باب برزويه الطبيب١
قال بُزُرجِمِهر: إنَّ برزويه رأس أطباء فارس، وهو الذي وَلِيَ انتساخ هذا الكتاب وترجمه من كتب الهند، قال: إنَّ أبي كان من المقاتِلة، وكانت أمي من بنات عظماء الزمازِمة، وفقهائهم في دينهم.
ثم نظرت في الطب فوجدتُ الطبيب لا يستطيع أن يُداوي المريض بدواءٍ يُذهب عنه داءه، فلا يعود إليه أبدًا ذلك الداء ولا غيرُه من الأدواء التي هي مثلُه أو أشدُّ منه، فلم أدرِ كيف أَعُدُّ البُرءَ بُرءًا، والداءُ لا تُؤمن عودته أو اعتراء ما هو أشدَّ منه، ووجدتُ عمل الآخرة هو الذي يُسَلِّم من الأذى حتى يبرأ صاحبها بُرءًا يأمن معه من الأدواء كلها، فاستخففتُ بالطب وأردت الدين، فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه عليَّ أمرُ الدين، أمَّا كُتُب الطب فلم أجد فيها لشيءٍ من الأديان ذكرًا يدُلُّني على أهداها وأصوبها، وأمَّا الملل فكثيرة مُختلفة ليس منها شيءٌ إلَّا وهو على ثلاثة أصناف: قومٌ ورثوا دينهم عن آبائهم، وآخرون أُكرهوا عليه حتى ولجوا فيه، وآخرون يبتغون به الدنيا، وكلُّهم يَزْعُم أنَّه على صواب وهُدًى، وأنَّ من خالفه على خطأ وضلالةٍ، والاختلاف بينهم كثيرٌ في أمر الخالق والخلق، ومبتدأ الأمر ومنتهاه، وما سوى ذلك، وكلٌّ على كلٍّ زارٍ، وله عدوٌّ، وعليه عائبٌ، فرأيتُ أن أُراجِعَ علماءَ أهل كل مِلَّة، وأُناظرهم فأنظر فيما يصفون، لعلِّي أعرفُ بذلك الحقَّ من الباطل فأختاره وألزمه على ثقة ويقين، غيرَ مُصدِّقٍ بما لا أعرف، ولا تابع ما لا يبلغه عقلي، ففعلتُ ذلك وسألتُ ونظرتُ فلم أجد أحدًا من الأوائل يزيدُ على مدح دينه، وذمِّ ما يخالفه من الأديان، فاستبان لي أنهم بالهوى يجيبون ويتكلمون لا بالعدل، ولم أجد عند أحدٍ منهم صفةً تكون عدلًا يعرفها ذو العقل ويرضى بها.
فلمَّا سمع اللصوص ذلك فرِحوا وقالوا: لقد ظِفرنا من هذا البيت بأمرٍ هو خيرٌ لنا من المال، وأمِنَّا به من السلطان، وأطالوا المُكث حتى ظنُّوا أنَّ الرجل قد نام، ودنا رئيسهم إلى مدخل الضوء من الكُوَّة، فقال: «شَولَم، شَولَم» سبع مرات، ثم اعتنق الضوء لينزل إلى البيت، فوقع مُنَكَّسًا، فوثب إليه صاحب البيت بهِراوة فأوجعه ضربًا، وقال له: من أنت؟ قال: أنا المصدِّق المخدوع، وهذه ثمرة تصديقي.
