الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
(١) فَاتِحَةُ الْقِصَّةِ
وَقَعَتْ حَوَادِثُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ قَبْلَ الْمِيلَادِ بِأَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فِي شَهْرِ مَارِسَ. أَعْنِي: أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ وِلَادَتِكَ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الصَّغِيرُ — بِأَلْفَيْ عَامٍ إِلَّا قَلِيلًا. تَسْأَلُنِي: فِي أَيِّ مَكَانٍ وَقَعَتْ تِلْكَ الْحَوَادِثُ الْغَرِيبَةُ الَّتِي أَقُصُّهَا عَلَيْكَ؟
فَاعْلَمْ — عَلِمْتَ الْخَيْرَ — أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَدِينَةِ «رُومَةَ» عَاصِمَةِ إِيطَالْيَا، وَمَهْدِ حَضَارَةِ الرُّومَانِ (الْمَوْضِعِ الَّذِي نَشَأْتُ فِيهِ).
(٢) بَهْجَةُ الْعِيدَيْنِ
وَكَانَتْ مَدِينَةُ «رُومَةَ» — فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ — تَسْتَقْبِلُ عِيدَيْنِ، وَتَبْتَهِجُ لِمُنَاسَبَتَيْنِ. أُولَاهُمَا: عِيدٌ عَامٌّ، تَحْتَفِلُ فِيهِ الْبِلَادُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ كُلِّ عَامٍ، وَيَتَبَارَى فِيهِ السَّبَّاقُونَ وَالْعَدَّاءُونَ (الْجَارُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ) وَمَنْ إِلَيْهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: عِيدٌ خَاصٌّ، أَتَاحَتْهُ فُرْصَةٌ بِعَيْنِهَا، تِلْكَ هِيَ أَنَّ «يُولْيُوسَ قَيْصَرَ» — بَطَلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ الشَّائِقَةِ الْمُعْجِبَةِ، وَزَعِيمَ الرُّومَانِ الْأَوْحَدِ — عَادَ إِلَى وَطَنِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُنْتَصِرًا عَلَى أَعْدَائِهِ، بَعْدَ أَنْ حَارَبَهُمْ، وَشَتَّتَ جُمُوعَهُمْ، وَشَرَّدَ جُيُوشَهُمْ كُلَّ تَشْرِيدٍ، وَنَكَّلَ بِهِمْ أَشَدَّ تَنْكِيلٍ، وَأَنْزَلَ بِهِمُ الْمَصَائِبَ وَالنَّكَبَاتِ الْفَادِحَةَ.
(٣) خُصُومُ «قَيْصَرَ»
وَكَانَتْ جَمْهَرَةُ الْبِلَادِ، وَسَوَادُ الشَّعْبِ، يَسْتَقْبِلُونَ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ فَرِحِينَ مَسْرُورِينَ؛ فَرَفَعُوا الْأَعْلَامَ، وَزَيَّنُوا الْمَدِينَةَ بِطَاقَاتِ الْأَزْهَارِ وَالرَّيَاحِينِ، وَانْتَشَروا فِي الطُّرُقَاتِ؛ فَغَصَّتْ بِجُمُوعِهِمُ الْمَيَادِينُ — عَلَى رَحْبِهَا — وَامْتَلَأَتْ حَتَّى ضَاقَتْ بِوُفُودِ الْمُسْتَقْبَلِينَ الْمُبْتَهِجِينَ. وَلَمْ يَشِذَّ عَنْهُمْ — فِي هَذَا الْفَرَحِ الشَّامِلِ — إِلَّا فِئَةٌ قَلِيلُونَ مِنْ حُسَّادِ «قَيْصَرَ» وَمُنَافِسِيهِ، إِذْ كَانُوا لَا يُطِيقُونَ أَنْ يَسْمَعُوا بِانْتِصَارِهِ، وَلَا تَقَرُّ نُفُوسُهُمُ الْوَضِيعَةُ (لَا تَطْمَئِنُّ وَلَا تَهْدَأُ) إِلَّا بِاْنكِسَارِهِ وَانْدِحَارِهِ!
وَمَا عَرَفَ هَؤُلَاءِ الْحُسَّادُ مَوْعِدَ قُدُومِ «قَيْصَرَ» الْمُنْتَصِرِ، حَتَّى اشْتَعَلَتْ بِالْحِقْدِ قُلُوبُهُمْ، وَاضْطَرَمَتْ بِالْغَيْظِ نُفُوسُهُمْ (الْتَهَبَتْ)، وَوَدُّوا لَو قَدَرُوا عَلَى أَنْ يُبَدِّلُوا بِهَذَا الصَّفْوِ كَدَرًا، وَيُحَوِّلُوا هَذِهِ الْأَعْرَاسَ الْمَعْقُودَةَ (الْمُهَيَّأَةَ الْمَنْصُوبَةَ) إِلَى مَآتِمَ وَمَنَاحَاتٍ.
