باب اللبؤة والشعهر١
قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت من أمر القضاء والقدر وغلبتهما للأشياء، فأخبرني
عمَّن يدع ضرَّ غيره لما يُصيبه من الضرِّ، ويكون له فيما ينزل به واعظٌ وزاجرٌ عن ارتكاب
الظلم والعدوان من غيره.
قال الفيلسوف: إنه لا يُقدِم على طلب ما يضرُّ الناس ويسوءهم إلَّا أهلُ الجهالة
والسفه،
وسوء النظر في عواقب الأمور في الدنيا والآخرة، وقِلَّة العلم بما يدخل عليهم في ذلك
من
حلول النقمة، ويلزمهم من تَبِعة ما اكتسبوا مما لا يُحيط به القول؛ فإن سلم بعضهم من
بعضٍ
لمنيَّة عرضت قبل نزول وبال ما صنعوا، اعتبر
٢ بهم الآخرون بما ينقطع فيه الكلام والوصف من الشدَّة وعظم الهول، ورُبَّما اتعظ
الجاهل واعتبر بما يُصيبه من المكروه من غيره، فارتدع عن أن يبتلي أحدًا بمثل ذلك من
الظلم
والعدوان، ورجا نفع ما كفَّ عنه في الآخرة، ونظير ذلك حديث الأُسوار واللبُؤة والشَّعْهَر،
فقال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف: زعموا أنَّ لَبُؤة كانت في غيضة ولها شِبْلان،
وأنها خرجت ذات يومٍ تطلب الصيد وخلَّفتهما، فمرَّ بهما أُسوار فرماهما حتى قتلهما، وسلخ
جلودهما، ومضى بهما إلى منزله، ثمَّ إنَّ اللبؤة رجعت فرأت ما بشِبليْها من الأمر الفظيع
فصرخت وصاحت وتقلبت ظهرًا وبطنًا.
وكان إلى جانبها شعهر جارٌ لها، فلمَّا سمع بكاءها وصُراخها وجزعها خرج إليها فقال
لها:
ما هذا الذي أراه بك؟ وما جرى عليك؟ فأخبريني به لأشاركك فيه؛ قالت: إنَّ شبليَّ مرَّ
عليهما أُسوار فقتلهما وأخذ جلودهما وألقاهما بالعَراء. قال الشعهر: لا تحزني ولا تصرُخي،
وأنصِفي من نفسك، واعلَمي أنَّ هذا الأُسوار لم يأتِ إليك شيئًا وإلَّا وكنتِ ركبتِ من
غيرك
مثلَه، ولم تجدي من الأسف والحزن على شبليك شيئًا إلَّا وقد كان من كنت تفعلين بأحبابه
ما
تفعلينَ يجد مثلَه أو أفضل منه،
٣ فاصبري من غيرك على نحو ما صبر عليه غيرُك منك؛ فإنَّه قد قيل: كما تدين تُدان،
وإن ثمرة العمل الثوابُ أو العقابُ، وهما على قدره في القِلَّة والكثرة، كالزَّارع إذا
حصد
الحصاد أُعطِيَ على قدر بذره. قالت اللبؤة: اشرح لي ما تقول وأوضحه، قال الشعهر: كم لكِ
من
العمر؟ قالت اللبؤة: مائة سنة؛ قال: ما الذي كان يقوتك ويُعيشك؟ قالت اللبؤة: لحوم الوحش؛
قال الشعهر: ومن كان يُطعمك ذلك؟ قالت اللبؤة: نفسي، قال: أما كان لتلك الوحوش آباء وأمهات؟
قالت اللبؤة: بلى، قال الشعهر: فما لنا لا نسمع من تلك الآباء والأمهات من الضجة والجزع
والصراخ ما نسمع ونرى منك؟ أما إنه لم يصبك ذلك إلَّا لسوء نظرك في العواقب، وقلَّة تفكُّرك
فيها، وجهالتك بما يرجع عليك من ضُرِّها! فلمَّا سمعت اللبؤة ذلك عرفت أنها هي اكتسبت
ذلك
على نفسها وجرَّته إليها، وأنها هي الظالمة الجائرة، وأنه مَن عمل بغير الحقِّ والعدل
انتُقِم منه وأُديل عليه، فتركتْ الصيد وانصرفَت عن أكل اللحم إلى الثمار، وأخذت في الزهد
والنسك والعبادة.
ثم إنَّ الشعهر — وكان عيشه على الثمار — رأى كثرة أكل اللبؤة إياها، فقال لها: لقد
ظننتُ
— لقلَّة الثمار وكثرة أكلك إياها — أنَّ الشجر لم يحمل إلا نزْرًا العام، ولمَّا رأيت
أكلك
لها — وأنت صاحبة لحم — ورفضَك رزقَك وما قسم الله لك، وتحوُّلك إلى رزق غيرك فانتقصته
ودخلت عليه فيه، علمتُ أنَّ الشجر قد أثمر كما كان يُثمر فيما خلا، وأنما هذه النزورة
في
ذلك من قِبَلك، فويلٌ للشجر وللثمار ولمن كان عيشه منها! فما أسرع هلاكهم ودمارهم إذ
قد
نازعهم في ذلك مَن لا حقَّ له فيه ولا نصيب! فتركت أكل الثمار وأقبلت على أكل العشب.
وإنما ضربتُ لك هذا المثل لأنَّ الجاهل رُبما انصرف لمكروهٍ يحلُّ به عن ضرِّ الناس،
كاللبؤة التي تركت — بما لقيت من شبليها — أكلَ لحوم الوحش، ولقول الشعهر، أكل الثمار،
وأقبلت على النسك والعبادة.
ثم قال الفيلسوف للملك: فالناسُ أحقُّ بحسن النظر في الأمر الذي لهم الحظُّ فيه؛ فإنه
قد
قيل: ما لا ترضاه لنفسك لا ترضه لغيرِك، وما لا تحبُّ أن يُصنع بك فلا تصنعه بغيرك؛ فإنَّ
في ذلك العدل، وفي العدل رضا الله تعالى.