فلما تحرَّزت من التصديق بما لم آمن أن يوقِعني في مَهَلَكة عُدتُ إلى البحث عن الأديان والتماس العدل منها، فلم أجد عِنْدَ أحد مِمَّن كلَّمتُه — في جواب ما سألتُه عنه، ولا فيما ابتدأني به — شيئًا يحقُّ عليَّ في عقلي أن أوقن به وأتبعه، فقلتُ: أما إذا لم أُصِب ثقةً آخُذ منه فإنَّ الرأي أن ألزم دين آبائي، وهممتُ بذلك فلم أرَ لي فيه مخرجًا، ولا وجدتُ الثبوت على دين الآباء سبيلًا، ولا لي فيه حُجَةً ولا عُذرًا، فأردت التفرغ للعَود إلى البحث عن الأديان والمسألة عنها، فعرض لي تخوُّفُ قُرْبِ الأجل وسرعتِه، وانقطاع الدنيا وفناؤها، وفكَّرت في ذلك الوقت وقلتُ: أمَّا أنا فلعل موتي يكون أوشك من تقليب كفِّي ورجْع جَفني على عينيَّ، وقد كنتُ أعمل أمورًا أرجو أن تكون من صالح الأعمال، لعلَّ تردُّدي وتنقلي وبحثي عن الأديان يشغلني عن خيرٍ كنت أفعله، فيكون أجلي دون ما يطمح إليه أملي، أو يُصيبني في ترددي وتحولي ما أصاب الرجل الذي زعموا أنه عَلِق امرأةً ذات بعل وعلِقَته، فحفرت له من بيتها سَرَبًا إلى الطريق، وجعلت مخرجه عند حُبِّ الماء، تخوُّفًا أن يفاجئها زوجها أو أحدٍ وهو عندها، فبينما هي ذات يوم وهو عندها إذ بلغها أنَّ زوجها بالباب، فقالت للرَّجل: اعجل واخرُج من السَّرَب الذي عند الحُبِّ، فانطلق الرجل إلى ذلك المكان، فوافق الحُبَّ قد رُفع من ذلك المكان، فرجع إلى المرأة فقال: قد انتهيتُ إلى حيث أمرتِ فلم أجد الحب، فقالت المرأة: أيها المائق، وما تصنع بالحُبِّ؟ وهل سميته لك إلا لتستدل به على السَّرَب؟ قال: لم تكوني حقيقةً أن تذكريه لي فتغلِّطيني به، فقالت المرأة: ويحك! انجُ بنفسك، ودع التردد والحمق، فقال: كيف أذهب وقد خلطت عليَّ؟ فلم تزل تلك حالته حتى دخل زوجها فأوجعه ضربًا ثم رفعه إلى السلطان.
فلما خفتُ التردد والتحول رأيت ألا أتعرض لهما، وأن أقتصر على كلِّ شيءٍ تشهد العقول أنه بِرٌّ، ويتفق عليه كل أهل الأديان، فكففتُ يدي عن الضرب والقتل والسَّرقة والخيانة، ونفسي عن الغضب، ولساني عن الكذب وعن كل كلام فيه ضررٌ لأحد، وكففتُ عن أذى الناس والغيبة والبُهتان، وحصَّنت فرجي عنِ النِّساء، والتمست من قلبي ألَّا أتمنى ما لغيري، ولا أُحِبَّ له سوءًا، ولا أكذِّب بالبعث والحساب والقيامة والثواب والعقاب، وزايلتُ الأشرار بقلبي، وأحببتُ الصُّلَحاء جُهدي، ورأيتُ الصلاح ليس مثلَه قرينٌ ولا صاحبٌ، ومُكتَسَبه — إذا وفَّق الله له — يسيرٌ، وأصبتُه خيرًا على أهله، وأبرَّ من الآباء والأمهات، ووجدته يدلُّ على الخير، ويُشير بالنصح، فِعل الصديق بالصديق، ووجدته لا ينقص إذا أُنفق منه، بل يزداد على الإنفاق ويكثُر، ولا يَخْلَق على الابتذال والاستعمال، بل يجدُّ ويحسُن، ولا خوف عليه من السلطان أن يسلُبه، ولا من الآفات أن تُفسِده، ولا من النار أن تُحرِقه، ولا من اللصوص سَرَقًا، ولا من السباع افتراسًا، ولا من ذي حُمَةٍ لدغًا، ولا من الغارة، ولا من الجوائح. ووجدت الرجل الذي يزهد في الصلاح وعاقبته، ويُلهيه عن ذلك قليل ما هو فيه من الحلاوة العاجلة النفاد، إنما مَثَلُه فيما ذهبت فيه أيامُه مَثَلُ التاجر الذي زعموا أنَّه كان له جوهر كثير، فاستأجر لثقبه وعملِه رجلًا بمائة دينار يومه إلى الليل، فانطلق به إلى بيته، فلما جلسا إذا بصنجٍ موضوع، فنظر إليه، فقال له التاجر: أتحسِنُ أن تَضرب به؟ قال: نعم، قال: فدونك، فتناوله وكان به ماهرًا، فلم يزل يُسمِعه صوتًا حسنًا مصيبًا، وترك سَفَط جوهره مفتوحًا وأقبل عليه.
