باب إبلاد وإيراخت وشادرم ملك الهند١
قال الملك للفيلسوف: قد فهمتُ ما ذكرتَ في أمرِ العَجِل غير المتَّئِد ولا الناظر في العواقب، فأخبرني ما الذي إذا عمل به الملك كَرُم على رعيَّتِه، وثبَّت ملكه، وحفِظ أرضه؟ آلحلمُ أم المروءةُ أم الجودُ أم الجُرأةُ؟
قال الفيلسوف: إنَّ أفضل ما حَفِظ به الملكُ مُلكه، وثبَّت به سلطانه، وكرَّم به نفسه، هو الحلم والعقل؛ لأنهما رأس الأمور ومِلاكها، مع مشاورة اللبيب الرفيقِ العالِم، وأفضلُ ما يستمتع به الناس الحلمُ، ثم للملك خاصةً؛ فإنَّه لا شيءَ أفضلُ ولا أعوَنُ منه، ومِن صلاح المرء في نفسه ومعيشته، المرأةُ الصالحة الفاضلة الرأي المواتيةُ؛ فإنَّ الرجل إن كان شجاعًا ولم يكن حليمًا عاقلًا، أو كان حليمًا عاقلًا وشاور غير لبيب، فإنه يبهظه الأمرُ اليسير حتى يُرى فيه القبح والضعف بجهالته وخطأ رأي أصحابه ونُصحائه، وإن أصابوا ظَفَرًا أو لقُوا رشدًا ساقه القدر إليهم صارت عاقبة أمرهم إلى الندامة، وإذا كان على خلاف ذلك من الفضل ومن نُبل الوزير، ثم أعانه القضاء، أصاب الفَلَج على من خاصمه، والغلبةَ على من ناوأه، والسرور له، كما زُعِم لنا مما كان بين شادْرَم ملك الهند وإيراخت امرأته وإبلاد صاحب سرِّه ورأيه، قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف: ذُكِر لنا أنَّ إبلاد كان ناسكًا مُجتهدًا حسن الخُلق لبيبًا حليمًا حكيمًا كاملًا؛ فبينما شادْرم الملكُ نائمًا في بعض الليالي إذ رأى ثمانية أحلام، يستيقظ عند كل منها، فلمَّا أصبح دعا بالبرْهميين — وهم النسَّاك — فقصَّ عليهم ما رأى.
فلما أبرم البرهَمِّيون أمرهم واتفقوا عليه أتوا الملك وقالوا: إنَّا قد نظرنا في كتبنا وتبحَّرنا فيها، وتفكَّرنا في رؤياك، وأعملنا المعقول فيها، فلسنا نقدر أن نُعلِمك بما قد رأينا لك حتى تُخلِيَ لنا مجلسك؛ ففعل ذلك، فقصُّوا عليه الأمر على ما اجتمعوا عليه، فقال الملك: الموتُ دون ما قلتموه، وما أسمع منه، أفأقتل هذه الأنفس التي هي عندي عِدلُ نفسي، وأحتمل الإثم والوِزر؟ ولا بدَّ من الموت على كل حال، ولست ملكًا طولَ الدهر، وسواءٌ عليَّ الهلاكُ وفراقُ الأحبة، فقال البرهميُّون: إن أنت لم تغضب، أخبرناك أنَّ رأيك هذا مخطئ، وأنك لم تُصِبْ إذ أهنتَ نفسك وآثرتَ عليها غيرها، ولستَ لشيءٍ غيرها مُكرِمًا إذا أنت أهنتها، وأنت واجدٌ من هؤلاء عِوَضًا، ولا تجد من نفسك عوضًا، ولَعَمْرِي لأن تَفدِيها بما سمَّينا لك أمثلُ وأخيَرُ، فيبقى ملكك وسلطانك، ويصلح أمرك، فانظر لنفسك ودع من سواها؛ فإنه لا شيءَ يعدِلها.
