باب مهرايز ملك الجرذان١
قال الملك للفيلسوف: قد فهمتُ مثَل الحلم فيما بين الملوك وقرابينهم، ولكن أريد أن تعرِّفني كيف ينبغي للإنسان أن يلتمس له مُشيرًا مُناصحًا، وما الفائدة المُستفادة من المشير الحكيم؟
فحضروا يومًا وتفاوضوا في أشياءَ كثيرة إلى أن انتهى بهم الكلام إلى هذا المعنى، وهو: هل في استطاعتنا أن نُزيل عنَّا ما قد توارثناه من أسلافنا من الفزَع والخوف من السنانير أم لا يمكن ذلك؟ فقال شيرع وبغداد وزيراه: أنت رئيسٌ علينا لأنك في غاية العقل وإصابة الرأي، وقد قيل في آفتين من الآفات لا يُمكن دفعهما إلَّا بمدبِّر حكيم مُصيب، ونحن متكِلون على حِلم الملك وحكمته وحسن تدبيره في هذا الأمر وغيره، ونحنُ مع هذا مُستعدُّون لأمر الملك، فإنه سيكون لنا وللملك فيه اسم عظيم إلى الأبد، وسبيل جميع الجُرذان وخاصةً نحن أن نبالغ ونحرص ونجتهد في تبليغ الملك إرادته، ولا سيَّما في هذا الأمر ولو بذَهَاب أنفسنا، فلمَّا فرغ الوزيران من هذا الخطاب كانت عين الملك إلى الوزير الثالث، فلمَّا لم يرَهُ يتكلم قال له بغضب: يا هذا قد كان سبيلك أن تذكر لنا ما عندك في هذا الأمر، ولا تكونَ كأنك أخرس أبكم لا تقدر على الجواب.
فلمَّا سمع الوزير من الملك هذا الكلام قال: ليس يجب أن يعذِلني الملك حيث أمسكتُ عن الكلام إلى هذا الوقت؛ لأني فعلت ذلك لأستمع جميع ما أتى به أصحابي على الكمال، وأفكِّر فيه، ثم بعد ذلك أذكر ما عندي. قال له الملك: قل إذن ما عندك؛ قال: ما عندي أكثرُ من هذا، وهو أنه إن علم الملك أنَّ له حيلة يبلغ بها مراده من هذا الأمر، ويتحقَّق ذلك تحققًا صحيحًا، وإلَّا فما سبيله أن يحرص عليه ولا يدبِّر بفكره فيه؛ لأنَّ ما يُتوارث من الآباء والأسلاف في الأصلاب والجنس ويتأدَّى من الآباء إلى الأولاد بالطبع، لا يقدر مَلك من الملائكة — دع الناس — على تغييره؛ قال الملك له: ليس ما يُتوارث من الجنس فقط، ولكن كل أمر من الأمور وإن صغر وقلَّ لا يمكن أن يتمَّ إلَّا بعنايةٍ من فوق، وذلك أنَّ انتهاء كل أمرٍ من الأمور إنما يكون في زمانٍ من الأزمنة، غير أنَّ معرفة ذلك الزَّمان خفيَةٌ عن الناس، والعِنَايَةُ تحتاج إلى حرصٍ كما يحتاج ضوء العينين إلى ضوء الشمس. قال الوزير: الأمر على ما قال الملك، لكن إذا لم تمكن الحيلة وليس لمقاومة الشيء الذي يتوارث مع الجنس وجه، فتركه أصلح؛ فإنَّ من قاوم ما يُتوارث في الجنس فكأنه يُريد أن يعارض ما قد اتُّفِق عليه، ورُبَّما نتج من ذلك آفة أعظم من الأولى وآل الأمرُ فيه إلى أحوال من العطب لا تتلافى، كما أصاب الملك الذي يُحدَّث عنه، قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الوزير: زعموا أنه كان على بعض نواحي النيل ملك، وكان في بلده جبلٌ شامخٌ كثيرُ الأشجار والنبات والثمار والعيون، وكانت الوحوش وسائر الحيوانات التي في ذلك البلد يعيشون من ذلك الجبل، وكان في سفح ذلك الجبل نَقب يخرج منه جزء من سبعة أجزاء من جميع الرياح التي تهبُّ في الثلاثة الأقاليم ونصف من أقاليم العالم، وبالقرب من ذلك النقب بيتٌ في غاية حُسن البناء والترصيف لم يكن له نظيرٌ في العالم كله، وكان الملك وأسلافه من الملوك يسكنون ذلك البيت والموضع، لم يكن يتهيأ لهم أن يتحوَّلوا منه. وكان للملك وزير يُشاوره في أموره، فاستشاره يومًا من الأيام، وقال له: تعلم أنَّا — بما قد تقدم من أفعال آبائنا الجميلة — في نِعمٍ فائضة، وأمورُنا تجري على محبَّتِنا، وهذا المنزل الذي نحن فيه لولا هذا النقب ولولا كثرة الرياح لكان شبيهًا بالجنَّة، ولكن سبيلنا أن نجتهد فلعلَّنا نجد حيلةً يمكننا بها أن نسُدَّ فمَ هذا النَّقب الذي تهبُّ منه هذه الرياح؛ فإنَّا إذا فعلنا ذلك كنَّا قد ورثنا الجنة في هذه الدنيا، مع ما يكون لنا من الأثر الجليل المؤبَّد.
