باب ابن الملك وأصحابه
قال الملك للفيلسوف: قد فهمتُ ما ذكرتَ ما يحقُّ على الملك من التوخِّي بمعروفه أهلَ الشكر قرُبوا أم بعُدوا، فأخبرني ما بالُ الرجل السفيه يصيبُ الرفعة والشرف، والحكيم اللبيب لا يخلو من الهمِّ والجَهد؟
إنَّ العقل والجمال والاجتهاد والقوة وما سوى ذلك إنما مِلاكه القضاء والقدر.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف: زعموا أنَّ أربعةَ نفرٍ اصطحبوا: أحدهم ابن ملك، والآخر ابن تاجر، والآخر ابن شريف مِن أتمِّ الناس حُسنًا وجمالًا، والآخر ابن أكَّار. وكانوا جميعًا محتاجين قد أصابهم ضُرٌّ وجَهد، لا يملكون شيئًا إلَّا ما عليهم من ثيابهم؛ فبينما هم يمشُون إذ قال ابنُ الملك: إنَّ أمر الدنيا كله بقدر، قال ابن التاجر: العقل أفضل من كل شيء، قال ابن الشريف: الجمال خير مما ذكرتم، قال ابن الأكَّار: الاجتهاد أفضل من ذلك كله. ثم مضوا نحو مدينة يُقال لها مَطون، فلمَّا انتهوا إلى تلك المدينة أقاموا في ناحية منها، وقالوا لابن الأكَّار: انطلق فاطلب لنا باجتهادك اليوم طعامًا ليومنا هذا، فانطلق ابن الأكَّار يسأل: أيُّ عملٍ إذا عمله الرجل من غُدوة إلى الليل كَسَبه ما يُشبِع أربعة نفر؟ فقيل له: ليس شيءٌ أعزَّ من الحطب، وكان على رأس فرسخ منها، فتوجه إليه فحمل طُنًّا من حطب، فجاء به فباعه بنصف درهم، ثم اشترى به ما يُصلح أصحابه، وكتب على باب المدينة: «اجتهاد يوم واحد تبلغ قيمته نصف درهم»، وأتاهم بما اشترى فأكلوه.
فلمَّا أصبحوا قالوا لابن التاجر: انطلق أنت اليوم فاكسِب لنا بعقلك وتجارتك شيئًا، فذهب ابن التاجر، فما لبث قليلًا حتى أبصر سفينة عظيمة في البحر قد أرست إلى الشط غير بعيدٍ من المدينة، وقد خرج إليها أناسٌ كثيرٌ ليشتروا ما فيها، فساوموا أصحابها، ثم قال بعضهم لبعض: انصرفوا يومكم هذا حتى يكسُد عليهم ويُرخِصوه علينا، فجاء ابن التاجر فاشترى ما فيها بمائة ألف دينار، فلمَّا بلغ القوم ذلك أتوه فأربحوه مائة ألف درهم، فأخذها منهم وأحال صاحبَ السفينة على التجار، ورجع إلى أصحابه، فلمَّا مرَّ بباب المدينة كتب عليه: «عقل يومٍ واحدٍ بمائة ألف درهم.»
إنَّ الاجتهاد والجمال والعقل وما أصاب المرء من خيرٍ وشرٍّ فبقضاءٍ وقدرٍ، اعتبروا ذلك بما ساقه الله إليَّ من الخيرِ والسعادةِ.