ولو أنَّ الرجل عُرِض عليه أن يعيش ألف سنة، لا يأتي عليه يومٌ إلا بُضِع لحمُه، غيرَ أنه شُرِط له أنه إذا استوفاها نجا من الألم والمشقة، وصار إلى الأمن والسرور، كان حقيقًا ألا يراها شيئًا، فكيف لا يصبر على أيام يسيرة وأذًى حقير يُصيبه في الدنيا؟ أوَ ليس إنما الدنيا كلها عذابٌ وبلاءٌ؟ فإن الإنسان يتقلَّب في ذلك من حينِ يكونُ جنينًا إلى أن يستوفي أيامه، فإنَّا نجد في كتب الطب أن الماء الذي يُقدَّر منه الولد السوي إذا وقع في رحم المرأة اختلط بمائها ودمها، فخثَر وغلُظ، فمخضته الريح حتى يصير كماء الجُبن، ثم يصيرُ كاللبن الرائب، ثم تنقسِمُ أعضاؤه لإبَّان أجله، فإن كان ذكرًا فوجهه قِبَل ظهر أمه، وإن كانت أُنثى فوجهها قِبل بطنها، ويداه على وجهه، وذقنه على ركبتيه، مقبَّض في المشيمة كأنه مصرور في صُرَّة، وهو يتنفس من متنفَّس شاقٍّ عليه، وليس منه عضو إلا كأنه في وثاق، فوقه حرُّ البطن وثِقَله، وتحته ما تحتَه، منوطٌ قِمع سُرَّته إلى مريءٍ بأمعائها، يمصُّ به من طعامها وشرابها، وبذلك يعيش ويحيا، فهو بهذه المنزلة وعلى هذا الحال إلى يوم ولادته. فإذا كان إبَّان ذلك سُلِّطت الريح على الرحِم، وقويَ على التحريك، فيتصوَّب رأسه قِبَل المخرج، فيجد من ضيقه مِثلَ ما يجد صاحب الوهق من عصره، فإذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو مسَّته يد، وجد لذلك من الألم ما يجد الإنسان الذي قد سُلِخ جلده، ثم هو في ألوان العذاب إذا جاع وليس به استطعام، أو عطش وليس به استسقاء، أو اشتكى وليس به استغاثة، مع ما يلقى من الوضع والرفع واللف والحل والدهن والمسح. وإذا أُنيم على ظهره أو بطنه لم يستطع تقلبًا ولا تحوُّلًا، مع أصناف من العذاب ما دام رضيعًا؛ فإذا هو أفلَت من ذلك أُخِذَ بالأدب، وأُذيق منه فنونًا وألوانًا، ثم الدواء والحِمية، والأوجاع والأسقام، وغير ذلك؛ فإذا هو أدرك فهمُّه المالُ والأهلُ والولدُ، وتَعَبُ الشرَه والحرص والمخاطرة والسعي، ومجاهدةِ العدو، وفي كل ما وصفتُ يتقلب معه أعداؤه الأربعة، من المِرَّة والبلغمِ والدمِ والريح، والسم المميت والهوام والسباع والناس، والحر والبرد والأمطار والرياح، وألوان مكاره الهرَم لمن بلغه، فلو لم يخَف من هذه الأمور شيئًا، ووُثِق له بالسلامة منها، وكان حقيقًا ألا يُفَكِّر إلا في الساعة التي يحضره فيها الموت، ويفكِّر فيما هو نازلٌ به عندها من فراق الأهل والأحبة والأقارب، وكل مضنون به ومرغوب فيه، والإشراف على الهول العظيم الفظيع المهول بعد الموت؛ لكان حقيقًا أن يُعدَّ عاجزًا مفرِّطًا واهنًا، إن لم يُعِدَّ لذلك، ويتأهب لفجأته قبل حلوله ونزوله بعَقْوته، ويرفض ما يشغله ويُلهيه من شهوات الدنيا وشرورها، لا سيما في هذا الزَّمان الهرم البالي الشبيه بالصبُابة والكَدَر، فإنه وإن كان الله تعالى قد جعل الملك سعيد الأمر، ميمونَ النقيبة، حازمَ الرأي، بعيد المقدرة، رفيع الهمة، بليغَ الفحص، عدلًا برًّا جَوادًا صادقًا شكورًا رحْب الذراع، متفقِّدًا للحقوق، مواظبًا فَهِمًا حليمًا رءوفًا رحيمًا، عالمًا بالناس، محبًّا للخير وأهله، شديدًا على الظَّلَمَة، مُوَسِّعًا على رعيته، فإنَّا نرى الزمان