ثم إنَّ صاحب الأيَّل لما رآه لا يشرب ردَّه إلى بيته، وكان بيت صاحب الأيَّلِ بالقربِ من الشط الذي كان الحمار مربوطًا فيه، ولم يزل الحمار يمدُّ عينه وينظر إلى الأيَّلِ في رجوعه إلى أن دخل بيت صاحبه، وعلَّم على الموضع علامة يعرفه بها، ثم إنَّ صاحب الحمار ردَّه أيضًا إلى بيته وشدَّه على معلَفه وطرح له عَلَفًا، فكان الحمار مشغول القلب بالمُضيِّ إلى عند الأيَّلِ فلم يَهنِه أكل ولا شرب، وأخذ يفكِّر في ذلك، وقال: ينبغي أن أجعل هربي إليه في الليل؛ فلمَّا جاء الليل واشتغل أصحابه بالعشاء والشرب اجتهد حتى قلع مِقوده وخرج هاربًا إلى الدار التي دخل فيها الأيَّلُ، فلما انتهى إليه وجد الباب مغلقًا مستوثقًا منه فاطَّلع من شقِّ الباب فرأى الأيَّلُ مُخلًّى من رباطه، وخشيَ الحمار أن يراه الناس فوقف في زاوية الحائط إلى الغداة، فلمَّا كان بالغداة أخذ الرجل الأيَّلَ ومضى به إلى النهر ليسقيه، وكان الرجل يمشي قدامه ويسوقه بحبل مربوط في عنقه، فلمَّا رأى الحمار ذلك اتَّبعه يماشيه ويخاطبه بلغته، ولم يكن الأيَّلُ عارفًا بلغة الحمير فلم يفهم عنه كلامه ونفر منه، وأخذ يقاتله، والتفت صاحب الأيَّل وكان معه عصا فضربه، فقال الحمار في نفسه: ما يمنعني من كلام هذا الأيَّلِ واللطف به والخدمة له وكشْف ما عندي إلَّا هذا الرجل الذي يقوده؛ فوثب عليه وقبض على ظهره بأسنانه فعضَّه عضَّة شديدة، فما تخلص الرجل منها إلَّا بعد شِدَّة، فقال الرجل: إن أنا واخذته لم آمن من بليَّةٍ يلقيها بي، ولكني أودُّ أن أعلِّم فيه علامةً حتى إذا رأيته طالبت صاحبه بثأري، فأخرج سكِّينًا كانت معه فقطع بها أذني الحمار، وعاد الحمار إلى دار أصحابه، وكان الذي نزل به من صاحبه أشدَّ من قطع أذنيه، فحينئذٍ فكَّر الحمار وقال: لقد كان آبائي أقدَر منِّي على هذا، لكن خافوا من سوء عاقبته فامتنعوا منه.
قال الملك: قد سمعت مَثلك هذا، وما سبيلك أن تخاف من هذا الأمر، فإنه — والعياذ بالله — إن لم يتمَّ لنا ما نريده منه فلا بأس عليك وعليَّ، فنحن قادرون على خلاص نفوسنا من سوء عاقبته. فلمَّا رأى الوزير الملك مُشتهيًا لهذا الأمر لم يمارِهِ بعدها فيه، ولكن دعا له.