(٤) الْحَاسِدَانِ
وَاشْتَدَّ الْحِقْدُ وَالْغَيْظُ بِرَجُلَيْنِ مِنْ خُصُومِ «قَيْصَرَ»، فَأَعْمَيَاهُمَا عَنْ سَبِيلِ الرُّشْدِ، وَطَوَّحَا بِهِمَا فِي هَاوِيَةٍ مِنَ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ!
وَكَانَ اسْمُ أَوَّلِهِمَا: «فلَفْيَاسَ»، وَاسْمُ الْآخَرِ: «مَرْلَاسَ».
فَخَرَجَا يَعْتَرِضَانِ الْجُمُوعَ الْمُتَدَفِّقَةَ الْمُنْدَفِعَةَ مِنَ النَّاسِ، لِيَصُدَّاهُمْ عَنْ مُظَاهَرَاتِهِمْ، وَيَمْنَعَاهُمْ مِنْ لِقَائِهِمْ ﻟ «قَيْصَرَ».
فَصَاحَ أَوَّلُهُمَا فِي أَحَدِ الْجُمُوعِ: «عَلَامَ تَتَجَمَّعُونَ؟ وَلِمَاذَا تَمْرَحُونَ؟ وَلِأَيِّ دَاعِيَةٍ تَرَكْتُمْ أَعْمَالَكُمْ، وَانْصَرَفْتُمْ إِلَى الْبِطَالَةِ وَاللَّهْوِ؟»
(٥) جَوَابُ النَّجَّارِ
وَكَانَ عَلَى رَأْسِ جُمُوعِ النَّاسِ قَائِدَانِ. فَالْتَفَتَ إِلَى أَحَدِهِمَا «مَرْلَاسُ» — أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: عَدُوَّيْ «قَيْصَرَ» — وَقَالَ لَهُ: «مَا صِنَاعَتُكَ، أَيُّهَا الرَّجُلُ؟»
فَقَالَ لَهُ: «أَنَا — يَا سَيِّدِي — نَجَّارٌ.»
فَصَاحَ فِيهِ «مَرْلَاسُ»: «كَيْفَ هَجَرْتَ عَمَلَكَ؟ وَلِمَاذَا ارْتَدَيْتَ أَفْخَرَ ثِيَابِكَ؟ أَلَا قُبْحًا لَكَ وَتَعْسًا (شَقَاءً وَهَلَاكًا).»
(٦) حِوَارُ الْإِسْكَافِ
ثُمَّ الْتَفَتَ «مَرْلَاسُ» إِلَى الْقَائِدِ الْآخَرَ، وَسَأَلَهُ مُغْضَبًا: «وَأَنْتَ: مَا شَأْنُكَ؟ وَأَيُّ حِرْفَةٍ تَحْتَرِفُ؟»
فَقَالَ لَهُ: «أَنَا إِسْكَافٌ، يَا سَيِّدِي … أُرْقِعُ النِّعَالَ الْقَدِيمَةَ، وَأُصْلِحُهَا، كَمَا يُصْلِحُ الطَّبِيبُ الْأَجْسَامَ الْمَرِيضَةَ. فَأَنَا أَشْفِي النِّعَالَ مِنَ الْهَلَاكِ، وَأَرُدُّ إِلَيْهَا الْحَيَاةَ ثَانِيَةً …!»
فَقَالَ لَهُ «فلَفْيَاسُ» — زَمِيلُ «مَرْلَاسَ» — مُغْتَاظًا: «وَمَا بَالُكَ تُزْعِمُ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ الْحَاشِدِ (تَجْعَلُ نَفْسَكَ زَعِيمًا عَلَيْهِ)، وَتَطُوفُ بِهِ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْمَيَادِينِ؟»
فَصَاحَ فِيهِ «مَرْلَاسُ» حَانِقًا (غَاضِبًا): «وَأَيُّ انْتِصَارٍ أَحْرَزَهُ «قَيْصَرُ»؟ وَأَيُّ غُنْمٍ نَالَهُ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ عَادَ بِهَا إِلَى بِلَادِهِ؟»
(٧) خِطَابُ «مَرْلَاسَ»
«الْوَيْلُ لَكُمْ، أَيُّهَا الْقَوْمُ! أَنَسِيتُمْ حَفَاوَتَكُمْ وَاهْتِمَامَكُمْ — مِنْ قَبْلُ — بِخُصُومِ «قَيْصَرَ»؟ أَلَمْ تَهْتِفُوا — قَبْلَ الْيَوْمِ — لِقَائِدِكُمْ وَزَعِيمِكُمْ «بُمْبِي»؟ أَلَمْ تَمْلَئُوا لَهُ الْجَوَّ بِصِيَاحِكُمْ فَرِحِينَ مُهَلِّلِينَ؟ أَلَمْ تُفْعَمْ قُلُوبُكُمْ غِبْطَةً وَسُرُورًا، بِانْتِصَارِهِ وَفَوْزِهِ عَلَى أَعْدَاءِ الْوَطَنِ؟ فَمَا بَالُكُمْ تَجْتَمِعُونَ — الْيَوْمَ — لِتُحَيُّوا خَصْمَهُ؟ مَا بَالُكُمْ تَبْتَهِجُونَ بِانْتِصَارِ «قَيْصَرَ» عَلَيْهِ؟ أَلَا مَا كَانَ أَجْدَرَكُمْ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ، بَدَلًا مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ!