ثم إنَّ الملك أتى مجلسه وقعد على سرير ملكه، وأرسل إلى أصحابه فأتوه فموَّلهم وأعطاهم وأغناهم، ثم جمع الناس والعمَّال وذوي الرأي من أهل مملكته؛ فقال: أمَّا أصحابي فقد استيقنوا أنَّ الذي رزقهم الله من الخير إنما كان بقدَرٍ فأعان عليه ببعض ما ذكروا، وأمَّا أنا فإنَّ الذي منحني الله ورزقني ووهبه لي لم يكن من الجمال، ولا من العقل، ولا من الاجتهاد، وما كنت أرجو — إذ طردني أخي — أنْ أُصيب هذه المنزلة، ولا أن أكون بها؛ لأنِّي قد رأيتُ من أهل هذه الأرض مَن هو أفضل منِّي جمالًا وحُسنًا، وعلمت أنَّ فيها مَن هو أكمل منِّي عقلًا ورأيًا وأشدُّ اجتهادًا، فساقني القضاء والقدر إلى أن اغتربت فمُلِّكت أمرًا قد علمه الله وقدَّره، وقد كنت راضيًا أن أعيش بحال خشونة وضيق معيشة؛ فقام سيَّاح كان في جمعهم ذلك فقال: أيها الملك، قد تكلَّمتَ بحلم وعقل فحَسُن ظننا بك، وعَظُمَ رجاؤنا فيك، وعرفنا ما ذكرت، وصدَّقناك فيما وصفت، وعلِمنا أنك كنتَ لِما ساق الله إليك من ذلك أهلًا بفضلٍ قَسَمه لك، وتابَع نعمه عليك؛ فإنَّ أسعد الناس في الدنيا والآخرة وأولاهم بالسرور فيها مَن رزقه الله ما رزقك، وجعل عنده مثل ما عندك، وقد أرانا الله الذي نحبَّ إذ مُلِّكت علينا، فنحمد اللهَ على ما أكرمَنَا به من ذلك وامتنَّ به علينا. وقام سيَّاح آخر فأثنى على الله تعالى ومجَّده وذكر آلاءه وقال: أيها الملك، إني قد كنت — وأنا غلامٌ قبل أن أكون سائحًا — أخدم رجلًا من أشراف الناس، فلما بدا لي أن أرفض الدنيا فارقته، وقد كان أعطاني من أجرتي دينارين، فأردت أن أتصدَّق بأحدهما وأُنفِق الآخر، فقلتُ: أليس أعظَم الأجر أن أشتري نفسًا بدينار وأعتقها لوجه الله؟ فأتيت السوق فوجدت مع صيَّادٍ حمامتين، فساومته بهما فأبى أن يبيعهما بأقلَّ من دينارين، فجهِدت على أن يعطينيهما بدينارٍ فأبى، فقلتُ: لعلهما أن يكونا زوجين أو أخوين، فأخاف أن أعتق أحدهما فيموتُ الآخر، فاشتريتهما منه بالثمن الذي سمَّى، وأشفقت — إن أنا أرسلتهما في أرضٍ عامرةٍ — ألَّا يستطيعا أنْ يطيرا من الهُزال وما لقيا من الجَهد، فذهبت بهما إلى مكانٍ كثيرِ الرعي فسرَّحتهما فطارا فوقعا على شجرة، ثم انصرفت راجعًا، فقال أحدهما للآخر: لقد خلَّصنا هذا السائح من البلاء الذي كنَّا فيه، وإنَّا لحقيقان أن نُجازيه بفعله، فقالا لي: قد أتيتَ إلينا معروفًا، ونحنُ أحقُّ أن نشكرك به ونجازيك عليه، وإنَّ في أصل هذه الشجرة جَرَّة مملوءة دنانير، فاحتفِر عندها فخذها؛ فأتيت الشجرة وأنا في شكٍّ مما قالا، فلم أحفر إلَّا قليلًا حتى انتهيت إليها فاستخرجتها ودعوت الله لهما بالعافية وقلتُ لهما: إذا كان علمكما على ما أرى، وأنتما تطيران بين السماء والأرض، فكيف وقعتما في هذه الورطة التي نجيتكما منها؟ فقالا لي: أيها العاقل، أما تعلم أن القدر يغلب كل شيء، ولا يستطيع أحدٌ أن يجاوزه أو يقصِّر عنه!
ثم قال الفيلسوف للملك: ليعرف أهل النظر في الأمور والعمل بها أنَّ الأشياء كلها بقضاءٍ وقدرٍ، لا يجلب أحدٌ منها إلى نفسه خيرًا ولا يدفع عنها مكروهًا، وأنَّ ذلك كله من الله عز وجل، وأنَّ الله يفعل فيها ما أراد ويقضي فيها ما أحب، فلْتَسْكُن إلى ذلك الأنفُس، ولتطمئنَّ إليه القلوب؛ فإنَّ ذلك لِمَن ألهمه الله ووفَّق له، سعةٌ وراحةٌ.