باب السِّنَّور والجرذ
قال الملك للفيلسوف: قد سمعتُ المَثَل الذي ضربتَ، فاضرِب لي الآن إن رأيت مَثَلَ رجلٍ كثُر عدوُّه وحصروه من كل جانب، فأشرف على الهَلَكة، فالتمس المخرج بموالاة بعض العدوِّ ومصالحته، فسلِم ممِّا يتخوَّف، ووفى لمن صالح منهم، فأخبرني عن موضع الصلح وكيف يُلتَمس ذلك؟
ثم قال: لا أرى حيلةً أمثَلَ من التماس صلح السنَّوْر؛ فإنَّ السنَّوْر قد نزل به بلاء، ولعلِّي أقدر على صلاحه، ولعلَّه لو قد سمع منِّي ما أكلمه به من الكلام الصحيح الذي لا خداع فيه أن يفهم عنِّي ويطمع في معرفتي، ويسلَس بذلك لصلحي، ولعلَّه يكون له ولي في ذلك نجاة، ثم دنا منه فقال: كيف حالك؟ فأجابه السنَّوْر: كالذي تهوى، في الضنك والضيق! قال الجرذ: لا تكذيب لك، لعمري لقد كان يسرُّني ما ساءك، وأرى ما ضيق عليك لي سعة، ولكنِّي اليوم قد شاركتك في البلاء، فلا أرجو لنفسي خلاصًا إلَّا بالأمر الذي أرجو لك به الخلاص، فذلك الذي عطفني عليك، وستعرف مقالتي أنْ ليس فيها ريبٌ ولا مخادعةٌ، فإنه قد ترى مكان ابن عِرس كامنًا لي، والبومة تُريد اختطافي، وكلاهما لي ولك عدوٌّ، وهما يخافانك ويهابانك، فإن أنت جعلت لي أن تُؤمِّنني إن أنا دنوت منك فأنجو بذلك منهما؛ فإني مُخلِّصك مما أنت فيه، فاطمئِنَّ إلى ما ذكرتُ، وثق به منِّي، فإنه ليس أحدٌ أبعدَ منَ الخير من اثنين منزلتُهما واحدة وصفتُهما مختلفة: أحدهما من لا يثق بأحد، والآخر من لا يثق به أحد، ولك عندي الوفاء بما جعلتُ لك من نفسي، فاقبَل منِّي واسترسِل إليَّ وعجِّل ذلك ولا تؤخِّر، فإنَّ العاقل لا يؤخِّر عمله، ولتَطِبْ نفسك ببقائي كما طابت نفسي ببقائك؛ فإنَّ كل واحدٍ منَّا ينجو بصاحبه، كالسفينة والركَّاب في البحر، فبالسفينة يخرج الركَّاب من البحر وبالركَّاب تخرج السفينة.
فلمَّا سمع السنَّوْر مقالة الجرذ سُرَّ بها، وعرف أنه صادق، فقال للجرذ: أرى قولك شبيهًا بالحق والصدق، فأنا راغبٌ في هذا الصلح الذي أرجو لنفسي ولك فيه الخلاص، ثم أشكر لك ذلك ما بقيت وأجازيك به أحسن الجزاء. قال الجرذ: فإذا دنوتُ منك فليَرَ ابن عِرس والبومة ما يعرفان به صلحنا فينصرفان آيسينِ، وأُقبِل أنا على قرضِ الحبال؛ فلمَّا دنا الجرذ من السنَّوْر أخذه فالتزمه، فلمَّا رأت البومة وابنُ عِرس ذلك انصرفا خائبينِ، وأخذ الجرذ في قطع حبائل السنَّوْر فاستبطأه السنَّوْر وقال للجرذ: ما أراك جادًّا في قطع رباطي، فإن كنت — حين ظفرت بحاجتك — تبدَّلت عما كنتَ عليه وتوانيت في حاجتي فليس هذا للكريم بخلق؛ أن يتوانى في حاجة صاحبه إذا استمكن من حاجة نفسه، وقد كان لك في مودَّتي من عاجل المنفعة والاستنقاذ من الهلكة ما قد رأيتَ، وأنت حقيقٌ أن تكافئني، ولا تذكرَ عداوةَ ما بيني وبينك؛ فإنَّ ما حدث بيننا حقيقٌ أن يُنسِيك ذلك، وإنَّ الكريم لا يكون إلَّا شكورًا غير حقود، تُنسيه الخَلَّةُ الواحدة من الإحسان الخِلال الكثيرة من الإساءة، وأعجَل العقوبة عقوبةُ الغدر واليمين الكاذبة، ومَن إذا تُضُرِّع إليه وسُئل العفو لم يعفُ ولم يصفَح. قال الجرذ: الأصدقاء صديقان: طائع ومضطرٌّ، وكلاهما يلتمس المنافع ويحترس من المضارِّ، فأمَّا الطائع منهما فيُستَرسل إليه ويوثَق به على كل حال، وأمَّا المضطر فإنَّ له حالاتٍ يُستِرسل إليه فيها، وحالاتٍ يُتَّقى فيها، فلا يزال العاقل يَرتهن منه بعض حاجته ببعض ما يُتقَى وما يُخاف، وليس عامَّة التواصل والتحاب بين الناس إلَّا التماس عاجلِ النفع، وأنا وافٍ لك بما جعلت على نفسي، ومحترسٌ من أن يصيبني منك مثلُ الذي ألجأني إلى صلحك؛ فإنَّ لكل عملٍ حينًا، وإن لم يكن في حينه فلا عاقبةَ له، وأنا قاطعٌ حبائلك لوقتها، غيرَ أنِّي تارك عُقدةً واحدةً أرتهنك بها، فلا أقطعها إلَّا في الساعة التي أعرف أنك عنِّي فيها في شُغُل، ففعل ذلك، وباتا يتحادثان حتى إذا أصبحا إذا هما بالصيَّاد قد أقبل من بعيد. فقال الجرذ: الآن جاء موضع الجِدِّ في قطع بقية حبائلك، فقطع حبائله، ولم يدنُ منهما الصياد حتى فرغ الجرذ، على سُوءِ ظنٍّ من السنَّوْر ودَهَش، فلمَّا أفلت عدا إلى الشجرة فصعدها، ودخل الجرذ الجحر، فأخذ الصيَّاد حبائله مقطَّعة وانصرف خائبًا.