عُودُوا أَدْرَاجَكُمْ (ارْجِعُوا مِنْ حَيْثُ أَتَيْتُمْ)، وَاسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِكُمْ، وَاذْهَبُوا — سِرَاعًا — إِلَى ضِفَّةِ نَهْرِ «التيبر»، فَاذْرِفُوا فِي مِيَاهِهِ عَبَرَاتِكُمْ، وَأَسِيلُوا دُمُوعَكُمْ، ثُمَّ ارْجِعُوا وَاجْمَعُوا أَصْحَابَكُمْ، وَأَقِيمُوا الْمَنَاحَاتِ مَكَانَ الْأَعْرَاسِ!»
(٨) عِقَابُ الْحَاسِدِينَ
وَلَمْ يَكْتَفِ «مَرْلَاسُ» وَصَاحِبُهُ بِتَشْتِيتِ هَذَا الْجَمْعِ، بَلْ أَمْعَنَا فِي الْكَيْدِ، وَرَاحَا يَرْفَعَانِ الْأَزْهَارَ وَالرَّيَاحِينَ مِنْ أَمَاكِنِهَا، وَيُجَرِّدَانِ التَّمَاثِيلَ وَالنُّصُبَ (الْأَعْلَامَ الْمَنْصُوبَةَ) الْمُحَلَّاةَ بِهَا؛ حَتَّى لَا يَرَى الْقَيْصَرُ — فِي طَرِيقِهِ — شَيْئًا مِنْ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لَهُ، وَالْحَفَاوَةِ بِهِ.
وَقَدْ بَذَلَا جُهْدَيْهِمَا فِي تَحْقِيقِ فِكْرَتِهِمَا الْآثِمَةِ؛ وَلَكِنَّهُمَا عَجَزَا جَمِيعًا عَنْ صَدِّ الْجُمُوعِ الْمُتَدَفِّقَةِ الْأُخْرَى. وَلَقِيَا عِقَابَ تِلْكَ الْجُرْأَةِ الْخَرْقَاءِ (الْحَمْقَاءِ)، فَنَكَّلَ بِهِمَا أَنْصَارُ «قَيْصَرَ» وَجَرَّدُوهُمَا مِمَّا أَحْرَزَاهُ مِنَ النِّيَابَةِ (الْعُضْوِيَّةِ فِي الْبَرْلَمَانِ) وَأَلْقَابِ الشَّرَفِ.
(٩) نِدَاءُ الْعَرَّافِ
وَجَاءَ «قَيْصَرُ»، فَلَقِيَ مِنْ حَفَاوَةِ الْأَهْلِينَ وَابْتِهَاجِ الشَّعْبِ، مَا يَجْدُرُ بِأَمْثَالِهِ مِنْ كِبَارِ الْغُزَاةِ وَالْفَاتِحِينَ.
وَذَهَبَ «قَيْصَرُ» مُيَمِّمًا حَلْبَةَ السِّبَاقِ (قَاصِدًا مَيْدَانَهُ)، وَحَوْلَهُ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ (جَمَاعَةٌ مِنْ حَاشِيَتِهِ). وَصَدَحَتِ الْمُوسِيقَى، وَفَاضَ الْفَرَحُ وَالِابْتِهَاجُ عَلَى قُلُوبِ الْحَاضِرِينَ جَمِيعًا.
وَرَنَّ — فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ (نَوَاحِيهِ) — صَوْتٌ عَالٍ يُنَادِي الْقَيْصَرَ. فَقَالَ «قَيْصَرُ»: «مَنْ ذَا يُنَادِينِي؟»
فَسَادَ صَمْتٌ عَمِيقٌ، وَكَفَّتِ الْمُوسِيقَى، وَاشْرَأَبَّتِ الْأَعْنَاقُ (تَطَاوَلَتْ)، وَأَرْهَفَتِ الْآذَانُ. وَإِذَا بِصَوْتِ الْمُنَجِّمِ يُدَوِّي فِي الْفَضَاءِ، مَرَّةً أُخْرَى (وَالْمُنَجِّمُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ النُّجُومَ تُرْشِدُهُ إِلَى ذَلِكَ). وَإِذَا الْمُنَجِّمُ يَقُولُ: «حَذَارِ — أَيُّهَا الْقَيْصَرُ — مِنْ مُنْتَصَفِ مَارِسَ!»
