باب توجيه كسرى أنو شروان برزويه إلى بلاد الهند لطلب الكتاب
فالعقلُ سببٌ لكل خير، وهو مكتسَبٌ بالتجارب والآداب، وغريزةٌ مكنونةٌ في الإنسان كامنةٌ كَكُمُونِ النار في الحجر والعُود، لا تُرى حتى يقدحها قادح من غيرها، يُظهر ضوءها وحريقها، كذلك العقل من الإنسان لا يَظهر حتى يُظهِره الأدب وتُقوِّيه التجارب، فإذا استحكم كان هو وليَّ التجارب والمقوِّيَ لكل أدب، والمميِّز لجميع الأشياء، والدافع لكل ضرٍّ، فلا شيءَ أفضل من العقل والأدب؛ فمن منَّ عليه خالقه بالعقل، وأعان هو على نفسه بالمثابرة على الأدب والحرص عليه؛ سَعِدَ جَدُّه، وأدرك أمله في الدنيا والآخرة.
فبينما هو في عِزِّ ملكه وبَهاءِ سُلطانه إذ بَلَغه أنَّ بالهند كتابًا من تأليف العلماء، وترصيف الحُكماء، وتدبير الفهماء، قد مُيِّزت أبوابُه، وأثبتت عجائبه على أفواهِ الطير والبهائم والوحش والسباع والهوامِّ، وسائر حشرات الأرض، مما يحتاج إليه الملوك في سياسة رعيتها، وإقامة أَوَدها وإنصافها، فلا قِوامَ للرعية إلَّا بحُسنِ سياسة الملوك، وسعة أخلاقها، ورأفتها ورحمتها؛ ولذلك لم يَدَع كِسرَى أنو شروان اقتناء ذلك الكتاب الذي بلغه عنه أنه ببلاد الهند، وضمَّه إلى نفسه، والاستعانة به على سياسته، والعمل بحسن تدبيره.
فلمَّا عَزَم على ما أراد من أمْره، وهمَّ بالبِعثة في طلب كتاب كليلة ودمنة وانتساخه، قال في نفسه: مَنْ لهذا الأمرِ العظيم، والأدب النفيس، والخطب الجليل الذي يَزَّيَّن به ملوك الهند دون ملوك فارس؟ وقد هممنا ألَّا ندعَ — مع بُعد السفر، وصعوبة الأمر، ومخاطر الطريق، وكثرة النفقة — طَلَب هذا الكتاب حتى نصل إلى نَسخه، ونقف على إتقانه، ورصانة أبوابه، وعجائبه، ولا بدَّ لنا من أن ننتخب من نُريد إرساله في ذلك من هذين الصنفين من الكُتَّاب والأطباء، فإنَّ أهل هذين يجتمع عندهم جوامعُ من بحور الأدب، وكنوز الحكمة، في أناةٍ وتُؤدةٍ، وتجربةٍ ونفاذِ حيلة، وتحفظٍ وتحرزٍ، وكمال مروءةٍ، ودهاءٍ وفطنةٍ، وحلمٍ وتصنُّعٍ، ولُطفِ سياسةٍ، وكِتمانِ سِرٍّ.
ونحن مُرسِلوك إلى بلاد الهند لِما بَلَغَنا عن كتابٍ عند ملوكها وعلمائها قد ألَّفته العلماء، وهذَّبته الحكماء، وأتقنه الفُطناء، ليس في خزائن الملوك مثله، يستعين به على عظائمهم ملوك الهند، فتعزمُ على المسير بسببه فتستفيده برِفقٍ وتؤدةٍ وتلَطُّفٍ، وتحمل معك من المالِ ما أردت، ومن طُرَف بلاد فارس وهداياها ما تعلمُ أنَّه يُعينك على استخلاصه، مع ما تَقدِر عليه من الكُتُب التي يحتاج إليها الملوك، وليكُن ذلك في سرٍّ مكتوم.