فلمَّا رأى الملك أنَّ البرهميِّين قد أغلظوا له في القول واجترءوا عليه، قام فدخل منزله، ووقع لوجهه، وجعل يتقلب يمينًا وشِمالًا محزونًا مهمومًا، ويفكِّر في رأيه: أيَّ الأمرين يركب؟ آلموتَ عيانًا وهو ينظر إليه أو إعطاءَهم ما سألوا؟ فمكث كذلك أيامًا، وفشا الحديثُ في أرضه، وقيل: لقد نزل بالملك أمرٌ هو منه في كَرْب، فلما رأى إبلاد الأمر الذي وقع فيه الملك من ذلك، فكَّر ونظر، وكان فَطِنًا مجرِّبًا، فقال: ما ينبغي لي أن أستقبل الملك بشيءٍ دون أن يدعوني، ولكني أنطلق إلى إيراخت امرأةِ الملك فأسألُها عن ذلك، فأتاها فقال: إني لا أعلم الملكَ ركِب من أمره صغيرة ولا كبيرة، منذ كنت معه إلَّا بمشورتي، وإني كنتُ صاحب سرِّه ولم يكن يكتمني شيئًا طرأ عليه، وكان إذا حزبه أمرٌ مُفظِع عزَّى نفسه فيه واصطبر على ما نزل عليه منه، وذكر لي ذلك، فأسلِّيه عن أمره بأرفقِ ما أقدِر عليه، وإني أراه مُستخليًا بالبرهميين منذ سبعة أيام، وقد احتجب فيها عن الناس، وإني أخاف أن يكون قد أطلعهم على دخيلة أمره، ولستُ آمَنُهم عليه، فاذهبي إليه وسَليه عن حاله، وما بلغه، وما الذي ذكروا له؟ ثم أعلميني؛ فإني لا أستطيع أن أدخلَ عليه، وإني لأحسبهم قد زيَّنوا له أمرًا قبيحًا وحملوه على عظيمةٍ أو أغضبوه بشيءٍ شبَّهوا له فيه؛ فإنَّ مِن أخلاق الملك إذا هو اغتاظ ألَّا يلتفت إلى أحدٍ ولا يسأل عن شيءٍ ولا ينظر فيه، وسواءٌ عليه جسيم الأمور وحقيرها، ولست أشكُّ أنهم لم يَنصَحوه لما في قلوبهم من الحقد عليه والبغض له، وأنهم إن قدَروا على هَلكَته التمسوا له الحيلة في ذلك، قالت إيراخت: إنه كان بيني وبين الملك كلام، ولست آتيته ما دام حزينًا، قال إبلاد: لا تحْمِلِنَّ الحقد في مثل يومك هذا؛ فلن يقدر أحدٌ أن يدخل عليه غيرُك، وقد كنت سمعتُه يقول غير مرة: إني إذا حزنت واهتممت فأتتني إيراخت سُرِّيَ ذلك عني، فانطلقي إليه وكلميه بما تظنِّين أنه تطيب به نفسه ويُجَلِّي عنه ما به. فلمَّا سمعت ذلك إيراخت نهضت إلى الملك فدخلت عليه وجلست عند رأسه وقالت له: ما أمرُك أيها الملك السعيد المحمود؟ وما الذي قال لك البرهميون؟ فإني أراك مهمومًا حزينًا، فإن كان الذي ينبغي لك أن تحزن له أمرًا فيه أجَلُنا وهو جَلاءُ همِّك وسرورُك، واسيناك بأنفسنا، فافعل ذلك، وإن يكُ غضبًا علينا، نُرضِك ونأتِ ما يَسُرُّك، قال الملك: لا تسأليني أيتها المرأة عن شيءٍ فتزيديني خبالًا على ما بي؛ فإنه لا ينبغي أن يُعلَم ذلك لعظم خطره وشدة هوله.