فَسَأَلَ «قَيْصَرُ» مَنْ حَوْلَهُ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ. فَقَالَ لَهُ صَدِيقُهُ «بُرُوتَسُ»: «إِنَّهُ عَرَّافٌ (مُخْبِرٌ عَنِ الْغَيْبِ)، يُحَذِّرُكَ مُنْتَصَفَ هَذَا الشَّهْرِ!» فَاسْتَدْعَاهُ «قَيْصَرُ» إِلَيْهِ، وَسَأَلَهُ عَمَّا يَقُولُ؛ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْعَرَّافُ قَوْلَهُ: «حَذَارِ مُنْتَصَفَ مَارِسَ!»
فَهَزِئَ بِهِ «قَيْصَرُ»، وَقَالَ لَهُ سَاخِرًا: «مَا أَرَاكَ إِلَّا حَالِمًا قَدْ تَمَلَّكَكَ الْوَهْمُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْكَ الْخَبَالُ …»
ثُمَّ ذَهَبَ «قَيْصَرُ» وَشِيعَتُهُ، لِيَشْهَدُوا حَلْبَةَ السِّبَاقِ.
(١٠) حِوَارُ الصَّدِيقَيْنِ
وَبَقِيَ «كَسْيَاسُ» وَ«بُرُوتَسُ» فِي مَكَانِهِمَا. فَقَالَ أَوَّلُهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ يُحَاوِرُهُ: «أَرَاكَ بَاقِيًا حَيْثُ أَنْتَ، فَهَلِ اعْتَزَمْتَ أَلَّا تَحْضُرَ حَفْلَ السِّبَاقِ الْمُقَدَّسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟»
فَقَالَ لَهُ «بُرُوتَسُ»: «إِنَّنِي لَا أَنْشَطُ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلَاعِيبِ الْفَارِغَةِ، وَلَا أُحِسُّ رَغْبَةً فِي حُضُورِهَا.»
فَقَالَ لَهُ «كَسْيَاسُ»: «حَسَنًا تَفْعَلُ، أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْحَمِيمُ (الْقَوِيُّ الصَّدَاقَةِ). وَمَا أَرَاكَ إِلَّا رَاشِدًا فِيمَا تَقُولُ. وَلَكِنْ أَتَأْذَنُ لِي فِي مُجَاهَرَتِكَ (إِخْبَارِكَ صَرَاحَةً) بِمَا يَجُولُ فِي نَفْسِي (يَدُورُ بِخَاطِرِي) مِنَ الْعَتْبَ عَلَيْكَ، أَيُّهَا الصَّدِيقُ؟»
فَقَالَ لَهُ «بُرُوتَسُ»: «جَاهِرْنِي بِمَا تَشَاءُ؛ فَلَيْسَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حَدِيثِكَ.» فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «أَحَقٌّ مَا تَقُولُ، أَيُّهَا الصَّدِيقُ؟ لَقَدْ أُدْخِلَ فِي رُوعِي (وَقَعَ فِي قَلْبِي) أَنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ — فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ — مُتَنَكِّرًا لِي … وَقَدْ حَالَ وِدَادُكَ (تَغَيَّرَ)، وَاغْبَرَّ صَفَاؤُكَ (تَكَدَّرَ)؛ فَأَصْبَحْتَ عَابِسَ الْوَجْهِ، قَاسِيَ النَّظَرَاتِ، جَافَّ الْأَلْفَاظِ!»
فَقَالَ لَهُ «بُرُوتَسُ»: «مَا أَرَاكَ إِلَّا وَاهِمًا فِيمَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ أَحْزَانِي الدَّفِينَةَ لَا تَدَعُ لِي مَجَالًا لِلِابْتِسَامِ. وَلَكِنَّ ثِقَتِي بِإِخْوَانِي، وَوَفَائِي لَهُمْ، لَمْ يَتَغَيَّرَا قَطُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ.»
