الْفَصْلُ الثَّانِي
(١) وَسَاوِسُ «بُرُوتَسَ»
قَضَى «بُرُوتَسُ» لَيْلَةً هَائِلَةً، وَظَلَّ طَرِيحَ الْفِرَاشِ، تَنْتَابُهُ الْوَسَاوِسُ، وَتُعَاوِدُهُ الْمَخَاوِفُ، وَلَمْ يَطْرُقِ الْكَرَى طَرَفَهُ (لَمْ يَزُرِ النَّوْمُ عَيْنَهُ). وَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ هَبَّ مِنْ فِرَاشِهِ مَذْعُورًا، وَأَيْقَظَ خَادِمَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوقِدَ الْمِصْبَاحَ، ثُمَّ أَطْرَقَ «بُرُوتَسُ» مُفَكِّرًا، وَقَلْبُهُ يَفِيضُ أَسًى وَحُزْنًا، لِهَوْلِ مَا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ.
•••
وَكَانَ «بُرُوتَسُ» خَيْرَ صَدِيقٍ مُخْلِصٍ وَفِيٍّ ﻟ«قَيْصَرَ»، وَلَمْ يَكُنْ يَلْقَى مِنْهُ إِلَّا مَا يُحِبُّ. لِهَذَا وَقَفَ «بُرُوتَسُ» مُتَرَدِّدًا حَائِرًا، يُحَاوِلُ أَنْ يُسَوِّغَ جَرِيمَتَهُ (يَجْعَلَهَا مَقْبُولَةً) أَمَامَ نَفْسِهِ، بَعْدَ أَنِ اعْتَزَمَ تَحْقِيقَهَا. وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يُبِيحُ اقْتِرَافَ هَذِهِ الْفَعْلَةِ الشَّنْعَاءِ. وَقَدْ أَعْوَزَتْهُ الْأَسْبَابُ، فَلَمْ يَجِدِ الْأَدِلَّةَ الَّتِي تُقْنِعُهُ بِصَوَابِ مَا سَمِعَهُ مِنْ «كَسْيَاسَ»، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَخْلُقَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ خَلْقًا.
(٢) مُسَوِّغَاتُ الْجَرِيمَةِ
فَقَالَ «بُرُوتَسُ» لِنَفْسِهِ: «إِنَّ الطَّمَعَ بِلَا شَكٍّ سَيُغْرِي «قَيْصَرَ» بِظُلْمِ الشَّعْبِ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَى أَصْدِقَائِهِ. وَلَئِنْ صَحَّ مَا قَالَهُ «كَسْيَاسُ» لِيَكُونَنَّ إِنْقَاذُ «رُومَةَ» عَلَى أَيْدِينَا مِنْ عَسْفِ الْمُسَتَبِدِّينَ، وَجَوْرِ الظَّالِمِينَ، وَلَنَرْجِعَنَّ لِلنَّاسِ حُرِيَّتَهُمُ الْمَسْلُوبَةَ. أَلَا إِنَّنِي لَا أُضْمِرُ حِقْدًا ﻟ«قَيْصَرَ»، وَمَا كُنْتُ لَهُ عَدُوًّا يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، وَلَكِنَّ مَصْلَحَةَ بِلَادِي خَيْرٌ مِنْ صَدَاقَتِهِ، وَحُرِيَّةَ وَطَنِي أَثْمَنُ مِنْ إِرْضَاءِ «قَيْصَرَ». لَقَدْ طَمَحَتْ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يُتَوَّجَ عَلَى «رُومَةَ»؛ فَإِذَا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ، مَكَّنَّا لَهُ مِنْ رِقَابِنَا، وَأَذْلَلْنَا لَهُ أَعْنَاقَنَا، وَحَنَيْنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ رُءُوسَنَا. إِنَّ «قَيْصَرَ» لَمْ يُسِئْ إِلَيْنَا، وَلَا إِلَى «رُومَةَ» قَطُّ، وَلَكِنَّهُ — إِذَا تَمَّ لَهُ مَأْرَبُهُ (مُرَادُهُ)، وَتَحَقَّقَتْ أَطْمَاعُهُ — لَنْ يَرْحَمَ كَائِنًا كَانَ، وَلَنْ يَتَوَرَّعَ عَنِ الْبَطْشِ بِرُءُوسِ «رُومَةَ»، وَقَتْلِ أَعْيَانِهَا. إِنَّ بَيْضَةَ الْأَفْعَى لَا بُدَّ أَنْ تُفْرِخَ بَعْدَ حِينٍ، ثُمَّ تُصْبِحُ حَيَّةً خَبِيثَةً مُؤْذِيَةً تَفْتِكُ بِكُلِّ مَا تَلْقَاهُ فِي طَرِيقِهَا. وَمَا أَجْدَرَنَا أَنْ نُحَطِّمَ الْبَيْضَةَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا الْحَيَّةُ. إِنَّ عَقْلَ «قَيْصَرَ» رَاجِحٌ لَمْ تُغَالِبْهُ الْأَهْوَاءُ وَالنَّزَعَاتُ الضَّارَّةُ، وَلَم يُغَيِّرْهُ النَّجَاحُ — فِيمَا نَعْلَمُ — وَلَكِنَّ الْحَيَاةَ قَدْ حَذَّرَتْنَا أَنْ نَنْخَدِعَ بِتِلْكَ الْمَظَاهِرِ؛ فَإِنَّ الْعُظَمَاءَ جَمِيعًا يَتَّخِذُونَ التَّوَاضُعَ — فِي بَدْءِ حَيَاتِهِمْ — مِرْقَاةً إِلَى أَطْمَاعِهِمْ، وَسُلَّمًا لِتَحْقِيقِ أَغْرَاضِهِمْ؛ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا الْقِمَّةَ، نَسُوا كُلَّ شَيْءٍ، وَتَطَلَّعُوا إِلَى سَمَاءِ الْعَظَمَةِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا السُّلَّمَ الَّذِي صَعِدُوا أَدْرَاجَهُ، وَارْتَقَوْا مَرَاتِبَهُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، وَلَمْ يَعْرِفُوا لَهُ فَضْلًا عَلَيْهِمْ.»
(٣) بِطَاقَةُ الْمُؤَامَرَةِ
وَظَلَّ «بُرُوتَسُ» يُعَلِّلُ نَفْسَهُ بِهَذِهِ التَّعِلَّاتِ الْخَاطِئَةِ. وَإِنَّهُ لَغَارِقٌ فِي أَوْهَامِهِ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ خَادِمُهُ «لُسْيُوسُ» وَفِي يَدِهِ بِطَاقَةٌ أَلْقَى بِهَا الْمُؤْتَمِرُونَ مِنْ نَافِذَةِ غُرْفَتِهِ، وَفِيهَا: «أَيُّهَا النَّائِمُ! اسْتَيْقِظْ، فَقَدْ حَانَ وَقْتُ الْعَمَلِ، وَاقْتَدِ بِأَسْلَافِكَ (اتَّبِعْ مَنْ قَبْلَكَ) مِنَ الْفَاتِحِينَ؛ فَإِنَّ إِنْقَاذَ «رُومَةَ» لَنْ يَتِمَّ إِلَّا عَلَى يَدَيْكَ.»
