَّا المُتعلمون من الأحداث وغيرهم فنشِطوا لعلمه، وخفَّ عليهم حِفْظُه.
فإذا احتنك الحدثُ واجتمع له أمرُه، وثاب إليه عقله، وتدبَّر ما كان حَفِظ منه وما وعاه في نفسه، وهو لا يدري ما هو، عَرَف أنه قد ظفر من ذلك بكنوزٍ عظام؛ فكان كالرجل يُدرِك فيجدُ أباه قد كنز له من الذهب والفضة، واعتقد له ما استغنى به عن استقبال السعي والطلب، ولم يكن — إذ كثرت صنوف أصول العلم ثم تفرعت فروعها — بدٌّ من أن تكثُر العلل التي تجري عليها أقاويل العلماء.
فأول ما ينبغي لمن طلب هذا الكتاب أن يبتدئ فيه بجودة قراءته والتثبت فيه، ولا تكون غايتُه منه بلوغَ آخره قبل الإحكام له، فليس ينتفع بقراءته ولا يُفيد منه شيئًا؛ وإن طمَحتْ عيناه إلى جمعه، ولم يأخذ منه ما يعي الأولَ فالأولَ، فإنه خليقٌ ألَّا يُصيبَ منه إلَّا كما أصاب الرَّجل الذي بلغني أنه رأى في بعض الصحارى كنزًا، فلمَّا كشف عنه ونظر إليه رأى شيئًا عظيمًا لا عهد له بمثله، فقال في نفسه: إن أنا أحرزتُ ما ههنا بنقله وحدي لم أنقله إلَّا في أيام، وجعلت لنفسي عملًا طويلًا، ولكن أستأجر رجالًا يحملونه، ففعل ذلك وجاء بالرجال فحَمَلَ كلُّ واحدٌ منهم ما أطاق، وانطلقوا، فيما زعم، إلى منزله، فلم يزَل دائبًا في ذلك حتى فرَغَ واستنفد الكنز كله، ثم انطلق إلى منزله بعد الفراغ فلم يجد شيئًا، ووجد كل رجل منهم قد حاز ما حمل لنفسه، ولم يكن له إلَّا العناء في استخراجه والتعب عليه.
ويُقال أيضًا في أمرين يحتاج إليهما كل من احتاج إلى الحياة: المال والأدب.
والعلم لا يَتِم لامرئ إلَّا بالعمل، والعلم هو الشجرة، والعمل هو الثمرة، وإنما يطلب الرجل العلم لينتفع به، فإنْ لم ينتفع به فلا ينبغي أن يطلبه، ورُبَّ رجلٍ لو قيل له: إنَّ رجلًا كان عارفًا بطريق مَخُوف ثم ركِبه فأصابه فيه مكروهٌ أو أذًى لتعجَّب من جهله وفعله، ولعَلَّه أن يكون يركبُ من الأمور ما يعرف به القبح والذم وشر العاقبة، وهو بذلك أشد استيقانًا من ذلك الرجل الذي ركب الهول بجهله، وحمله على ذلك هواه، ومن لم ينتفع بمعرفته كان كالمريض العالم الذي يعلم ثقيل الطعام من خفيفه، ثم تحمِلُه الشهوة على أكل الثقيل منه.
فأقلُّ الناس عُذرًا في ترك الأعمال الحسنة من قد عرف فضلها وحُسنَ عائدتها، وما فيها من المنفعة، وليس يعذِره أحدٌ على الخطأ، كما أنَّه لو أنَّ رجلين أحدُهما أعمى والآخر بصير وقعا في جُبٍّ فهلكا جميعًا ولم ينجُ البصير من الهلكة — لأنه صار والأعمى في الجب بمنزلة واحدة — لكان البَصيرُ عند العقلاء أقلَّ عذرًا من الأعمى.
ومن كان يطلب العلم ليعلِّمه غيره وليعرِّفه سواه، فإنما هو بمنزلة العين التي ينتفع الإنسان بمائها، وليس لها من تلك المنفعة شيء؛ فإنَّ خلالًا ثلاثًا ينبغي لصاحب الدنيا أن يقتبسها ويُقبسها: منها العلم، ومنها المال، ومنها اتخاذ المعروف؛ وقد قيل: إنه لا ينبغي لطالبٍ أن يطلب أمرًا إلَّا من بعد معرفته بفضله، فإنه يُعَدُّ جاهلًا من طَلَبَ أمرًا وعنَّى نفسه فيه وليس له منفعة.