فإذا أكملتَ ما تريده وأنت في بلاد الهند كتبتَ إلينا بذلك، وأسرعْتَ الوفودَ إلى حضرتنا، فإنَّا مُجزِلو عطيتك، ورافعو درجتك، ومُبْلِغوك فوق ما أمَّلته من دولتنا، فبادِر لما أُمِرت، واحفظ ما وُصِّيت به، وليكن من شأنك التثبُّت والتأني في جميع أمورك، فخرَّ برزويه ساجدًا، وقال: سمعًا وطاعةً، سيجدني الملك كما أحبَّ إن شاء الله، ثم نهض إلى منزله، فتخيَّر من الأيام أيمنها، ومن الساعات أبركها، وسار في اليوم المُختار، فلم يزل تخفضه أرض وترفعه أخرى حتى قدم إلى بلاد الهند، فأراح من وعثاء الطريق.
ثم إنه طاف بباب الملك، وتخلل مجالس السُّوقة، وسأل عن قرابة الملوك والأشراف، وعن العلماء والفلاسفة، فجعل يغشاهم في منازلهم وعلى باب الملك، ويتلقاهم بالتحية والمساءلة، ويُخبرهم أنه قدم بلادهم لطلب العلم والأدب، وأنه مُحتاجٌ إلى معونتهم على ما طلب من ذلك، ويسألهم إرشاده إلى حاجته، مع شدة كِتمانه لما قَدِم له، وكِنايته عنه، فلم يزَل كذلك زَمانًا طويلًا، يتأدَّب بما هو أعلمُ به، ويتعلم من العلم ما هو ماهرٌ فيه، ويكني عن بُغيته وحاجته.
وكان مما حكَّ به برزويه صديقه ذلك ورازه وفتَّش عقله ووثق به واطمأن إليه أن قال له يومًا وهما خاليان: يا أخي، ما أريد أن أكتمك من أمري شيئًا فوق ما قد كتمتُك، فاعلم أنِّي لأمرٍ جئت، وهو غير ما ترى يظهرُ مني، والعاقلُ يكتفي من الرَّجل بالعلامات الظاهرة فيه، من نظره وإشارته بيده، فيعلمُ سرَّ نفسه، وما يُضمِر عليه قلبَه؛ قال الهندي: إني وإن كنتُ لم أبدأك، ولم أُخبرك بما له جئت، وإياه طلبت، وأنت تكتم أمرًا تطلبه وأنت تُظهر غيره، فإنه لم يكن يخفى عليَّ، ولكن — لرغبتي في إخائك — كرهتُ أن أواجِهك بأنه قد ظهر لي ما تكتم، وأنه قد استبان لي ما أنت فيه وما تُخفيه، فأمَّا إذا افتتحت الكلامَ فأنا مُخبِرك عن نفسك، ومُظهرٌ لك سريرةَ أمرِك، ومُعلِمُك حالك الذي قدِمت عليه، فإنك قدِمتَ بلادنا لتسلُبنا علومنا الرفيعة وكنوزنا النفيسة، فتذهب بها إلى بلادك لتسُرَّ بها ملكك، وكان قدومك بالمكر، ومصادقتُك بالخديعة، ولكن لمَّا رأيتُ صبرك وطول مواظبتك على طلب حاجتك، وتحفُّظك من أن تسقط في الكلام — في طول لُبثِك عندنا — بشيء نستدل به على سريرة أمرك، ازددتُ رغبة في عقلك، وأحببت إخاءك، ولا أعلمُ أني رأيتُ أوزنَ منك عقلًا، ولا أحسن أدبًا، ولا أصبر على طلب حاجة، ولا أكتم للسرِّ منك، ولا أحسن خُلُقًا، ولا سيما في بلاد غُربة، ومملكةٍ غير مملكتك، وعند قومٍ لم تكن تعرف سُنَّتهم ولا أمرهم.
واعلم أنَّ عقل الرجل يستبين في أمور ثمانٍ؛ الأولى منها: الرفق والتلطف، والثانية: أن يعرف الرجل نفسه ويحفظها، والثالثة: طاعة الملوك وتحرِّي ما يُرضيهم، والرابعة: معرفة الرجل بموضع سره، وكيف ينبغي أن يُطلِع عليه صديقه، والخامسة: أن يكون على أبواب الملوك حُوَّلًا أريبًا ملق اللسان، والسادسة: أن يكون لسرِّه ولسرِّ غيره حافظًا، والسابعة: أن يكون قادرًا على لسانه، فلا يلفظ من الكلام إلَّا ما قد روَّى فيه وقدَّره، والثامنة: إذا كان في المحفل لم يُجِب إلَّا بما يُسأل عنه، ولم يُظهر من الأمر إلَّا ما يجب عليه.