وَمَا انْتَهَى «بُرُوتَسُ» مِنْ قِرَاءَةِ الْبِطَاقَةِ، حَتَّى سَمِعَ طَرْقًا بِالْبَابِ، وَكَانَ الْقَادِمُ «كَسْيَاسُ» وَمَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ رِفَاقِهِ الْمُؤْتَمِرِينَ ﺑ«قَيْصَرَ»، وَهُمْ جَمِيعًا مُلَثَّمُونَ (مُغَطُّونَ أَوْجُهَهُمْ) لَا يَبْدُو مِنْهُمْ غَيْرُ أَعْيُنِهِمْ. فَأَمَرَهُمْ «بُرُوتَسُ» أَنْ يُمِيطُوا اللِّثَامَ (يَرْفَعُوهُ عَنْ وُجُوهِهِمْ)، وَقَالَ لَهُمْ: «لَسْنَا أَثَمَةً وَلَا مُجْرِمِينَ، فَمَا بَالُنَا نَعْمَلُ فِي الظَّلَامِ؟»
ثُمَّ جَلَسُوا يَتَشَاوَرُونَ سَاعَةً فِيمَا يَفْعَلُونَ. وَاقْتَرَحَ «كَسْيَاسُ» أَنْ يُقْسِمُوا جَمِيعًا عَلَى الْوَفَاءِ بِعُهُودِهِمْ لِوَطَنِهِمُ الْعَزِيزِ، وَالِانْتِقَامِ مِنْ «قَيْصَرَ» الْمُسْتَبِدِّ. فَصَاحَ فِيهِمْ «بُرُوتَسُ» صَيْحَةَ الْمُغْضَبِ الْحَانِقِ: «مَا حَاجَتُنَا إِلَى الْقَسَمِ، وَنَحْنُ رِجَالٌ لَا نَتَرَدَّدُ فِيمَا نَعْتَزِمُ؟ إِنَّ آلَامَنَا وَآمَالَنَا وَاحِدَةٌ، وَقَدْ آلَيْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا (أَقْسَمْنَا) أَنْ نَخْدُمَ الْوَطَنَ، وَنُنْقِذَ «رُومَةَ» وَنَبْطِشَ بِالْمُسْتَبِدِّ الظَّالِمِ. فَإِذَا لَمْ نَكُنْ خَلِيقِينَ بِتَحْقِيقِ آمَالِ الْبِلَادِ، فَلَا خَيْرَ فِينَا، وَلَا فَائِدَةَ مِنَ الْقَسَمِ.» فَأَمَّنُوا جَمِيعًا عَلَى رَأْيِهِ.
(٤) اقْتِرَاحُ «كَسْيَاسَ»
ثُمَّ قَالَ «كَسْيَاسُ»: «لَا فَائِدَةَ مِنْ قَتْلِ «قَيْصَرَ» إِذَا لَمْ نُتْبِعْهُ قَتْلَ صَدِيقِهِ الْحَمِيمِ «أَنْطُنْيُوسَ»؛ حَتَّى لَا يَهِيجَ الشَّعْبَ، فَيُحَرِّضَهُ عَلَى إِيذَائِنَا وَالِانْتِقَامِ مِنَّا.»
فَقَالَ «بُرُوتَسُ»: «لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى تَحْقِيقِ هَذَا الِاقْتِرَاحِ، وَإِلَّا أَصْبَحْنَا مُجْرِمِينَ سَفَّاحِينَ (مُسِيلِينَ لِلدِّمَاءِ مُحِبِّينَ لِلْغَدْرِ).
لَقَدِ اعْتَزَمْنَا أَنْ نُنْقِذَ الْبِلَادَ مِنِ اسْتِبْدَادِ «قَيْصَرَ» وَظُلْمِهِ، فَمَا ذَنْبُ «أَنْطُنْيُوسَ»؟ وَمَا بَالُنَا نَجْزَعُ مِنْهُ، وَهُوَ لَمْ يُسِئْ إِلَى وَطَنِنَا، وَلَم تَبْدُرْ مِنْهُ إِسَاءَةٌ إِلَى «رُومَةَ»؟ لَوْ أَنَّنَا قَدَرْنَا عَلَى إِزْهَاقِ رُوحِ «قَيْصَرَ» دُونَ أَنْ نُرِيقَ مِنْ دَمِهِ قَطْرَةً وَاحِدَةً، لَكُنَّا أَسْعَدَ النَّاسِ. وَلَكِنْ وَا أَسَفَاهُ! لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا مَعْدَى لَنَا (لَا مَخْلَصَ) عَنْ سَفْكِ دَمِهِ مُرْغَمِينَ، لِتَحْقِيقِ غَايَتِنَا النَّبِيلَةِ. وَلَوْلَا تَفَانِينَا فِي نُصْرَةِ الْوَاجِبِ وَخِدْمَةِ الْوَطَنِ، لَمَا فَكَّرْنَا لَحْظَةً وَاحِدَةً فِي الْإِقْدَامِ عَلَى هَذِهِ الْفَعْلَةِ النَّكْرَاءِ.»