(١١) شَكْوَى «كَسْيَاسَ»
فَقَالَ لَهُ «كَسْيَاسُ»: «لَقَدِ ابْتَهَجَتْ نَفْسِي لِمَا تَقُولُ. وَلَكِنَّ آلَامًا أُرِيدُ أَنْ أَبُثَّكَ إِيَّاهَا، وَأُطْلِعَكَ عَلَيْهَا: إِنَّ الْمَظَالِمَ قَدْ أَفْعَمَتْ قُلُوبَنَا أَسًى وَحُزْنًا. وَلَقَدْ أَجْمَعَ سَرَاةُ «رُومَةَ» (كُبَرَاؤُهَا وَأَعْيَانُهَا) عَلَى أَنَّكَ وَحْدَكَ زَعِيمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَنَاطُ رَجَائِهَا، وَمَوْضِعُ أَمَلِهَا. كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّكَ — لَوْ عَرَفْتَ حَقِيقَةَ نَفْسِكَ — قَادِرٌ بِمُفْرَدِكَ عَلَى تَفْرِيجِ كُرْبَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَشْفِ مَا تُعَانِيهِ مِنْ ضَائِقَةٍ وَحَيْفٍ (ظُلْمٍ وَإِرْهَاقٍ)، وَتَكْلِيفٍ بِمَا لَا يُطَاقُ.» فَقَالَ لَهُ «بُرُوتَسُ» وَاجِمًا: «إِنَّكَ لَتُكْبِرُ مِنْ أَمْرِي مَا صَغُرَ، وَتُعْظِمُ مِنْ شَأْنِي مَا حَقُرَ. وَمَا أَرَاكَ — أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْحَمِيمُ — إِلَّا مُورِدِي مَوَارِدَ الْهَلَاكِ (لَا أَظُنُّكَ إِلَّا ذَاهِبًا بِي مَذَاهِبَ الْمَوْتِ).»
فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «مَا أَجْدَرَنِي أَنْ تُخْلِدَ (تَرْكَنَ) إِلَيَّ بِثِقَتِكَ. فَلَسْتُ إِلَّا مِرْآةَ نَفْسِكَ. وَمَا أَنَا بِكَاذِبِكَ الْقَوْلَ؛ فَأَنْتَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِصِدْقِي وَإِيثَارِي (اخْتِيَارِي) الْجِدَّ، وَبُعْدِي عَنِ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَالتَّمَلُّقِ. فَإِذَا قُلْتُ لَكَ: إِنَّكَ مَنَاطُ رَجَاءِ أُمَّتِكَ، فَلَسْتُ فِي هَذَا إِلَّا مُقَرِّرًا الْحَقِيقَةَ الْخَالِصَةَ، الَّتِي لَا يَشُوبُهَا أَقَلُّ رَيْبٍ (لَا يَخْتَلِطُ بِهَا أَيُّ شَكٍّ).»
فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «إِنَّنِي أَبْذُلُ آخِرَ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِي فِي سَبِيلِ الْوَطَنِ. وَمَتَى دَعَانِي دَاعِي الْوَاجِبِ لَبَّيْتُهُ مُسْرِعًا فَرِحًا، وَتَسَاوَى فِي نَظَرِي الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ.»
(١٢) حِقْدُ «كَسْيَاسَ»
فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «عَلِمَ اللهُ أَنَّنِي مَا شَكَكْتُ — لَحْظَةً وَاحِدَةً — فِي صِدْقِ عَزِيمَتِكَ، وَكَرَمِ نَفْسِكَ، وَإِجْلَالِكَ لِوَطَنِكَ. وَلَقَدْ حَفَزَتْنِي تِلْكَ الْخِلَالُ الْكَرِيمَةُ (دَفَعَتْنِي تِلْكَ الْأَخْلَاقُ النَّبِيلَةُ) الَّتِي عَرَفْتُهَا فِيكَ، إِلَى مُجَاهَرَتِكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ: «لَقَدْ وُلِدْنَا — يَا أَخِي — أَحْرَارًا كَمَا وُلِدَ «قَيْصَرُ»، وَلَنَا مِثْلُ مَوَاهِبِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَزَايَاهُ، إِنْ لَمْ نَرْجَحْهُ وَنَزِدْ عَلَيْهِ.