وينبغي لمن طلب أمرًا أن تكون له غايةٌ ينتهي إليها، فإنه من أجرى إلى غير غاية أوشك أن يكون فيه عناؤه، وتقوم فيه دابته، وهو حقيقٌ ألَّا يُعنِّي نفسه بطلب ما لا يجد، وأن يكون لآخرته مؤثِرًا على دنياه، فإنه قد قيل: مَن قلَّ تعلقُه بالدنيا قلَّت حسرتُه عند فراقها، وينبغي له ألَّا ييئس من أن يُصيب ذلك وإن قسا قلبُه، فإنه يُقال في أمرين يجملان بكل أحد، وهما النُّسك والمال، وإنما مثل ذلك كالنار المتأجِّجة التي لست تقذف إليها حطبًا إلَّا قبلته وكان لها موافقًا.
وربما أصاب الرجلُ الشيءَ وهو غير راجٍ له، كما أصاب الرجل الذي بلغني أنه كانت به حاجةٌ شديدةٌ وخَلَّةٌ ظاهرةٌ، وفاقةٌ وعُري، فغدا يطلب من معارفه وشكا إليهم، وسألهم ثوبًا يلبسه، وجَهِد فلم يُصِب شيئًا، ورجع إلى منزله وهو آيِس؛ فبينما هو نائم على فراشه إذا بسارق قد دخل عليه في منزله، فلمَّا رآه الرجل قال: ما في منزلي شيء يستطيع هذا السارق أن يسرقه، فليصنع ما يشاء، وليُجهِد نفسه، وإنَّ السارق دار في البيت وطلب فلم يجد شيئًا يأخذه، فغاظه ذلك، وقال في نفسه: ما أرى ههنا شيئًا، وما أحب أن يذهب عنائي باطلًا، فانطلق إلى خابية فيها شيءٌ من بُرِّ، فقال: ما أجد بُدًّا من أخذ هذا البُرِّ إذ لم أجد غيره، فبسط ملحفة كانت عليه، وصب ذلك البُرَّ فيها، فلمَّا بصُر به الرجل قد جعل البُرَّ في الملحفة، وهو يريد أن ينطلق بها قال: ليس على هذا صبر، يذهب البُرَّ ويجتمع عليَّ أمران: الجوع والعُري، ولن يجتمعا على أحدٍ إلا أهلكاه، فصاح بالسارق فهرب من البيت وترك الملحفة، فأخذها صاحب المنزل فلبسها وأعاد البُرَّ إلى مكانه، فليس ينبغي لأحد أن ييأس، ولا يطلب ما لا يُنال، ولكن لا يدع جُهدًا في الطلب على معرفة، فإنَّ الفضل والرزق يأتيان من لا يطلبهما، ولكن إذا نَظَر في ذلك وجد من طلب وأصاب أكثر ممَّن أصاب بغير طلب، ولم يكن حقيقًا أن يقتدي بذلك الواحد الذي أصاب من غير طلب، ولكن يقتدي بالكثير الذين طلبوا فأصابوا. وحقٌّ على المرء أن يُكثر المقايَسة، وينتفع بالتجارب، فإذا أصابه الشيء فيه مَضَرَّة عليه حَذِرَه وأشباهه، وقاس بعضه ببعض حتى يحذر الشيء بما لقيَ من غيره؛ فإنَّه إن لم يحذر إلَّا الذي لقيَ بعينه لم يُحكم التجارب في جميع عُمُره، ولم يزل يأتيه شيءٌ لم يكن أتاه بعينه؛ فأمَّا الذي ينبغي ألَّا يدعه على حال؛ فأن يحذر ما قد أصابه، وينبغي له مع ذلك أن يحذر ما يُصيب غيره من الضرر؛ حتى يَسْلَم من أن يأتيه مِثلُه، ولا يكون مَثَلُه كمثل الحمامة التي يُؤخَذ فرخاها فيُذبحان، وترى ذلك في وكرها ولا يمنعها من الإقامة في مكانها حتى تؤخذ هي فتُذبح.
فأول ما نبتدي بذكر بعث برزويه إلى بلاد الهند.
والنسخ تختلف في مكان هذه المقدمة، فهي في نسخة دي ساسي De Sacy والطبعات المصرية وطبعتي اليازجي وطبارة، بين باب بعثة برزويه وباب برزويه، وفي نسخة شيخو قبل باب الأسد والثور، وهي فيها قصيرةٌ جدًّا، وظاهرٌ أن ترتيب نسختنا أقرب إلى الصواب؛ لأنَّ ابن المقفع حريٌّ أن يضع مقدمته قبل أبواب الكتاب كله، وأمَّا «مقدمة بهنود بن سحوان» التي تُصدَّر بها بعض النسخ فقد وُضِعَت بعد ابن المقفع، فلهذا تخلو منها نسخ قديمة كنسختنا هذه؛ ثم النسخ الأخرى تتقارب فيما بينها وتخالف نسختنا في كثيرٍ من نصوص هذه المقدمة.