فَلَمْ يَجِدْ «كَسْيَاسُ» بُدًّا مِنْ مُوَافَقَةِ «بُرُوتَسَ» عَلَى مَا قَالَ.
(٥) فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ
ثُمَّ دَقَّتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ «كَسْيَاسُ»: «لَقَدْ حَانَ وَقْتُ الِانْصِرَافِ، فَوَدَاعًا أَيُّهَا الصَّدِيقُ النَّبِيلُ، حَقَّقَ اللهُ آمَالَنَا، وَأَنْجَحَ مَسْعَانَا.
وَلَكِنَّنِي أَخْشَى أَنْ يَتَخَلَّفَ «قَيْصَرُ» فِي هَذَا الْيَوْمِ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى دَارِ النِّيَابَةِ؛ فَقَدْ أَصْبَحَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَخَافُ وَيَتَطَيَّرُ (يَتَشَاءَمُ)، وَرُبَّمَا لَزِمَ بَيْتَهُ اتِّقَاءً لِمَا سَمِعَهُ مِنَ الْعَرَّافِ، وَمَا رَآهُ — اللَّيْلَةَ — مِنَ الْمُزْعِجَاتِ.»
فَقَالَ أَحَدُ الْمُؤْتَمِرِينَ: «لَا يُهِمُّكُمْ ذَلِكَ؛ فَإِنِّي كَفِيلٌ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ قَصْرِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَسَأَعْرِفُ كَيْفَ أَتَمَلَّقُهُ وَأَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ، وَأُزَيِّنَ لَهُ الذَّهَابَ إِلَى دَارِ النِّيَابَةِ؛ حَتَّى لَا تُفْلِتَ مِنْ أَيْدِينَا هَذِهِ الْفُرْصَةُ الثَّمِينَةُ النَّادِرَةُ.»
وَهَكَذَا قَرَّ قَرَارُهُمْ، وَأَعَدُّوا عُدَّتَهُمْ لِلْفَتْكِ ﺑ«قَيْصَرَ» فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَشْئُومِ. ثُمَّ وَدَّعُوا «بُرُوتَسَ»، وَخَرَجُوا مَسْرُورِينَ بِمَا أَحْرَزُوهُ مِنْ فَوْزٍ وَشِيكٍ (نَجَاحٍ قَرِيبٍ).
(٦) حِوَارُ «پُرْشَا»
وَبَقِيَ «بُرُوتَسُ» غَارِقًا فِي وَسَاوِسِهِ وَأَحْلَامِهِ، وَإِنَّهُ لَيُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْمُؤَامَرَةِ الْخَطِيرَةِ، إِذْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَوْجُهُ «پُرْشَا».
فَدَهِشَ «بُرُوتَسُ» لِمَقْدَمِهَا، وَدُخُولِهَا عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الْمُبَكِّرَةِ، وَسَأَلَهَا مُتَعَجِّبًا: «مَاذَا أَلَمَّ بِكِ، أَيَّتُهَا الزَّوْجُ الْعَزِيزَةُ؟»
فَقَالَتْ لَهُ «پُرْشَا»: «مَا أَعْجَبَ مَا يَبْدُو مِنْكَ مِنْ شُذُوذٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ! تُرَى: أَيُّ شَيْءٍ قَدْ هَاجَ بِبَالِكَ، وَأَثَارَ هَمَّكَ وَغَمَّكَ، وَأَزْعَجَ خَاطِرَكَ؟ أَيُّ حَادِثٍ أَقَضَّ مَضْجَعَكَ (جَعَلَهُ خَشِنًا لَا تَطْمَئِنُّ عَلَيْهِ)؟ وَأَيُّ عَارِضٍ غَيَّرَ مِنْ أَخْلَاقِكَ؟ وَمَا بَالُكَ أَبَيْتَ أَنْ تُجِيبَنِي لَيْلَةَ أَمْسِ، حِينَ سَأَلْتُكَ عَنْ مَصْدَرِ شَكْوَاكَ وَمَبْعَثِ أَلَمِكَ؟ أَلَسْتُ أَنَا زَوْجَكَ الْوَفِيَّةَ الْمُخْلِصَةَ الْبَارَّةَ؟ أَلَسْتُ جَدِيرَةٌ أَنْ تَثِقَ بِي، وَتُفْضِيَ إِلَيَّ بِدِخْلَتِكَ (تَبُوحَ لِي بِخَفِيِّ أَمْرِكَ)؟ فَمَا بَالُكَ تُحَذِّرُنِي، وَتَكْتُمُ عَنِّي مَصْدَرَ أَلَمِكَ، وَتَحْجُبُ دُونِي سِرَّ مَتَاعِبِكَ؟ وَكَيْفَ تَتَسَلَّلُ مِنْ فِرَاشِي خُفْيَةً دُونَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِمَا أَقَضَّ عَلَيْكَ مَضْجَعَكَ؟ وَلِمَاذَا تَنْتَفِضُ مَذْعُورًا — لَيْلَةَ أَمْسِ — حِينَ كُنَّا نَتَعَشَّى، وَتْمِشِي فِي أَنْحَاءِ الْغُرْفَةِ ضَامًّا ذِرَاعَيْكَ إِلَى صَدْرِكَ، حَائِرَ النَّظَرَاتِ، يَكَادُ الْأَسَى يَفْتِكُ بِكَ، وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ (تَتَنَفَّسُ طَوِيلًا مِنْ شِدَّةِ الْهَمِّ)، وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْكَ الذُّهُولُ وَالْحَيْرَةُ؟ فَلَمَّا سَأَلْتُكَ — فِي رِفْقٍ وَحَنَانٍ — عَمَّا أَلَمَّ بِكَ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْخُطُوبِ، ثَارَ ثَائِرُكَ، وَنَظَرْتَ إِلَيَّ نَظْرَةً فِيهَا أَلْفُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْقَسْوَةِ وَالْحِقْدِ وَالْكَرَاهِيَةِ. فَلَمَّا أَلْحَحْتُ عَلَيْكَ خَاشَنْتَنِي (أَغْلَظْتَ عَلَيَّ فِي الْكَلَامِ)، وَضَرَبْتَ الْأَرْضَ بِقَدَمِكَ، وَلُذْتَ بِالصَّمْتِ، وَلَجَأْتَ إِلَى السُّكَاتِ، وَأَشَرْتَ إِلَيَّ أَنْ أَذْهَبَ لِشَأْنِي. فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنَ الْإِذْعَانِ لِإِشَارَتِكَ، وَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّنِي — إِذَا أَصْرَرْتُ عَلَى سُؤَالِكَ — أَلْهَبْتُ ثَوْرَتَكَ، وَحَمَلْتُكَ عَلَى التَّمَادِي فِي شَرِّكَ. وَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ تَقْسُو فِيهَا عَلَيَّ. فَلَمْ تَكْتُمْ عَنِّي — أَيُّهَا الزَّوْجُ النَّبِيلُ — مَا تُحِسُّهُ مِنْ آلَامٍ؟ أَلَسْتَ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنِي شَرِيكَتُكَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَحَلِيفَتُكَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّنِي لَكَ صَادِقَةٌ أَمِينَةٌ، وَأَنَّكَ لِي نِعْمَ الزَّوْجُ الْبَارُّ الْوَفِيُّ الَّذِي لَا أَعْدِلُ بِهِ بَدِيلًا، وَالَّذِي هُوَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَثْمَنُ مِنَ الْحَيَاةِ بِكُلِّ مَا تَحْوِيهِ مِنْ مَبَاهِجَ وَأَفْرَاحٍ.»