قالت إيراخت: وقد صار أمري عندك إلى أن تجيبني بمثل ما قد سمعت! أوَ ما تعلم أنَّ أفضل الرأي للملك إذا وقع به الأمر الذي يَبهظُه أن يشاور أهل نصيحته ومودته ومَن يُهمُّه أمره وهمُّه وما أحزنه؛ فإنَّ المذنب لا يقنط من الرَّحمة، ولكنه يتوب مما يخاف مغبَّته، فلا يدخلنَّك من الهمِّ والحَزَن ما أرى بك؛ فإنهما لا يرُدَّان شيئًا بل يُشْمِتان العدو ويسوءان الصديق، وأهلُ العلم والتجارب ينظرون في ذلك، ويَصبِرون أنفسهم على ما فاتهم من عَرَض الأطماع، وما نزل بهم من حوادث الزمان. فقال الملك: أيتها المرأة، لا تسأليني عن شيءٍ؛ فإنَّ في الذي تفحصين عنه دماري وهلاكك وولدك وكثير من أهل وُدِّي؛ فإن البرهميين زعموا أنْ لا بدَّ من قتلك وقتل أهلي ونصحائي، ولا خيرَ لي في العيش بعدكم، ولا لذَّةَ لي بعد فراقكم، وذلك أفظع الأمور وأجلُّها خطرًا في نفسي، قالت إيراخت: لا يُحزِنك الله أيها الملك ولا يسُوءْك، أنفسنا لك الفداء، فإن ذلك يسير في صلاحك وبقائك، وقد جعل الله لك من الأزواج ما فيه الخَلَف والِعوَض، ولكن أطلب إليك بعد موتي ألَّا تثق بالبرهميين ولا تستشيرهم ولا تقبل رأيَ أحدٍ منهم، حتى تؤامر فيه أهل نصيحتك والثقةِ لك، وتعرف ما تُقدِم عليه فيه من القتل؛ فإنَّ القتل عظيمُ الخطب شديدُ الوزر، ولست تقدر أن تُحييَ مَن أهلكت، وقد قيل: إن وجدت جوهرًا لا تظنُّ به خيرًا فأردت أن تلقيه فلا تفعل حتى تُرِيَه من يُبصره، ولا تُقِرَّ عينَ عدوِّك من البرهميين وغيرهم، واعلم أنَّهم لن ينصحوك أبدًا وقد قتلت منهم منذ قريب اثني عشر ألفًا، أفتظنُّ أنهم نسوا ذلك؟ ولعمري ما كنتَ جديرًا أن تحدِّثهم برؤياك، ولا تُطلِعهم على سرِّك؛ فإنهم إنما يريدون بما عبَروا به رؤياك، زوالَ مُلكك، وبوارَ أحبَّائك، واستئصال وزرائك أهلِ العلم والحلم والحكمة، ومراكبِك التي تقاتل عليها الملوك، ولكن انطلق إلى كتايايرون فاذكر له ذلك وسلْه عمَّا أحببت؛ فإنه لبيب أمين — وليس عند هؤلاء شيءٌ إلَّا وعنده أفضلُ منه — وإن كان أصلُه من البرهميين فإنه ناسك مجتهد فقيه، فإن أشار عليك بمثل رأيهم فانتهِ إليه، وإن خالفهم فاعلم أن أولئك الكذبة أعداؤك أرادوا إدخال النقص عليك في مُلكِك.
فَلَمَّا سَمِعَ الملك ذلك منهم تسلَّى همه، وأمر بإسراج فرسه، وركِبه وانطلق إلى كتايايرون، فلما انتهى إليه نزل عن فرسه ثم سجد له وحيَّاه وطأطأ رأسه، فقال له كتايايرون: ما جاء بك أيها الملك؟ وما لي أراك متغيِّرَ اللون ممتلئًا همًّا وحزنًا، ولا أرى على رأسك التاج ولا الإكليل؟ فقال له الملك: كنت نائمًا ذات ليلة على ظَهر إيواني، فسمعت من الأرض ثمانية أصوات، أَسْتَيقظُ مع كل صوتٍ ثم أرقد، فرأيت ثمانية أحلام، فقصصتها على البرهميين فأجابوني بما أخاف أن يصيبني منه أمرٌ عظيمٌ، إمَّا أن أُقتَل في حربٍ وإمَّا أن أُغصَب مُلكي وأُغلَب عليه.
فلمَّا انطلق إليه دعا بإيراخت ومُسامِيَتها، فجلستا بين يديه، وقال: يا إبلاد، ضع الكسوة بين يدي إيراخت؛ فلتأخذ أيَّها شاءت، فلمَّا نظرت إيراخت إلى الإكليل والثياب وأعجبها منظرها، ولم تدر أيهما تأخذ، نظرت إلى إبلاد بمؤْخِر عينها ليُريها أيُّهما أفضل، فأراها إبلاد الثياب وأشار عليها بأخذها، فأخذتها، وكانت شارته إليها أن غمزها بعينه، وحانت من الملك التفاتة فرأى إبلاد وقد غمز إيراخت، فلمَّا رأت إيراخت أنَّ الملك قد أبصر إبلاد وإيماءه إليها تركت الثياب وأخذت الإكليل مخافةَ أن يظنَّ الملك بهما سوءًا، وعاش إبلاد بعد ذلك أربعين سنة كُلَّما دخل على الملك كسر عينيه خوفًا أن يظنَّ الملك أنه أراها بعينه شيئًا، وخوفًا أن يتَّهمه بأمر، فلولا عقل المرأة ومعرفة الوزير لم ينجُ واحد منهما من الموت.
