باب الملك والطير قبرة
فلمَّا جاء قبَّرة ورأى فرخه مقتولًا حزن وصاح وقال: قُبحًا للملوك الذين لا عهدَ لهم ولا وفاءَ! وويلٌ لمن ابتُلِيَ بصحبتهم! فإنهم لا حميمَ لهم ولا حريمَ، ولا يحبُّون أحدًا، ولا يكرُم عليهم إلَّا أن يطمعوا عنده في غَناء فيقرِّبوه عند ذلك ويكرموه، فإذا قضوا منه حاجتهم فلا وُدَّ ولا حِفاظَ، ولا الإحسان يجزون به، ولا الذنب يَعفون عنه، الذين إنما أمرهم الفخرُ والرياء والسمعة، الذين كلُّ عظيمٍ من الذنوب يركبونه، وهو عندهم صغير حقير هيِّن. ثم قال: لأنتقِمَنَّ اليوم من الكَفور الذي لا رحمةَ له، الغادر بإلفه وتِرْبه، وصاحب ملاعبته ومواكلته، ثم وثب في وجه الغلام ففقأ عينيه برجليه، ثم طار فوقع على مكانٍ مُشرِف.
فبلغ الملك ذلك وما فعل بابنه، فجزع جزعًا شديدًا، وطمع أن يحتال لقبَّرة فيظفر به، فركب إليه ووقف عنده وناداه ودعاه باسمه، وقال: أنت آمِن فأقبِل إلينا؛ فأبى ذلك قبَّرة وقال: أيها الملك، إن الغادر لا يُجاز له بغدره، وإن أخطأه عاجل العقوبة لم يخطِئه آجلها، حتى تدركَ الأعقابَ وأعقابَ الأعقابِ، وإن ابنك غدر بابني، فعجَّلت له العقوبة.
قال الملك: قد — لعمري — فعلنا ذلك بك، فانتقمت منَّا، فليس لنا قِبَلك ولا لك قِبَلنا وترٌ مطلوب، فارجع إلينا آمنًا، قال قبَّرة: لستُ راجعًا إليك، فإن ذوي الرأي قد نُهوا عن قُرب الموتور، وقالوا: لا يزيدَنك لطفُ الحقود ولينُه وتكرِمتُه إلَّا وحشة منه، فإنك لا تجدُ للموتور الحقود أمانًا هو أوثقُ من الذعرِ والبعد عنه والاحتراس. وكان يُقال: إنَّ العاقل إنما يَعُدُّ أبويه من الأصدقاء، ويعدُّ الإخوة من الرفقاء، والأزواج إلفًا، والبنين ذِكرًا، والبنات خصيمات، والأقارب غرماء، ويعدُّ نفسه فردًا وحيدًا، وأنا اليوم الفرد الوحيد قد تزوَّدت من عندكم من الحزنِ عِبئًا ثقيلًا لا يحمله معي أحد، وأنا ذاهب فعليك السلام.
فقال الملك: إنك لو لم تكن اجتزيت منَّا ما صنعنا بك، ولو كان صنيعك بنا من غير ابتداءٍ منَّا إليك بالغدر كان الأمر كما ذكرت، فأمَّا إذ كنَّا نحن بدأناك فما ذنبك؟ وما الذي يمنعك من الثقة بنا؟ فهلمَّ فارجع فإنك آمِن، قال قبَّرة: إنَّ للأحقاد في القلوب لمواقعَ مُوجِعة خفيَّة، فالألسن لا تصدُق عن القلوب، والقلبُ أعدل على القلبِ شهادةً من اللسان، وقد علمتُ أنَّ قلبي لا يشهد للسانك، ولا قلبك للساني؛ قال الملك: ألست تعلمُ أنَّ الضغائن والأحقاد تكون بين كثيرٍ من الناس، فمن كان له عقل كان على إماتة الحقد أحرصَ منه على تربيته؟ قال قبَّرة: إن ذلك لكَمَا ذكرْتَ، وليس ذو الرأي مع ذلك بحقيقٍ أن يظنَّ بالموتور أنَّه ناسٍ ما وتره به ومنصرفٌ عنه، وذو الرأي جديرٌ بأن يتخوَّف الحيَل والخُدَع، ويعلم أنَّ كثيرًا من الأعداء لا يُستطاع بالشدَّة والمُكَابرة حتى يُصاد بالرفق والمُلاينة كما يُصاد الفيلُ الوحشيُّ بالفيلِ الداجنِ. قال الملك: إنَّ الكريم لا يترك إلفه، ولا يقطع إخوانه، ولا يُضيع الحِفاظ، وإن هو خاف على نفسه، حتى إنَّ هذا الخُلق ليكون في أوضع الدواب منزلة، وقد عرفنا أنَّ ناسًا يذبحون الكلاب ويأكلونها، فيرى ذلك الكلب الذي قد ألفهم، فيمنعه إلفه إياهم من أن يُفارقهم، قال قُبَّرة: إنَّ الأحقاد مخوفة حيثُ كانت، وأشدُّها ما كان في أنفُس الملوك، فإن الملوك يدينون بالانتقام، ويرون الطلب بالوتر مكرُمة وفخرًا، ولا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بسكون الحقود، فإِنما مَثَل الحقد في القلب، ما لم يجد مُتحرَّكًا، مثَل الجمر المكنون ما لم يجد حطبًا، فلا يزال الحقد يتطلَّع إلى العِلل كما تبتغي النار الحطب، فإذا وجد عِلَّةً استَعَرَ استعار النار، فلا يُطفئه ماءٌ ولا كلامٌ ولا لين ولا رفقٌ ولا خضوعٌ ولا تضرُّعٌ ولا شيء دون تلف الأنفس، مع أنه رُبَّ واترٍ يطمع في مراجعة الموتور لما يرجو أن يقدر عليه من النفع له والدفع عنه، ولكني أضعف من أن أقدر لك على ما يُذهب ما في نفسك، ولو كانت نفسك لي على ما تقول كان ذلك عنِّي مغيَّبًا، فأنا لا أزال في خوفٍ وسوءِ ظنٍّ ما اصطحبنا، وليس الرأي إلَّا الفراق، وأنا أقرأ عليك السلام.