وخرج الجرذ بعد ذلك من جُحره فرأى السنَّوْر من بعيد، فكره أن يدنوَ منه، وناداه السنَّوْر: أيها الصديق، ذا البلاء الحسن! ما يمنعك من الدنوِّ منِّي لأجزيك بأحسن ما أبليتني؟ هلمَّ إليَّ ولا تقطع إخائي، فإنه مَن اتخذ صديقًا ثم أضاع ودَّ إخائه حُرِم ثمرة الإخاء، وأيس من منفعة الإخوان، وإنَّ يدك عندي اليدُ التي لا تُنسى، فأنت حقيقٌ أن تلتمسَ مكافأة ذلك منِّي ومن إخواني وأصدقائي، فلا تخافنَّ منِّي شيئًا، واعلم أنَّ ما قِبَلي لك مبذول، ثم حلف له واجتهد على تصديق ما قال، فأجابه الجرذ أنه رُبَّ عداوةٍ باطنةٍ ظاهرُها صداقة، وهي أشدُّ ضرًّا من العداوة الظاهرة، ومَن لم يحترس منها وقع موقع مَن يركب ناب الفيل المغتلِم ثم يغلبه النعاس، وإنما سُمِّي الصديقُ صديقًا لما يُرجى من نفعه، وسُمِّي العدوُّ عدوًّا لما يخاف من ضرره؛ فإنَّ العاقل إذا رجا نَفْع العدوِّ أظهر له الصداقة، وإذا خاف ضَرَّ الصديق أظهر له العداوة، أوَلَا ترى أولاد البهائم تتبَع أمهاتها رجاء ألبانها، فإذا انقطع ذلك انصرفت عنها؟ وكما أنَّ السحاب يلتئم ساعة ويتقطَّع أخرى، ويَهمي ساعة ويُمسِك أخرى، كذلك العاقل يتلوَّن مع متلوِّنات الأمور عن اختلاف أحوال الأصحاب، فينبسط مرة وينقبض أخرى، ويسترسل مرة ويحترس أخرى، وربما قَطَعَ المرءُ عن صديقه بعض ما كان يصله بفضله فلم يخَفْ شرَّه؛ لأنَّ أصل أمره لم يكن عداوة، فأمَّا من كان أصلُ أمره عداوة، وتحدث صداقته لحاجةٍ حملته على ذلك، فإنه إذا ذهب الأمر الذي أحدث ذلك صار إلى أصل أمره، كالماء الذي يسخن بالنار، فإذا رُفِع عنها عاد باردًا، فلا عدوَّ أضرُّ لي منك، وقد كان اضطرني وإياك أمرٌ أخرجنا إلى ما صرنا إليه من المصالحة، وقد ذهب الأمر الذي احتجتَ إليَّ واحتجتُ إليك فيه، وأخافُ أن يكون مع ذهابه عَود العداوة بيني وبينك، ولا خيرَ للضعيفِ في قربِ العدوِّ القويِّ، ولا للذليلِ في قربِ العدوِّ العزيزِ، ولا أعلمُ لك فيَّ حاجة إلَّا أن تريد أكلي، ولا أرى الثقة بك، فإنِّي قد علمت أنَّ الضعيف هو أقرب إلى أن يَسلم من العدوِّ القويِّ إذا هو احترس منه ولم يغترر به، من القويِّ إذا اغتر بالضعيف واسترسل إليه، والعاقل يصانع عدوَّه إذا اضطُرَّ إليه فيظهرُ له وُدَّه ويريه من نفسه الاسترسال إليه إذا لم يجد من ذلك بدًّا، ويعجِّل الانصراف عنه إذا وجد إلى ذلك سبيلًا.