(٧) رَسُولُ الشَّرِّ
وَمَا سَمِعَ «بُرُوتَسُ» مِنْ زَوْجِهِ هَذَا الْعِتَابَ الرَّقِيقَ، حَتَّى لَانَ جَانِبُهُ، وَسُرِّيَ عَنْهُ، وَطَابَ خَاطِرُهُ. وَهَمَّ بِأَنْ يُفْضِيَ إِلَى زَوْجِهِ بِدِخْلَتِهِ (يُحَدِّثُهَا بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ)، وَلَكِنَّهُ سَمِعَ طَرْقًا بَالْبَابِ؛ فَوَعَدَهَا بِأَن يُخْبِرَهَا بِجَلِيَّةِ الْأَمْرِ (حَقِيقَتِهِ)، بَعْدَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ ذَلِكَ الزَّائِرِ. وَلَمْ يَلْقَ «بُرُوتَسُ» ضَيْفَهُ، حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُؤْتَمِرِينَ ﺑ«قَيْصَرَ»، جَاءَ إِلَيْهِ لِيَحْفِزَهُ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ لِتَنْفِيذِ الْمُؤَامَرَةِ الشَّنْعَاءِ. فَارْتَدَى «بُرُوتَسُ» ثِيَابَهُ عَلَى عَجَلٍ، وَخَرَجَ مَعَ الزَّائِرِ، دُونَ أَنْ يُخْبِرَ زَوْجَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَجُولُ فِي نَفْسِهِ، (يَتَرَدَّدُ فِيهَا) مِنَ الْوَسَاوِسِ الْمُزْعِجَةِ.
وَجَلَسَتْ «پُرْشَا» تَرْتَقِبُ عَوْدَةَ زَوْجِهَا قَلِقَةً مَهْمُومَةً، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مَا يَخْبَؤُهُ الْقَدَرُ مِنْ مُزْعِجَاتٍ وَأَحْدَاثٍ.
(٨) فِي بَيْتِ «قَيْصَرَ»
أَمَّا «قَيْصَرُ» فَقَدْ نَهَضَ مِنْ نَوْمِهِ مُبَكِّرًا، وَهُوَ مُفَزَّعُ الْقَلْبِ، إِثْرَ مَا رَآهُ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالْأَحْلَامِ الرَّاعِبَةِ (الْمُخِيفَةِ) فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ اللَّيْلَاءِ.
وَقَدْ قَضَتْ زَوْجُهُ «كَلْبُرْنِيَا» لَيْلَةً هَائِلَةً، وَنَهَضَتْ مِنْ نَوْمِهَا خَائِفَةً مَذْعُورَةً مَرَّاتٍ ثَلَاثًا، وَهِيَ تَصِيحُ مُرَوَّعَةً مُفَزَّعَةً: «وَا غَوْثَاهُ! وَا مُصِيبَتَاهُ! أَدْرِكُوا «قَيْصَرَ». لَقَدْ أَحَاطَ بِهِ الْفُتَّاكُ الْآثِمُونَ، وَأَنْشَبُوا فِي جِسْمِهِ خَنَاجِرَهُمُ الْمَاضِيَةَ، أَدْرِكُوهُ فَإِنَّ الدِّمَاءَ تَتَدَفَّقُ مِنْ جَسَدِهِ!»
وَلَقَدْ ذُعِرَ كُلُّ مَنْ فِي الْقَصْرِ لِصَيْحَاتِهَا، وَفَزِعُوا لِفَزَعِهَا، وَحَاوَلُوا جُهْدَهُمْ أَنْ يُسَرُّوا عَنْهَا؛ فَذَهَبَتْ مَسَاعِيهِمْ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ (ضَاعَتْ بِلَا فَائِدَةٍ). فَلَمَّا أَصْبَحَتْ، حَاوَلَتْ جُهْدَهَا أَنْ تَمْنَعَ «قَيْصَرَ» مِنَ الْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَشْئُومِ. وَلَكِنَّ «قَيْصَرَ» أَبَى أَنْ يَسْمَعَ لَهَا قَوْلًا، وَهَزَأَ بِكُلِّ مَا رَآهُ وَسَمِعَهُ مِنْ النُّذُرِ (النَّصَائِحِ وَالْعَلَامَاتِ الَّتِي أُنْذِرَ بِهَا وَحُذِّرَ)؛ فَقَالَتْ لَهُ زَوْجُهُ: «لَسْتُ مِمَّنْ يُعْنَى بِسَفْسَافِ الْأُمُورِ وَحَقِيرِهَا، وَتَافِهِ الْأَشْيَاءِ وَصَغِيرِهَا. وَلَكِنَّنِي أَشْعُرُ — مِنْ أَعْمَاقِ نَفْسِي — بِشُؤْمِ هَذَا الْيَوْمِ وَنَحْسِهِ، وَأَضْرَعُ إِلَيْكَ مُتَوَسِّلَةً أَلَّا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِكَ.»