فمن اجتمعت فيه هذه الخصالُ الثمانية كان هو الداعيَ إلى نفسه الخيرَ والرِّبح، والمجنِّب لنفسه الشرَّ والخُسران، وقد كملت هذه الخصال بأسرها، وهي بيَّنةٌ ظاهرةٌ فيك، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال شُفِّع في طَلِبَته، وأُسعِف بحاجته، وإن حاجتك التي تطلب قد أرعبتني وأدخلت عليَّ الوحشة والخشية، ونسأل الله السلامة.
فلما سمِع برزويه بذلك تيقن أنه قد ظفر بحاجته، وأقبل عليه، وقال: يا أخي، لم تُخْطِ فِراستي فيك في أول مَقدَمي عليك، واستماعي جوابك، وإنما رميتُك بجملة كلامي، وإيجاز منطقي، لما علمتُ من حُسن مَنْقَبتك، وبُعد مذهبك، وغوصك على معدن الفطنة والحكمة، فلذلك وثِقتُ منك بحسن القول مني وقبول كلامي، وإسعافي بحاجتي، وإن إفضاءَ السرِّ إلى العلماء والعقلاء وأهل العلم، والثقةَ بهم، أفضلُ عُدَّة، وكذلك شبَّهَتِ العلماءُ مُودِع الأسرار عند أهلها بالجبل الشامخ الذي لا تُزيله الريح، ولا تحرِّكه بكثرة إذرائها، وأنت — بحمد الله — يَدُك عندي جميلة، عليها أعتمد.
قال برزويه: مِنْ أَفْضَل الأشياء في الرِّجال كتمانُ السرِّ، وحفظ ما استُودِع منه، فإنما نجاحُ حاجتي بإذن الله في يدك، وكتمانُ ذلك في يدي.
فلمَّا وقع برزويه في تفسير الكتب ونَسْخها أقام على ذلك زمانًا عظُمَت فيه مئونته ونفقته، وأنصَبَ فيه بدنَه، وسهِر فيه ليله، ودأب فيه نهاره من الخوف على نفسه.
فلَمَّا فرغ منه ومن سائر الكتب وأحكمها، كتب إلى كسرى أنو شِروان يُعلمه بما لقيَ من التعب والعناء، وأنه قد فرغ منه ومن سائر الكتب، فأجابه كسرى في سرٍّ مكتوم يأمره بالأوبة إليه ساعة يَرِد عليه الكتاب، فتجهَّز برزويه، وخرج من بلاد الهند حتى ورد فارس، ودخل على كسرى وخرَّ له ساجدًا، فلمَّا رفع رأسه واستوى قائمًا رآه كسرى قد شحَب لونه، وتغيَّرت سحنته، وشاب رأسه، فَرَقَّ له وقال: أبشر أيها العبد المطيع مولاه، الناصح لملكه، ببشرى صالحة، فقد استوجبتَ الشكر منَّا، ومن جميع الخاصة والعامة، فإنَّا لا نَدَع رفْدَك والنظر لك، ونحن صانعون لك أفضل ما رجوت وأمَّلت، ثم أمره أن ينصرف ويُريح بدنه سبعة أيام ثم يأتيه، ففعل.
فلمَّا كان في اليوم الثامن دعا به، وأمر أن يُحضَر العلماء والأشراف من أهل مملكته، وأمر بُزُرجِمِهر أن يقرأ الكتاب على رءوس الأشهاد، فلما قرأ الكتاب وسمعوا ما فيه من العلم والأدب والأعاجيب التي حكوها على ألسُن الحيوان والطير تعجَّبوا منه، وشكروا الله على ما أنعم عليهم به من الأدب والمعرفة على يد برزويه، وأحسنوا الثناء عليه.
فمن قرأ هذا الكتاب فليعرفِ السبب الذي وُضِعَ عليه كتابُ كليلة ودمنة، وحُوِّل من أرض الهند إلى أرض فارس، وليعرفْ فضلَ الملوك وطاعتهم، ويؤثرها على سائر الأعمال، وليعلمْ أنَّ الشريف من شرَّفته الملوك، ورفعته في دولتها.