باب الناسك والضيف
قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت من أمرِ من يدع ضُرَّ غيره لضرِّ نفسه، فأخبرني عمَّن يدع عمله الذي يعرفه ويليق به ويطلب سواه فلا يقدر عليه، فيراجع الذي كان في يده من عمله فيفوته ويبقى حيران متلددًا.
قال الفيلسوف: زعموا أنه كان في أرض يُقال لها الكَرخ ناسكٌ مجهتدٌ في النسك، فنزل به ضيفٌ ذات يوم فدعا له بتمرٍ ليُطرِفه به، فأكلا منه جميعًا، ثم إنَّ الضيف قال: ما أحلى هذا التمر وأطيبه! وليس في بلادي التي أسكنها نخلٌ، مع أنه إن لم يكن فيها فإنَّ هنالك من الثمار ما أكتفي به؛ فإنه من يقدر على التين وما أشبهه من حلو الفاكهة يُجزيه ويقضي منه حاجته، هذا مع وخامة التمرِ وقلة موافقته للجسد. قال الناسك: إنَّه لا يُعدُّ سعيدًا من احتاج إلى ما لا يجد وليس بمقدورٍ عليه، فتشرَهُ لذلك نفسُه، ويقلُّ عنه صبره، ويصل إليه من ثِقل ذلك واغتمامه ما يُضِرُّ به ويُدخِل المشقة عليه، وإنك أنت العظيمُ الجَدِّ الجزيلُ الحظِّ حين قنعت بما رُزِقت وزَهِدت فيما لا تظفر به ولا تدرك طَلِبتك منه. قال الضيف: وُفِّقت ورَشِدت، وقد سمعت منك كلامًا عِبرانيًّا أعجبني فاستحسنته، فلو علَّمتنيه! فإنَّ لي فيه رغبة، وأنا عليه حريص، فقال الناسك: ما أخلقَك أن تقع فيما تركتَ من كلامك وتكلَّفت من كلام العبرانية في مثل ما أصاب الغراب، قال الضيف: وكيف كان ذلك؟ قال الناسك: زعموا أن غرابًا رأى حَجَلة تدرُج، فأعجبته مِشيتها، فطمع في تعلُّمها، فراض نفسه فلم يقدر على إحكامها، فانصرف إلى مِشيته التي كان عليها فلم يُحسن، فبَقِيَ حيران مترددًا لم يدرك ما طلب ولم يحسن لما كان في يده الحِفْظَ.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك خليقٌ — إن تركت لسانك وتكلَّفت علمَ ما لا يُشاكلك من كلام العبرانية — ألَّا تدركه وأن تنسى الذي كان في يدك من غيره، فإنه قد قيل: يُعدُّ جاهلًا من حاول من الأمور ما لا يشبهه، وليس من أهله، لم يدركه آباؤه ولا أجداده من قبله، ولا يُعرَفون به.
ثم قال الفيلسوف للملك: فالولاة في قلَّةِ تعاهدهم للرعية في هذا وأشباهه ألومُ وأسوأُ تدبيرًا؛ لأنَّ تنقُّل الناس من بعض المنازل إلى بعضٍ فيه صعوبة ومشقة شديدة، ثم إنَّ الأشياء في ذلك تجري على منازل حتى تنتهي إلى الخطر الجسيم من مضادَّة الملك في ملكه.
•••
فلمَّا انتهى الملك والفيلسوف إلى باب الناسك والضيف سكت الملك، وقال الفيلسوف: عشتَ أيها الملك ألف سنة، ومُلِّكت الأقاليم السبعة، وأُعطيت من كل شيءٍ سببًا، وبُلِّغته في سرور منك برعيتك، وقرة عينٍ منهم بك، ومساعدة من القضاء والقدر، فلقد كمل منك الحلم، وزكا منك العقل والقول والنية، فلا يوجد في رأيك نقصٌ ولا في قولك سقطٌ ولا في فعلك عيبٌ، وجُمِع فيك النجدة واللين، فلا توجَد جبانًا عند اللقاء، ولا ضيِّقَ الصدرِ فيما ينوبك من الأشياء.
وقد شرحت لك الأمور، ولخصت لك جواب ما سألتني عنه، واجتهدتُ لك في رأيي، ونظرتُ بمبلغ فطنتي في التماس قضاءِ حاجتِك، فاقض حقِّي بحسن النية منك بإعمال فكرِك وعقلك فيما وصفت لك، فإنَّ الآمرَ بالخيرِ ليس بأسعدَ به من المطيع له فيه، ولا الناصح بأولى بالنصيحة من المنصوح له بها، ولا المعلِّم بأسعد بالعلمِ ممن تعلَّمه منه؛ فمن تدبَّر هذا الكتاب بعقله، وعمل فيه بأصالة رأيه، ثم فكَّر فيه، كان قِمنًا للمراتب العظام والأمور الجسام، والله يوفقك أيها الملك ويصلح منك ما كان فاسدًا.
فأمر الملك عند ذلك بفتح أبواب خزائنه، وأن يحكَّم فيها الفيلسوف فيأخذ ما احتكم من الأموال، ومن صنوفِ الدرِّ والجوهرِ والذهبِ والفضةِ، وألَّا يُمنع شيئًا من ذلك، وأقطعه إقطاعًا كثيرًا، ورفع درجته ومرتبته إلى الغاية التي لا يسمو إليها أحدٌ من نظرائه.