فَقَالَ لَهَا «قَيْصَرُ»: «إِنَّ الرَّجُلَ لَا يَرْهَبُ الْمَوْتَ، وَلَا يَجْزَعُ مِنْ مُوَاجَهَةِ الْكَوَارِثِ، وَلِقَاءِ الْمَصَائِبِ. وَلَيْسَ «قَيْصَرُ» مِمَّنْ يَخَافُ الرَّدَى، وَيَخْشَى الْمَوْتَ.»
فَقَالَتْ لَهُ زَوْجُهُ: «لَقَدْ سَأَلْتُ الْعَرَّافِينَ، فَحَذَّرُونِي هَذَا الْيَوْمَ، وَأَوْصَوْا جَمِيعًا بِمَنْعِكَ مِنَ الْخُرُوجِ، حَتَّى لَا تَتَعَرَّضَ لِلْمَكَارِهِ وَالْخُطُوبِ.»
فَقَالَ لَهَا «قَيْصَرُ» هَازِئًا: «لَسْتُ بِالْوَالِهِ الْمُلْتَاعِ (الْحَزِينِ الْمُتَوَجِّعِ)، وَلَسْتُ بِالْجَبَانِ الَّذِي يَمُوتُ أَلْفَ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْمَوْتَ دَائِمًا. وَإِنَّمَا أَنَا حُرٌّ لَا يَخْشَى شَيْئًا، وَلَا يَخْدَعُهُ ضَوْءُ النَّهَارِ الَّذِي يَلْمَعُ بِهِ الرَّمْلُ فِي الصَّحْرَاءِ، فَيَظُنُّهُ النَّاظِرُ — مِنْ بَعِيدٍ — مَاءً، وَهُوَ سَرَابٌ خَدَّاعٌ. وَالْحُرُّ الْمِقْدَامُ لَا يَمُوتُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً حِينَ يَحْضُرُهُ أَجَلُهُ.»
ثُمَّ قَالَ:
(٩) حُلْمُ «كَلْبُرْنِيَا»
فَقَصَّتْ عَلَيْهِ «كَلْبُرْنِيَا» حُلْمًا مُفْزِعًا رَأَتْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَتَوَسَّلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْخُرُوجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَقَالَتْ لَهُ: «لَا تَخْشَ — أَيُّهَا السَّيِّدُ الْجَلِيلُ — أَنْ يَتَّهِمَكَ النَّاسُ بِالْخَوْفِ؛ فَإِنَّ شَجَاعَتَكَ مَعْرُوفَةٌ ذَائِعَةٌ. وَسَيَقُولُ النَّاسُ جَمِيعًا: إِنَّ «قَيْصَرَ» قَدْ عَدَلَ عَنِ الْخُرُوجِ إِرْضَاءً لِزَوْجِهِ، وَبِرًّا بِهَا. وَسَيَعْرِفُونَ أَنَّ خَوْفَ زَوْجِكَ — لَا خَوْفَكَ أَنْتَ — هُوَ السِّرُّ فِي امْتِنَاعِكَ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى دَارِ النِّيَابَةِ.»
ثُمَّ رَكَعَتْ جَاثِيَةً (جَالِسَةً عَلَى رُكْبَتَيْهَا) ضَارِعَةً إِلَيْهِ، مُسْتَشْفِعَةً بِهِ أَلَّا يُخَيِّبَ رَجَاءَهَا، وَأَلَّا يَتْرُكَهَا نَهْبَ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ (عُرْضَةً لَهَا، تَنْهَبُهَا وَتَفْتَرِسُهَا)، وَأَنْ يُسِرَّ إِلَى «أَنْطُنْيُوسَ» بِالذَّهَابِ إِلَى دَارِ النِّيَابَةِ، لِيُخْبِرَ نُوَّابَ «رُومَةَ» أَنَّ «قَيْصَرَ» قَدِ امْتَنَعَ عَنِ الذَّهَابِ إِلَيْهِمْ، لِأَمْرٍ طَارِئٍ أَلَمَّ بِهِ. فَلَمْ يَرَ «قَيْصَرُ» بُدًّا مِنْ تَلْبِيَةِ رَجَائِهَا، وَاعْتَزَمَ الْبَقَاءَ فِي قَصْرِهِ إِرْضَاءً لَهَا.