ثم إنَّ الملك أمر بالمناداة في جميع أعماله ألَّا يبقى صغير ولا كبير إلَّا ويجيئه في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا بحِملِ حطب، فعمل الناس على هذا، وكان الملك قد عرف الوقت الذي ينقص فيه هبوب الرياح، فلمَّا كان في ذلك الوقت أمر الناس بسدِّ النقب بالحجارة والحطب والتراب، وأن يبنوا عليه دَكَّةً عظيمةً، ففعلوا ذلك، وامتنعت الرياح التي كانت تخرج من ذلك النقب، وفقد البلد كله نسيمَ الهواء وهبوب الرياح، فجفَّت الأشجار ونشِفت المياه، ولم يمضِ ستة أشهر حتى جفَّت العيون، ويبست كل خضراء في الجبل من الشجر والنبات، وبلغ ذلك إلى نحوٍ من مائة فرسخ، وتماوتت المواشي وسائر الحيوانات، ووقع الوباء في الناس، وهلك خلقٌ كثير؛ فلم يزل هذا البلاء بأهل البلد فوثب من بقيَ منهم ممَّن به رمق، وتجمعوا إلى باب الملك فقتلوه ووزيرَه وأهله ولم يبقَ منهم أحد، ثم مضوا إلى باب ذلك النقب فقلعوا الدكَّان والحجارة من الباب وطرحوا في ذلك الحطب نارًا فالتهبت، فلمَّا بدأت في اللهيب عاد الناس إلى مواضعهم، ثم إنَّ الريح التي كانت قد احتقنت في مدة الستة أشهر خرجت بحميَّة شديدة فطرحت النار في سائر البلد، ودام هبوب الرياح يومين وليلتين، فلم يبقَ في ذلك مدينة ولا قرية ولا حصن ولا شجرة إلَّا أحرقته النار.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن ما يُتوارث ويسري في الجنس صعب الزوال، ولكنَّ سبيل الإنسان إذا أراد أن يُباشر أمرًا من الأمور، وكان بالقرب منه رجل حكيم، أن يَسأله أولًا ويُشاوره ويأخذ رأيه فيه، وإن لم يكن بالقرب منه فسبيله أن يشاور العوامَّ فيه ويطلب البحث معهم والتفتيش؛ فإنه بهذا الطريق يمكنه أن يعلم ما في عاقبة هذا الأمر من الخير والشرِّ عندما يمعن في الفحص والتنقيب.
فلمَّا سمع الملك ذلك بدأ يُشاور الثلاثة وزراء بالعكس من أسفل إلى فوق، فقال لأصغرهم عنده: ما تقول أنت في هذا الأمر الذي نحن فيه، وما الذي يجب أن نَصْنَع؟ قال الوزير: عندي أن تُجعل أجراس كثيرة، ويعلَّق كل جرسٍ منها في عنقِ واحدٍ من السنانير ليكون كلما ذهب وجاء سمعنا صوت الجرس فحذِرنا منها ولم يَنَلْنَا مضرَّة. فقال الملك للوزير الثاني: ما الذي عندك فيما أشار به صاحبك؟ قال: أنا غير حامد لمشورته، وَهَبْنَا أحضرنا أجراسًا كثيرة، مَن ذا يقدر أن يتقدَّم إلى السنَّوْر حتى يُعلِّق عليه ذلك؟ وهبنا علَّقنا الأجراس في رقابها، فما الذي يمنع السنَّوْر من الإضرار بنا؟ وما الذي يزيل عنَّا الخوف؟ ولكن الذي عندي أن نخرج جميعنا من هذه المدينة ونقيم في البرِّية سنة واحدة إلى أن يعلم أهل المدينة أنهم قد استغنوا بغيبتنا عن السنانير؛ لأنه قد يلحق الناس مضرة عظيمة من السنانير، فإذا علموا أنه لم يبقَ في المدينة جُرَذ واحد قتلوا السنانير وطردوها وتهاربت، فإذا هلكوا عُدنا نحن بأجمعنا إلى المدينة كما كنَّا. قال الملك للوزير الثالث: ما عندك فيما قال الوزير؟ قال: أنا غير حامدٍ لما قال، وذلك أنَّا لو خرجنا بأجمعنا إلى البرِّية، وأقمنا فيها سنة واحدة، فعلى كل حال ليس يمكن أن تفنى السنانير من هذه المدينة، ونلقى نحن في البرِّية من الشقاء والبلاء ما ليس هو بدون فزعنا من السنانير؛ لأنَّا لم نَعْتَدِ الشقاء قبل هذا، ثم إنَّا لو رجعنا إلى المدينة لم يدُمْ لنا ذلك الأمر إلَّا مُدَّة يسيرة، وذلك أنَّ الناس إذا عدنا وعاد فسادنا أعادوا السنانير وعادت الحال في الفزع كما كان، ويمضي شقاؤنا وغربتنا فارغًا؛ قال له الملك: فقل الآن أنت ما عندك.