وَلَقَدْ أَنْقَذْتُهُ — ذَاتَ مَرَّةٍ — مِنَ الْغَرَقِ، بِقُوَّةِ سَاعِدِي، وَكَادَ يَهْلِكُ لَوْلَا مُسَاعَدَتِي. وَمَا أَدْرِي: كَيْفَ وَصَلَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى ذِرْوَةِ الْمَجْدِ وَالزَّعَامَةِ، وَبَلَغَ أَعْلَى مَكَانٍ فِيهِمَا، وَأَصْبَحَ الشَّعْبُ يُقَدِّسُهُ، وَأَصْبَحْتُ أَنَا — بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ — عَبْدًا ذَلِيلًا، أَنْحَنِي أَمَامَهُ، وَلَا أَجْرُؤُ عَلَى مُخَالَفَةِ إِشَارَتِهِ؟ …
لَقَدْ شَهِدْتُ هَذَا الرَّجُلَ يَشْكُو آلَامَ الْحُمَّى فِي «إِسْبَانِيَا»، وَرَأَيْتُهُ يَتَأَوَّهُ مِنْ آلَامِ الْمَرَضِ كَمَا يَتَأَوَّهُ الْأَطْفَالُ، وَيَئِنُّ كَمَا يَئِنُّ الْعَجَزَةُ. وَهَأَنَذَا أَرَى ضَعْفَهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى قُوَّةٍ، وَعَجْزَهُ يَصِيرُ إِلَى قُدْرَةٍ، وَأَرَاهُ يَبْطِشُ بِالْأَقْوِيَاءِ، وَيَفْتِكُ بِالْقَادَةِ، وَيُطِيحُ الْأَبْطَالَ وَالزُّعَمَاءَ (يُفْنِيهِمْ وَيُهْلِكُهُمْ). وَمَا أَرَانَا إِلَّا جَدِيرَيْنِ بِالْمَهَانَةِ وَالِاحْتِقَارِ، مَا دُمْنَا نَتْرُكُ لَهُ الْحَبْلَ عَلَى الْغَارِبِ، وَنَدَعُهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَلَا نَقِفُهُ عِنْدَ حَدِّهِ. وَمَا أَدْرِي — وَاللهِ — كَيْفَ أُتِيحَ لَهُ كُلُّ ذَلِكَ التَّوْفِيقَ؟ وَأَيُّ رَنِينٍ فِي اسْمِهِ قَدْ خَلَبَ أَلْبَابَ الشَّعْبِ (سَحَرَهَا)، وَفَتَنَ عُقُولَ الْجُمْهُورِ؟ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَهُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ: «بُرُوتَسُ» وَ«قَيْصَرُ»، وَانْطِقْ بِهِمَا جَمِيعًا، وَوَازِنْ بَيْنَ أَحْرُفِهِمَا، فَهَلْ تَرَى أَحَدَهُمَا يَقِلُّ عَنِ الْآخَرِ عُذُوبَةً فِي اللَّفْظِ، وَرَنِينًا فِي الْأُذُنِ؟»
وَمَا زَالَ «كَسْيَاسُ» مُتَفَنِّنًا فِي ضُرُوبِ الْكَيْدِ لِقَيْصَرَ، مُتَمَدِّحًا بِخِلَالِ «بُرُوتَسَ» وَمَزَايَاهُ، حَتَّى هَاجَهُ وَأَوْغَرَ صَدْرَهُ (أَشْعَلَهُ غَيْظًا) عَلَى صَدِيقِهِ الْحَمِيمِ «قَيْصَرَ»، وَحَفَزَهُ إِلَى الْفَتْكِ بِهِ، وَالِانْتِقَامِ مِنْهُ.
(١٣) عَوْدَةُ «قَيْصَرَ»
وَلَمَّا عَادَ «قَيْصَرُ»، لَمَحَ «كَسْيَاسَ» وَهُوَ يُحَادِثُ «بُرُوتَسَ»؛ فَهَمَسَ «قَيْصَرُ» فِي أُذُنِ رَفِيقِهِ الْوَفِيِّ «أَنْطُنْيُوسَ»: «مَا أَعْجَبَ هَذَا الرَّجُلَ الْخَطِيرَ، وَمَا أَشَدَّ دَهَاءَهُ، وَأَعْظَمَ مَكْرَهُ، وَمَا أَقْبَحَ نَظَرَاتِهِ، وَأَكْثَرَ هَوَاجِسَهُ (خَوَاطِرَ نَفْسِهِ)!»
فَقَالَ لَهُ «أَنْطُنْيُوسُ»: «لَا عَلَيْكَ، وَلَا يَسُؤْكَ هَذَا، فَهُوَ — يَا سَيِّدِي — طَيِّبُ الْقَلْبِ، كَرِيمُ الْأَصْلِ.»
فَقَالَ «قَيْصَرُ»: «إِنَّ «قَيْصَرَ» لَا يَخْشَى كَائِنًا كَانَ؛ وَلَوْ أَنَّ «قَيْصَرَ» يَخْشَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، لَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ وَحْدَهُ مَصْدَرَ حَذَرِهِ، وَمَبْعَثَ خَوْفِهِ. أَلَا تَرَاهُ شَاحِبَ الْوَجْهِ، مَهْزُولَ الْجِسْمِ، كَثِيرَ الْإِطْرَاقِ، دَائِمَ التَّفْكِيرِ، يَكَادُ لَا يَبْتَسِمُ؟ شَدَّ مَا تَدْهَشُنِي غَرَابَةُ أَطْوَارِهِ (أَحْوَالِهِ)، وَعُمْقُ نَظَرَاتِهِ! وَمَا أَظُنُّ «كَسْيَاسَ» هَذَا يَرْتَاحُ لَهُ بَالٌ، وَيَهْدَأُ لَهُ خَاطِرٌ، أَوْ يَظْفَرَ بِرُتْبَةِ الزَّعَامَةِ، وَيَنَالُ غَايَةَ الْمَجْدِ. وَمَا أَرَاهُ يَظَلُّ لَيْلَهُ إِلَّا مُؤَرَّقًا (سَاهِرًا مَهْمُومًا)؛ لِأَنَّ فِي «رُومَةَ» رَجُلًا أَرْفَعُ مِنْهَ مَنْصِبًا، وَأَعْلَى مَكَانَةً، وَأَعْظَمَ جَاهًا.»