قال الملك: قد علمت أنه لا يستطيع أحدٌ لأحدٍ ضرًّا ولا نفعًا، وأنه لا شيءَ من الأشياء صغيرًا ولا كبيرًا يصيب أحدًا إلَّا بقَدَرٍ مقدور، وكما أنَّ خَلْقَ ما يُخلق وولادةَ ما يُولد وبقاء ما يبقى ليس إلى الخلائق منه شيء، كذلك فناء ما يفنى وهلاك ما يهلِك، فليس لك عندي فيما صنعت بابني ولا لابني في هلاك فرخك ذنب، إنما كان ذلك قدرًا مقدورًا، وكنَّا له عِللًا، فلا تؤاخذنا بما أتاك به القدر. قال قبَّرة: إن أمر القدر لَكَمَا ذكرت، ولكن ليس ذلك حقيقًا أن يُمنع الحازم مِنْ توقِّي المخوف والاحتراس من المحترَس منه، ولكنه يجمع تصديقًا بالقدر وأخذًا بالقوَّةِ والحزمِ، وأنا أعلم أنك تحدِّثُني بغير ما في نفسك، والأمر فيما بيني وبينك غيرُ صغيرٍ، إنَّ ابنك قتل فرخي، وفقأتُ أنا عينيه، فأنت الآن تُريد بي القتل، وتخاتلني عن نفسي لتشتفي منِّي، والنفس تأبى الموت، وقد كان يُقال: الفاقةُ بلاء، والحزنُ بلاء، وقربُ العدوِّ بلاء، وفراقُ الأحبةِ بلاء، والسقمُ بلاء، والهرم بلاء، ورأس البلايا كلها الموت، وليس أحد أعلمَ بما في نفس الموجَع المحزون ممَّن ذاق مِثلَ ما به، وأنا بما في نفسك منِّي عالمٌ؛ للمثال الذي عندي من ذلك، فلا خيرَ لي في صحبتك؛ فإنَّك لن تذكر صنيعي بابنك ولن أذكر صنيع ابنك بفرخي إلَّا أَحْدَثَ ذلك لقلوبنا تغيُّرًا.
قال الملك: إنه لا خيرَ فيمن لا يستطيع الإعراض عمَّا في نفسه، ويميته ويتناساه، حتى لا يذكر منه شيئًا، ولا يكون له في نفسه موقع؛ قال قبَّرة: إنَّ الرجل الذي في باطن قدمه قُرحة إن هو حرص على خفَّة المشي فلا بدَّ أن ينكأها، والرجل الرمِد إذا استقبل الريح فقد تعرَّض لإنكاء عينيه، وكذلك الموتور إذا دنا من عدوِّه فقد عرَّض نفسه للهَلَكة، ولا يستطيع صاحب الدنيا إلَّا توقِّيَ المتالف وتقديرَ الأمور وقلَّةَ الاتكال على القوَّةِ والحيلة، وقلَّة الاغترار بمن لا يأمن، فإنه من اتكل على قوَّته حمله ذلك على أن يسلك الطريق المخوف، ومن سلك الطريق المخوف فقد سعى في حتف نفسه، ومن لا يقدِّر طعامه وشرابه فحمل على نفسه وأعضائه ما لا يطيق فرُبَّما قتل نفسه، ومن لم يُقدِّر لقمته فأعظَمَها فوق ما يسع فوه غصَّ بها فمات، ومن اغترَّ بكلامِ عدوِّه وضيَّع الحذر فهو أعدى لنفسه من عدوِّه، وليس على الرجل النظرُ في القدَر الذي لا يدري ما يأتيه منه وما يُصرف عنه، ولكن عليه العمل بالحزم، والأخذ بالقوة في أمره، ومحاسبة نفسه في ذلك، والعاقل لا يُخيف أحدًا ما استطاع، ولا يقيمُ على الخوفِ وهو يجدُ مذهبًا، وأنا كثيرُ المذاهبِ أرجو ألَّا أتوجَّه في وجهٍ منها إلَّا وجدت فيه ما يغنيني؛ فإنَّ خلالًا خمسًا مَن تَزودهنَّ بلَّغْنَه في كل وجه وطريق، وقرَّبن له البعيد، وآنسْنَ له الغربة، وأكسَبْنَه المعيشة والإخوان: كفُّ الأذى، وحُسنُ الأدب، ومجانبةُ الريبة، وكرمُ الخلُق، والنبلُ في العملِ، وإذا خاف العاقل على نفسه طابت نفسه عن الأهل والولد والوطن؛ فإنَّه يرجو في ذلك خلَفًا ولا يرجو من النفس خَلَفًا، وشرُّ المال ما لا يُنفَق منه، وشرُّ الأزواج التي لا تُواتي البعل، وشرُّ الولد العاصي، وشرُّ الإخوان الخاذل لإخوانه، وشرُّ الملوك الذي يخافه البريء، وشرُّ البلاد بلادٌ ليس فيها أمن ولا خصب، وإنه لا أمن بي أيها الملك معك، ولا طمأنينةَ لنفسي في جوارِك.
ثم ودَّع الملك وطار.