قال الوزير، وهو روذباد: لا أعرف في هذا الباب إلَّا حيلةً واحدةً، وهو أن يُحضِر الملك إلى حضرته جميع الجُرذان الذين في هذه المدينة ونواحيها، فيأمرهم أن يتخذ كل واحدٍ منهم في البيت الذي يأوي فيه ثقبًا يسع جميع الجُرذان، ويُعِدُّ فيه زادًا لكفايتهم عشرة أيام، ويفتح للبيت سبعة أبواب مما يلي الحائط، وثلاثة أبواب مما يلي خزانة الرجل والثياب والفُرُش، فإذا فعلوا هذا قُمنا بأجمعنا إلى دار بعض الموسرين ممن يكون له في داره سنَّورٌ واحد، وأقمنا على كل باب من السبعة أبواب نرصد السنَّوْر كيلا يدخل علينا بغتة، ويكون لنا عليه عين على ذهابه ومجيئه؛ لأنَّه لا بدَّ من أن يطمع ويقف على بعض الأبواب، ثم ندخل بأجمعنا من الثلاثة أبواب إلى خزانة المتاع، ولا نَعْرِضَ للمأكول، ولكن نقصد إلى الفساد في الكسوة والفرُش، ولا نُسرف في الفساد، فإذا رأى صاحب المنزل ذلك الفساد قال: لعلَّ هذا السنَّوْر لا يكفي! فيزيد آخر، فإذا فعل ذلك أكثرنا من الفساد وبالغنا فيه، فيميِّز ذلك صاحب المنزل ويقول: إنَّ الفساد يزيدُ بكثرة السنانير، ولكني أُجرِّب بإخراج سنَّوْرٍ واحدٍ، فإذا فعل ذلك ونقص سنَّوْر نقصنا نحن من الفساد قليلًا، فإذا أخرج الثاني نقصنا أيضًا من الفساد أكثر، فإذا أخرج الثالث خرجنا من ذلك المنزل إلى غيره وأجرينا أمره مجرى البيت الأول، فلا نزال ندور من منزل إلى منزل ونملأ المدينة وندورها إلى أن يتبيَّن للناس أنَّ الذي يلحقهم من المضرَّة العظيمة هي من قِبَل السنانير، فإنهم إذا تبيَّنوا ذلك لم يقتصروا على قتل السنانير التي في البيوت فقط لكنهم يطلبون السنانير البرِّية فيقتلونها.
ففعل الملك وسائر الجرذان ما أشار به الوزير، فما مضت ستة أشهر حتى هلك كل سنَّور في المدينة ونواحيها، ومضى ذلك الجيل من الناس، ونشأ بعدهم قرنٌ آخر على بِغضة السنانير، فكانوا متى ظهر لهم أدنى فسادٍ من الفأر يقولون: انظروا لا يكون اجتاز بالمدينة سنَّوْر، وكانوا أيضًا متى حدث بالناس أو بالبهائم مرض يقولون: يوشك أن يكون عبر بهذه المدينة سنَّوْر، فبهذا النحو تخلَّص الجرذان من فزع السنانير واطمأنوا منهم.
فإذا كان هذا الحيوان الضعيف المهين احتال بمثل هذه الحيلة حتى تخلَّص من عدوِّه، ودَفع الضرر عن نفسه، فما يجب أن نقطع الرجاء من الإنسان — الذي هو أكيس الحيوان وأكمله وأحكمه — أن يدرك من عدوِّه ما أراد بحيلته وتدبيره.