(١٤) حَدِيثُ «كَسْكَا»
ثُمَّ خَرَجَ «قَيْصَرُ» وَحَاشِيَتُهُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا «كَسْكَا». وَكَانَ «كَسْيَاسُ» قَدْ جَذَبَ فَضْلَ رِدَائِهِ (طَرَفَ ثَوْبِهِ)، لِيَحْجُزَهُ مَعَهُ قَلِيلًا، ثُمَّ سَأَلَهُ عَمَّا حَدَثَ فِي حَفْلَةِ السِّبَاقِ. وَكَانَ «كَسْكَا» يَمْقُتُ «قَيْصَرَ» أَشَدَّ الْمَقْتِ، وَيُبْغِضُهُ أَشَدَّ الْبُغْضِ؛ فَرَاحَ يَقُصُّ عَلَى «كَسْيَاسَ» وَ«بُرُوتَسَ» — بِعَيْنِ الْحَاقِدِ الْمَغِيظِ الْمُحْنَقِ — مَا رَآهُ فِي تِلْكَ الْحَفْلَةِ، وَيَقُولُ لَهُمَا: «إِنَّهَا كَانَتْ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِقِصَّةٍ تَمْثِيلِيَّةٍ سَخِيفَةٍ. فَقَدْ عَرَضَ «أَنْطُنْيُوسُ» التَّاجَ عَلَى صَدِيقِهِ «قَيْصَرَ» — عَلَى مَرْأًى مِنَ النَّظَّارَةِ (الْمُشَاهِدِينَ) — فَرَفَضَهُ «قَيْصَرُ» مُتَظَاهِرًا بِالزُّهْدِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. وَقَدْ خُدِعَ الْحَاضِرُونَ، فَصَفَّقُوا لِذَلِكَ التَّمْثِيلِ، وَقَذَفَ الْعَامَّةُ بِقَلَانِسِهِمْ (أَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ)، وَتَعَالَتْ صَيْحَاتُهُمْ سُرُورًا.»
ثُمَّ خَرَجَ «كَسْكَا»، بَعْدَ أَنْ لَعَنَ «قَيْصَرَ»، وَحَقَّرَ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ لَهُ حِقْدُهُ. وَكَانَ «كَسْيَاسُ» يُحَبِّذُ قَوْلَهُ، حَتَّى امْتَلَأَتْ نَفْسُ «بُرُوتَسَ» حِقْدًا عَلَى صَدِيقِهِ «قَيْصَرَ»، وَكَرَاهِيَةً لَهُ. وَخَرَجَ «بُرُوتَسُ» عَلَى أَنْ يَلْتَقِيَ «كَسْيَاسَ» فِي دَارِهِ، فِي فَجْرِ الْغَدِ.
(١٥) لَيْلَةٌ هَائِلَةٌ
وَقَدِ الْتَقَى «شِشِيرُونُ» صَدِيقَهُ «كَسْكَا»، فَرَآهُ يَرْعُدُ وَيُزَمْجِرُ وَيَهِيجُ غَاضِبًا، وَقَدْ شَهَرَ فِي يَدِهِ حُسَامَهُ (سَلَّ سَيْفَهُ)؛ فَسَأَلَهُ «شِشِيرُونُ»: «أَيُّ خَطْبٍ أَفْزَعَكَ؟ وَأَيُّ أَمْرٍ خَوَّفَكَ؟»
فَقَالَ لَهُ «كَسْكَا»: «لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ الْمُفْزِعَاتِ الْمَاضِيَةِ وَالْأَحْدَاثِ وَالشُّئُونِ مَا لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالٍ، وَشَهِدْتُ هِيَاجَ الْبَحْرِ، وَاصْطِخَابَ الْأَمْوَاجِ (اضْطِرَابَهَا)، وَثَوْرَةَ الْعَوَاصِفِ الْهُوجِ (الرِّيَاحِ الَّتِي تَهُبُّ يَمِينًا وَشِمَالًا)، وَعُنْفَ الزَّوَابِعِ الَّتِي تَقْتَلِعُ الدَّوْحَ (الْأَشْجَارَ الضَّخْمَةَ)، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ — فِي كُلِّ مَا رَأَيْتُ مِنَ الْمُرَوِّعَاتِ — بَعْضَ مَا رَأَيْتُهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْهَائِلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَدُورَ بِخَلَدِي أَنَّ الْعَوَاصِفَ تُمْطِرُ شَرَرًا، وَأَنَّ السَّمَاءَ تَقْذِفُ سَاكِنِي الْأَرْضِ نَارًا وَلَهَبًا! لَقَدْ هَوَتِ الصَّوَاعِقُ عَلَى بَعْضِ الْأَهْلِينَ فَأَحْرَقَتْهُمْ، وَرَأَيْتُ فِي طَرِيقِي عَبْدًا تَغْمُرُ النَّارُ جِسْمَهُ، وَنِسَاءً مَذْعُورَاتٍ شَاحِبَاتٍ (مُتَغَيِّرَاتِ الْوُجُوهِ) يَعْتَسِفْنَ الطُّرُقَاتِ (يَتَخَبَّطْنَ فِي سَيْرِهِنَّ عَلَى غَيْرِ هُدًى)، وَقَدْ مَلَأَ الذُّعْرُ قُلُوبَهُنَّ. وَأَبْصَرْتُ أَسَدًا شَارِدًا فِي الطَّرِيقِ، وَقَدْ نَظَرَ إِلَيَّ مُحْدِقًا، وَلَمْ يَمَسَّنِي بِأَذًى. وَقَدْ سَمِعْنَا الْبُومَةَ — ظُهْرَ أَمْسِ — تَنْعَبُ وَتُنْذِرُنَا بِالْوَيْلِ، فَعَجِبْنَا: كَيْفَ ظَهَرَتْ نَهَارًا، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا بِذَلِكَ عَهْدٌ؟»
فَقَالَ لَهُ «شِشِيرُونُ»: «مَا أَجْدَرَنِي بِالْعَوْدَةِ إِلَى دَارِي، فَإِنَّ الطَّرِيقَ مَخُوفَةٌ لَا تُشَجِّعُ عَلَى الْبَقَاءِ فِيهَا.»
وَمَا تَرَكَهُ «شِشِيرُونُ»، حَتَّى جَاءَ «كَسْيَاسُ»؛ فَحَيَّا صَدِيقَهُ «كَسْكَا»، وَرَأَى مَا يُسَاوِرُهُ مِنَ الذُّعْرِ وَالْخَوْفِ؛ فَقَالَ لَهُ: «لَيْسَ أَحَبَّ إِلَى نَفْسِي مِنْ هَذِهِ الْعَوَاصِفِ الْمُلْتَهِبَةِ الثَّائِرَةِ؛ فَإِنَّهَا تُوقِظُ الْهِمَمَ، وَتُنْذِرُ بِأُمُورٍ جِسَامٍ (عَظِيمَةٍ). وَلَسْتُ أَرَى — فِي هَذِهِ الْأَحْدَاثِ الْهَائِلَةِ — إِلَّا إِنْذَارًا لِسَاكِنِي «رُومَةَ» بِطَرْحِ الْخُمُولِ وَالْكَسَلِ، وَشَحْذًا لِعَزَائِمِهِمُ الْخَائِرَةِ، وَتَقْوِيَةً لِهِمَمِهِمُ الضَّعِيفَةِ الْفَاتِرَةِ؛ لِيَنْتَقِمُوا مِنَ الظَّلَمَةِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَيُقَوِّضُوا صُرُوحَ الْبَغْيِ (يُسْقِطُوا بُيُوتَ الظُّلْمِ)، وَيَقْضُوا عَلَى نُفُوذِ «قَيْصَرَ» الَّذِي أَذَلَّ زُعَمَاءَ الْبِلَادِ، وَجَعَلَهُمْ لَهُ عَبِيدًا وَخَدَمًا.»
•••
وَكَانَ «كَسْيَاسُ» يَرَى — فِي ثَوْرَةِ الطَّبِيعَةِ وَطُغْيَانَهَا — مِثَالًا لِمَا يَجِيشُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ثَوْرَةِ الْحِقْدِ. وَقَدْ أَسَرَّ إِلَى «كَسْكَا» بِمَا يَشْتَعِلُ فِي صَدْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْكَيْدِ ﻟ«قَيْصَرَ». وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى ضَمَّهُ إِلَى شِيعَتِهِ وَأَنْصَارِهِ.
وَبَاتَ «كَسْيَاسُ» لَيْلَهُ سَاهِدًا (مُؤَرَّقًا لَا يَنَامُ)، يُدَبِّرُ مَكِيدَتَهُ، وَيَحْكُمُ مُؤَامَرَتَهُ الَّتِي اعْتَزَمَ إِنْفَاذَهَا فِي غَدَاةِ الْغَدِ (صُبْحِ الْيَوْمِ التَّالِي)، مَعَ رِفَاقِهِ الْحَاقِدِينَ، وَشِيعَتِهِ الْغَادِرِينَ.