وانطلق بها إبلاد إلى منزله سرًّا، فوكَّل بها رجلين من أمناء الملك الذي يَلُونَ أمر نسائه، وأمرَ أهله بحفظها والاستيصاء بها وإكرامها حتى ينظر كيف يكون أمرُها، ثم خضب سيفه بالدم ودخل على الملك كئيبًا حزينًا، وقال: قد أمضيتُ أمر الملك في إيراخت، فلم يلبث الملك أن سكن غضبه، فذكر جمال إيراخت ورأيها وعظيم غَنائها، فاشتدَّ حزنه وجعل يقوِّي نفسه ويتجلَّد، وهو على ذلك يستحي أن يسأل إبلاد ويرجو ألَّا يكون قتلها، ونظر إبلاد إلى الملك فعلم ما في نفسه بفضل علمه، فقال: لا تحزن أيها الملك ولا تغتم، فإنه ليس في الحزن والهمِّ منفعة، ولكنهما يُنحِلان الجسم ويُفسِدانه، مع ما يدخل على أهل وُدِّ الملك أيضًا من الحزن إذا حزن، وفَرَح أعدائه وشماتتهم، فإنه إذا سمعوا به لم يُعَدَّ مِنْ صاحِبِه عقلًا ولا حزمًا، فاصبر أيها الملك ولا تحزَن على ما لستَ بناظر إليه أبدًا، فإنْ أحبَّ الملك حدَّثته بشبيه أمره هذا، قال الملك: حدثني يا إبلاد، قال إبلاد: زعموا أنَّ حمامتين — ذكرًا وأنثى — ملآ عُشَّهما من البُرِّ والشعير، فقال الذكر للأنثى: أمَّا ما وجدنا في الصحارى ما نعيش فلسنا نأكل مما في عُشِّنا شيئًا، فإذا جاء الشتاء ولم نُصِب في الصحارى شيئًا أقبلنا على ما في عُشِّنا فأكلناه، فرضيت الأنثى بذلك وقالت: نِعمَ ما رأيت، وكان ذلك الحبُّ نديًّا حين وضعاه، فامتلأ عشهما منه، وانطلق الذكر في بعض أسفاره، فلمَّا جاء الصيف يَبِس ذلك الحبُّ ونقص عمَّا كان في العين، فلما رجع الذكر فرأى الحبَّ ناقصًا قال للأنثى: أليس كنَّا قد اجتمعنا على ألَّا نأكل من عُشِّنا شيئًا؟ فلِمَ أكلتِ؟ فحلفت الأنثى أنها ما أكلت منه حبَّة، فلم يُصدِّقها وجعل ينقرها ويضربها حتى قتلها، فلمَّا جاء الشتاء والأمطار نَدِيَ الحبُّ وعاد إلى ما كان عليه، وامتلأ العشُّ كما كان، فلمَّا رأى ذلك الذكر نَدِم واضطجع إلى جانبها وناداها: كيف ينفعني العيش إذا طلبتك فلم أقدر عليك؟
فمن كان عاقلًا علم أنه لا ينبغي أن يَعجَل بالعذاب والعقوبة، ولا سيما بعذاب من يخاف أن يندم عليه كما ندم الحمام الذكر.
وقد سمعت أنَّ رجلًا كان على ظهره كارةُ عَدَس، فدخل بين شجر كثير، فوضع حمله ورقد، فنزل قرد كان في الشجرة التي نام تحتها، فأخذ مِلءَ كفه من ذلك العدَس، ثم صعد في الشجرة فسقطت من يده حبة فطلبها فلم يجدها، وانتثر العَدَس من يده فلم يقدر على جمعه، وأنت أيها الملك عندك ستة عشر ألف امرأة تدعُ أن تلهوَ بهنَّ وتطلب التي لا تجد! فلمَّا سمع الملك ذلك خشيَ أن تكون إيراخت هلكت، فقال لإبلاد: أفي سقطةٍ واحدةٍ كانت منِّي فعلت ما أمرتك به من ساعتك، وتعلَّقت بكلمة واحدة، ولم تتثبت في الأمر؟ قال إبلاد: إن الذي قوله واحد — لا يختلف كلامه عندي — واحد.