مُدبِرًا بكل مكان، حتى كأنَّ الفضل قد وُدِّع، وأصبح مفقودًا ما كان عزيزًا فقده، موجودًا ما هو ضارٌّ لمن ظفر به، وكأَنَّ الخيرَ أصبح ذابلًا والشر نضيرًا، وكأنَّ الغيَّ أقبل ضاحكًا، وأدبر الرشد باكيًا، وكأنَّ العدل أصبح غابرًا، وأصبحَ الجور غالبًا، وكأنَّ العلم أصبح مستورًا، وأصبح الجهل منشورًا، وكأنَّ اللؤم أصبح آمرًا، وأصبح الكرم موطوءًا، وكأنَّ الوُدَّ أصبح مقطوعًا، وأصبح الحِقدُ موصولًا، وكأن الكرامةَ قد سُلِبت من الصالحين وتوخِّي بها الأشرار، وكأنَّ الغدر أصبح مستيقظًا وأصبح الوفاء نائمًا، وكأنَّ الكذب أصبح غضًّا والصدق قاحلًا، وكأن الحق ولَّى عاثرًا وأصبح العُدوان قد جرى سبيله، والإنصاف بائسًا والباطل مُستعليًا، والهوى بالحكَّام مُوَكَّلًا، والمظلومُ بالخسف مُقِرًّا، والظالمُ لنفسه فيه مُستطيلًا، والحرصُ فاغرًا فاه يتلقف من كل جهة ما قرُب منه وما بعُد عنه، والرِّضا مجهودًا مفقودًا، والأشرارُ يُسامُون السماء، والأبرار يريدون بطن الأرض، وأصبحت المروءةُ مقذوفًا بها من أعلى شرف إلى أسفل مهواة، والدناءة مكرَّمةً والرفعة مَجْفُوَّة والسلطانُ مُتنقلًا من أهل الفضل إلى أهل النقص، والدنيا جذِلة مسرورة تقول: قد غُيِّبت الحسنات وأُظهرت السيئات.
فلمَّا فكرت في أمر الدنيا، وعلمتُ أنَّ هذا الإنسان هو أشرفُ الخلق وأفضله فيها، ثم هو على منزلته لا يتقلَّب إلَّا في شرٍّ ولا يوصف إلا به؛ علمتُ أنه ليس من أحدٍ له أدنى عقل يفهمُ هذا ثم لا يحتاطُ لنفسه ولا يعمل لنجاتها، ويلتمسُ الخلاص لها إلا وهو ضعيفُ الرأي قليلُ المعرفة بما عليه وله، ونظرتُ فإذا هو لا يمنعه من ذلك إلا لذةٌ حقيرةٌ يسيرةٌ من المشرب والمطعم والشم والنظر والسمع واللمس، لعلَّه يُصيب منه طفيفًا لا يوصف، سريعٌ انقطاعُه وامتحاقُه وزواله. فالتمستُ له مثلًا فإذا مثله مثل رجل ألجأه الخوف إلى بئر تدلَّى فيها وتعلَّق بغصنين نابتين على شُفرها، فوقع رجلاه على شيء عَمَدَهما، فنظر فإذا هو بأربع أفاعٍ قد أطلعن رءوسهن من أجحِرتهن، ونظر إلى أسفلها فإذا هو بتنينٍ فاغرٍ فاه نحوه، ورفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصولهما جُرذان أبيضُ وأسودُ يقرضانهما دائبَيْن لا يفتُران، فبينما هو على ذلك يهتمُّ بالحيلة لنفسه إذ نظر فإذا قريبٌ منه كُوارةُ نحل فيها شيء من عسل، فتطعَّم منه واشتغل بحلاوته عن التفكر في أمره، ونسي الحيَات الأربع التي رجلاه عليها ولا يدري متى يثُرن به أو إحداهن، ولم يذكر أنَّ الجُرذين دائبان في قطع الغصنين، وأنهما إذا قطعاهما وقع في فم التنين فهلك، فلم يزل لاهيًا ساهيًا حتى هلك.
فشبَّهت البئر بالدنيا المملوءة آفاتٍ وشرورًا ومخاوفَ ومتالفَ، وشبَّهتُ الحيَّات الأربع بالأخلاط الأربعة التي تعمَّدت الإنسان، ومتى يَهِجْ منها شيء فهو كالحُمَة من الأفعى والسمُّ المميت، وشبَّهت الغصنين بالحياة، وشبَّهت الجرذين بالليل والنهار، وقرضهما دأبهما في إنفاذ الآجال التي هي حصون الحياة، وشبَّهت التنين بالموت الذي لا بدَّ منه، والعسلُ هذه الحلاوة القليلة التي يصيبها الإنسان فتشغله عن نفسه، وتُلهيه عن التحيُّل لخلاصه، وتصُدُّه عن سبيل نجاته.