قال الملك: ومَن ذلك؟ قال: اللهُ — عز وجل — الذي لا يُبدَّل كلامُه ولا يختلف قوله، قال الملك: اشتدَّ حزني لقتل إيراخت، قال إبلاد: اثنان ينبغي لهما أن يشتدَّ حزنهما: الذي يعمل الإثم، والذي لم يعمل برًّا قط؛ لأن فرحهما في الدنيا قليل. قال الملك: لئن رأيتُ إيراخت حيَّة لا أحزنُ أبدًا. قال إبلاد: اثنان لا ينبغي لهما أن يحزنا أبدًا: المجتهد في البرِّ والذي لم يأثم قط، قال الملك: ما أنا بناظرٍ إلى إيراخت سوى ما نظرتُ، قال إبلاد: اثنان لا ينظُران أبدًا: الأعمى والذي لا عقل له، فإنه كما أنَّ الأعمى لا يبصر السماء ولا النجوم ولا الأرض، ولا يبصر القريب ولا البعيد ولا أمامه ولا خلفه، كذلك الذي لا عقل له لا يبصر منفعته من مضرته، ولا يعرف العاقل من الجاهل، ولا الحسن من القبيح، ولا المحسن من المسيء. قال الملك: لئن رأيتُ إيراخت ليشتدَّن فرحي، قال إبلاد: اثنان هما يَرَيان وينبغي لهما أن يشتدَّ فرحهما: البصير والعالم، فكمَا أنَّ البصير يُبصر نور العالَم وما فيه، كذلك العالِم يبصر الإثم فيجتنبه والبرَّ فيعمله، ويهدي من اتَّبعه إلى سبيل الخير؛ قال الملك: ما شبعتُ من رؤيةِ إيراخت قط، قال إبلاد: اثنان لا يشبعان أبدًا: الذي لا همَّ له إلَّا جمعُ المال، والذي يأكل ما يجد ويسأل ما لا يجد؛ قال الملك: إنه لينبغي لنا أن نتباعد عنك يا إبلاد! فإنك بذلك جدير، قال إبلاد: اثنان ينبغي أن يُتباعَد منهما: الذي يقول لا عذاب ولا حساب ولا ثواب ولا شيءَ إلَّا ما هو فيه، والذي لا يقدر أن يَصرِف بصرَه عن شهواته وعمَّا ليس له، ولا أذنه عن استماع السوء، ولا فرجه عن نساءِ غيره، ولا قلبه عما يهمُّ به من ركوب الإثم، فيصيرُ أمرُه إلى الندامةِ والهوان وخِزيِ الأبد الدائم. قال الملك: صرتُ من إيراخت صِفرًا، قال إبلاد: ثلاثة هنَّ أصفار: البحر الذي ليس فيه ماء، والأرض التي ليس فيها ملك، والمرأة التي ليس لها زوج، وأخرى: من لا يعرف الخير من الشر، قال الملك: إنك لمُلَقَّى الجواب يا إبلاد! قال إبلاد: ثلاثة هم ملَقَّوْنَ الجواب: الملك الذي يَقسم ويعطي من خزائنه، والمرأة المسمَّاة لبعض من تهوَى من ذوي الأحساب، والرَّجل العالم الذي قد تفرغ للعبادة، قال الملك: لقد ازددتُ حزنًا بتعزيتك يا إبلاد، قال إبلاد: ثلاثةٌ ينبغي لهم أن يحزنوا: الذي فرسه سمين حسن المنظر سيئ المخبر، وصاحب المرقة التي كثيرٌ ماؤها قليلٌ لحمها ولا طعم لها، والذي ينكح المرأة الحسيبة ولا يقدر على إكرامها؛ فلا تزالُ تُسمعه ما يؤذيه.
قال الملك: هلكَت إيراخت ضَيعة في غير شيء! قال إبلاد: ثلاثةٌ يضيعون في غير حقٍّ: الرجل يلبس الثياب البيض، فلا يزال عند الكير جالِسًا فيسوِّدها بالدخان، والقَصَّار يلبس الخُفَّين الجديدين ثم لا تزال قدماه في الماء، والرجل التاجر يتزوَّج المرأة الحسناء الشابَّة ثم لا يزال بأرضٍ بعيدةٍ، قال الملك: إنك لَأَهْلٌ أن تُعذَّبَ أشدَّ العذاب، قال إبلاد: ثلاثة ينبغي لهم أن يُعذَّبوا: المجرم الذي يعاقِب مَن لا ذنب له، والمتقدِّم إلى مائدة لم يُدعَ إليها، والذي يسأل أصدقاءه ما ليس عندهم ولا يدع مسألتهم؛ قال الملك: إنه لينبغي لك أن تُسَفَّه يا إبلاد، قال إبلاد: ثلاثة ينبغي لهم أن يسفَّهوا: النجَّار الذي ينزل البيت الصغير بأهله، ثم لا يزال ينحت الخشب فيملأ بيته فأهله في ضيقٍ وضررٍ، والذي يتكلف الحَلق بالموسى ولا يُحسِن فيُفسِد عمله ويعقِر صاحبه، والغريب المقيم بين ظَهرانَي عدوِّه ولا يريد الرجوع إلى أهله، فإن مات — مع غربته — ورثوه فيصيرُ ماله للغرباء ويُنسى ذكره. قال الملك: كان ينبغي لك أن تسكت حتى يهدأ غضبي يا إبلاد! قال إبلاد: ثلاثةٌ ينبغي لهم أن يسكتوا: الذي يرقى في الجبل الطويل، والذي يصيد السمك، والذي يهمُّ بالفعل الجسيم، قال الملك: ليتني قد رأيت إيراخت يا إبلاد! قال إبلاد: ثلاثة يتمنُّون ما لا يجدون: الفاجر الذي لا ورع له ويريد — إذا مات — منزلةَ الأبرار في الآخرة، والبخيل الذي يريد منزلة السَّمْح الجواد، والفجرة الذين يسفكون الدماء — بغير حقٍّ — ويرجون أن تكون أرواحهم مع الشهداء الأتقياء؛ قال الملك: لقد أوجعت قلبي يا إبلاد، قال إبلاد: ثلاثة هم أوجعوا قلوبهم: الذي يأتي القتال ولا يتَّقي فيُقتل، والكثير المال الذي لا ولد له وتجاراته في الربا والغلاء على الناس، فربما حسده بعضهم فقتله، والشيخ الكبير ينكح المرأة الحسناء الفاجرة الجريئة على ما لا تزال ترتكبه، فلا تبرح تتمنَّى موته لتنكح زوجًا غيره شابًّا فيكون هلاكه على يديها. قال الملك: إني لحقيرٌ في عينِك يا إبلاد! قال إبلاد: ثلاثةٌ يَحقِرون أربابهم: الذي يَهذي بالكلام ويتحدَّث بما لا يُسأل عنه ويقول ما يعلم وما لا يعلم، والمملوكُ الغنيُّ وسيِّدُه فقير فلا يعطي سيِّدَه شيئًا من ماله ولا يعتدُّ به، والعبدُ الذي يُغلظ لسيِّده في القول ويستطيل عليه، قال الملك: إنَّك لتسخر بي يا إبلاد! ليت إيراخت لم تكن ماتت! قال إبلاد: ثلاثةٌ ينبغي أن يُسخرَ منهم: الذي يقول شهدت زُحوفًا كثيرة فأكثرتُ القتل ولا يُرَى في جسمه شيءٌ من آثار القتال، والذي يُخبِر أنه عالم بالدين ناسك مجتهد، وهو بادِنٌ غليظُ الرقبة لا يُرى عليه أثر التخشع، والمرأة التي تذكر أنها عذراء وليست بعفيفة ولا حَصان.
قال الملك: إنك لمتجبِّر يا إبلاد! قال إبلاد: ثلاثةٌ يشبهون المتجبِّرين: الجاهلُ الموسوس الذي يتعلم ورده على العالم فلا يقبل منه ويماريه بجهله، ولا يحجزه ذلك عن أن يعود لأمثاله، والذي يهيج السفيه ويتحرَّش به فيُسمعه أذاه، والكذَب عليه فيؤذي بذلك نفسه، والذي يُفضي بسرِّه إلى من يُذيعه ويُدخله في الأمر العظيم ويثق به ثقته بنفسه، قال الملك: أنا الذي شققت على نفسي! قال إبلاد: اثنان هما جلبا المشقة على أنفسهما: الذي ينكص على عقبيه ويمشي القهقرى، فربما عثر فوقع في مهواة فينكسر، والذي يقول لست أهابُ القتال ولا أتَّقيه فيغتر غيره به؛ فإن لقيَ عدوًّا كان همَّه الفِرارُ؛ قال الملك: قد تصرَّم ما بيني وبينك يا إبلاد! قال إبلاد: ثلاثةٌ لا يلبَث ودُّهم أن يتصرَّم: الخليل الذي لا يلاقي خليله ولا يكاتبه ولا يراسله، والرجل الذي يُكرِمه أحبَّاؤه فلا يُنزِل ذلك منهم منزلته ولا يقبله بقبوله، ولكن يستهزئ بهم ويسخر منهم، والمعاطي أخِلَّاءه في الفرح والنعيم وقُرَّة العين يسألهم أمورًا لا يقدِرون عليها. قال الملك: قد عملتَ بقتل إيراخت عملًا يُستدَل به على قلة عقلك وخفة حِلمِك يا إبلاد! قال إبلاد: ثلاثةٌ يعملون بجهلهم ما يُستدَلُّ به على خفة أحلامهم: المستودع ماله مَن لا يعرف، والأبله القليل العقل الجبان ثم يخبر الناس أنه شجاعٌ مقاتلٌ، والذي يزعم أنه تارك لأمور الجسد مقبل على أمور الروح وهو لا يُلفى إلَّا متابعًا لهواه؛ قال الملك: إنك لَغيرُ عاقل يا إبلاد! قال إبلاد: ثلاثةٌ لا ينبغي لهم أن يُعَدُّوا من أهل العقل: الإسكاف الذي يجلس على المكان المرتفع، فإذا تدحرج شيءٌ من أداته شغله عن كثيرٍ من عمله، والخيَّاط الذي يُطيل خيطه فإذا تعقَّد شغله تخليصه عن خياطته، والذي يقصِّر من شعور الناس ويلتفت يمينًا وشمالًا فيُفسد عمله. قال الملك: يا إبلاد، كأنك تريد أن تعلِّم الناس أن يمهروا وتعلِّمني أيضًا حتى أكون ماهرًا! قال إبلاد: ثلاثةٌ زعموا أنهم مَهَروا وينبغي لهم أن يتعلَّموا: الذي يضرِب بالصنج والعود والطبل حتى يوافق المزمار وسائر الألحان، والمصوِّر الذي يُحسن خطَّ التصاوير ولا يُحسن خلط الأصباغ، والذي يزعم أنه ليس بمحتاج إلى علم شيء من الأعمال، قال الملك: إنك يا إبلاد تعمل بغير الحق. قال إبلاد: أربعة يعملون بغير الحق: الذي لا يصدُق لسانه ولا يحفظ قوله، والسريع في الأكل البطيء في العمل والحرب وخدمة من فوقه، والذي لا يستطيع أن يُسكِّن غضبه، والملك الذي يَهمُّ بالأمر العظيم ويرتكبه.
قال الملك: لا أرى لإيراخت في النساءِ شبيهًا. قال إبلاد: أربعة نَفَر لا ينصرفون عن حالهم: المرأة التي تعودت كثرة الأزواج فلا ترضى بقلَّتِهم، والرجل الذي قد جرى لسانه بالكذب، فإذا أراد الصدق اشتدَّ عليه، والرجل الغليظ الكَدِن المعجَب برأيه لا يقدر أن يكون ليِّنًا ساكنًا، والرجلُ البَطِرُ الذي قد عدا طورَه وطباعُه الفجور فلا يستطيع أن يتحول من الفساد إلى الصلاح. قال الملك: ليس يأتيني النوم على حزني لإيراخت، قال إبلاد: ستة نفَر لا ينبغي لهم أن يهجعوا: الكثيرُ المالِ وليس له خازنٌ أمينٌ عليه، والمرء يريد الفتك بصاحبه ولا يقدر عليه، والقاذف الناس بالبهتان عن عَرَضِ الدنيا، والرجلُ الشديدُ المرضِ ولا طبيبَ له، والمرءُ الفاجرُ الزوجةِ، والمحبُّ الذي يتخوف الأحداث على قرينه. قال الملك: تنطق بين يديَّ مع ما ترى من سَخَطي يا إبلاد! قال إبلاد: سبعةٌ لا يزالون في سَخَطٍ: الملكُ السريعُ الغضبِ الضيِّقُ الصدرِ غير المتئد، والمتئد الذي ليس له مع تؤدته علم، وعالمٌ غيرُ مريدٍ للصلاح، ومريدٌ للصلاح غير عالِم، والقاضي المحبُّ للدنيا، والرحيم للناس البخيل بما عنده، وجوَّادٌ يلتمس الثواب والشكر في العاجل. قال الملك: قد عنَّيت نفسك يا إبلاد وإيايَّ معك! قال إبلاد: تسعة نفر يُعنُّون أنفسهم وغيرهم: المكثِر من المال الواثق بالناس، والملتمس ما لا يَنال ولا ينبغي له إدراكه، والبذيءُ الفاجرُ العادي طورَه، والذي يرى اللِّينَ ضعفًا وحُسنَ الخلق وهُنًا، ولا يقبل من ذي نصيحة إن بذلها له، ومن آزر الملوك والعُظماء ولا رأيَ له ولا يتعلَّم من غيره، وطالب العلم بخصومة من هو أنبل منه، والمحتال للملوك غيرُ الباذل لهم النصيحة ولا المودَّة، والملك الذي يكون خادمه وقهرمانه كذَّابًا هَذِرًا، والبطيء الفهم الذي لا يكادُ يفهم ولا يقبل الأدب؛ قال الملك: حسبك يا إبلاد! فلقد تركتني في شكٍّ من أمري، قال إبلاد: إنما ينبغي أن يجرَّب الناس في عشرة أشياء: الجريءُ في القتال، والحرَّاث في العمل، والعبد في عِشرة سيِّدِه، والملك في الغضب كيف يكون حِلْمه وعلمه، والتاجر في مخالطة صديقه، والإخوان بالاحتمال للأذى، والفَطِن عند الشدائد كيف يكون رفقه وحيلته، والناسك في ورعه وتنزُّهه، والجواد بالبذل والعطف، والفقير باجتناب الإثم وطلب الرزق من الحلال.
ثم سكت إبلاد، وعلم أنَّ الملك قد اشتدَّ حزنه على إيراخت، واشتاق إلى رؤيتها، فقال: أنا خليقٌ بإتيان الملك بهذه التي قد أحبَّها وحرص على رؤيتها أشدَّ الحِرص، وحَلُمَ عني في طول مُرَادَّتي إياه في أشياءَ كثيرة، وإغلاظي له في القول، أيها الملك إني — مع رقَّةِ شأني وضعف خطري — قد أغلظت في القول واجترأت، وأنتم أيها الملوك — لِكَرَمِ أصولكم وسَعة أحلامكم — ملكتم أنفسكم وصبرتم على ما سمعتم منِّي، فالشكر منِّي أيها الملك إذ لم تأمر بقتلي، وها أنا قائمٌ بين يديك، وقد فعلتُ الذي فعلتُ بنصحي، فإن كانت دخلت هذه في معصية فإنَّ لكم الحجَّة والسلطان على عقوبتي وقتلي.
فلما سَمِعَ الملك أن إيراخت حيَّة اشتدَّ فرحه وقال لإبلاد: إنه كان يمنعني من الغضب عليك ما علمتُ من نصيحتك وصدق حديثك، وكنت أرجو من علمك بالأمور ألَّا تقتل إيراخت؛ فقال إبلاد: إنما أنا عبدكم، وحاجتي إليكم اليوم ألَّا تَعجَلوا بعدها في الأمر العظيم الذي يُندَم عليه ويكون في عاقبته الهم والحزن كما رأيت، ولا سيما في أمر هذه التي لا تجد لها عديلًا في الأرض ولا شبيهًا، وأن تتلبثوا، فقال الملك: بحقٍّ قلتَ يا إبلاد، وقد قبلتُ قولك وكل ما ذكرت، فكيف في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد مرَّ بي؟ ولست عاملًا بعدها صغيرًا ولا كبيرًا إلَّا بعد المؤامرة والنظر والتؤدة.
ثم إنَّ الملك أمر إبلاد أن يأتيه بإيراخت، فأتاه بها فأعطاها تلك الثياب، واشتد فرحه بها، وقال لها: اصنعي ما أحببتِ، فلن أصرف بعدُ عن هواك شيئًا. فقالت إيراخت: دام ملكك إلى الأبد، كيف — لولا رأيك أيها الملك وسعة خلقك — تندم على سيئة كانت منك؟ فإنك لو تركت ذكري آخر الدهر كنتُ لذاك أهلًا للذي كان من سفهي وشِقوتي وإقدامي على ما أقدمتُ عليه من الأمر الذي له أمَرَ الملك بقتلي، وبرأفتك شكرتَ لإبلاد حسنَ صُنعه، ولولا ثقة إبلاد بسعةِ خلقك لنفَّذ أمرك في سلطانك.
قال الملك لإبلاد: قد اصطنعتَ عندي ما استوجبتَ به شكري، ولم تصنع بي شيئًا هو أعظم عندي من أنك لم تقتل إيراخت، بل أحييتها بعد ما قتَلتُها، فوهبتَها لي ولجميع الرعيَّة، فلم أكن قط أرضى عنك منِّي اليوم، وأنت مسلَّط على مُلكي فاصنع فيما أحببت ما أحببت، قال إبلاد: ليست بي حاجة فيما قِبَلك إلَّا التأني عند الغضب، والروِيَّة عند الفكر، فقال الملك: أنا صائرٌ إلى رأيك.
ثم إنَّ الملك أمر بقتل البرهميين الذين أشاروا عليه بقتل العِدَّة التي ذكرتها، وقرَّت عينُه وعيون أهل مملكته وولده بالوزراء الصالحين الذين هم أحبُّ الخلق إليه.