(١٠) تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا
وَمَا اسْتَقَرَّ قَرَارُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ «دِسْيَاسُ» — أَحَدُ الْمُؤْتَمِرِينَ بِهِ — يَدْعُوهُ إِلَى الْخُرُوجِ.
فَقَالَ لَهُ «قَيْصَرُ»: «لَقَدِ اعْتَزَمْتُ الْبَقَاءَ فِي بَيْتِي — هَذَا الْيَوْمَ — فَاذْهَبْ إِلَى نُوَّابِ «رُومَةَ» وَاحْمِلْ قَرَارِي إِلَيْهِمْ.»
فَقَالَتْ «كَلْبُرْنِيَا» لِلرَّسُولِ: «نَعَمْ، وَخَبِّرْهُمْ أَنَّ «قَيْصَرَ» مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ.»
فَصَاحَ «قَيْصَرُ»: «كَلَّا لَا تَفْعَلْ، يَا «دِسْيَاسُ»!»
ثُمَّ الْتَفَتَ «قَيْصَرُ» إِلَى زَوْجِهِ، وَقَالَ: «أَتُرِيدِينَنِي عَلَى أَنْ أَكْذِبَ؟ أَلَا سَاءَ مَا تَتَوَهَّمِينَ، يَا لِلهِ! أَيَكْذِبُ «قَيْصَرُ»؟ وَهَلْ يَكْذِبُ الرَّجُلُ الشَّرِيفُ؟»
ثُمَّ صَاحَ فِي صَاحِبِهِ «دِسْيَاسَ» قَائِلًا: «كَلَّا، لَسْتُ مَرِيضًا؛ فَلَا تَكْذِبْهُمُ الْقَوْلَ، يَا «دِسْيَاسَ». حَسْبُكَ أَنْ تُخْبِرَهُمْ أَنَّنِي قَدِ اعْتَزَمْتُ الْبَقَاءَ فِي الْبَيْتِ هَذَا النَّهَارِ.»
فَقَالَ لَهُ «دِسْيَاسُ»: «مَاذَا تَقُولُ، يَا سَيِّدِي الْقَيْصَرُ؟ وَكَيْفَ يَتَلَقَّى النُّوَّابُ هَذَا الْقَرَارَ؟»
فَقَالَ لَهُ «قَيْصَرُ»: «لَقَدْ رَأَتْ زَوْجِي — فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ — حُلْمًا هَائِلًا (مُخِيفًا)، مَلَأَ قَلْبَهَا فَزَعًا وَرُعْبًا، إِذْ أَبْصَرَتْ فِي مَنَامِهَا تِمْثَالِي، وَقَدْ فَاضَ مِنْهُ مِائَةُ نَبْعٍ مِنَ الدِّمَاءِ الزَّكِيَّةِ (الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ)، ثُمَّ أَقْبَلَتْ جَمْهَرَةٌ مِنْ أَهْلِ «رُومَةَ»، فَغَمَسَتْ أَيْدِيَهَا فِي الدِّمَاءِ مُبْتَهِجَةً مَسْرُورَةً.
وَقَدْ هَالَتْ زَوْجِي تِلْكَ الرُّؤْيَا وَأَخَافَتْهَا، وَرَعَّبَتْهَا وَفَزَّعَتْهَا؛ فَأَصَرَّتْ عَلَى بَقَائِي مَعَهَا فِي الدَّارِ، طُولَ هَذَا النَّهَارِ.»
فَضَحِكَ «دِسْيَاسُ»، وَقَالَ ﻟ«قَيْصَرَ»: «أَيُّ فَزَعٍ فِي هَذِهِ الرُّؤْيَا السَّارَّةِ الْبَهِيجَةِ؟ إِنَّ لِي رَأْيًا فِي تَأْوِيلِهَا (تَفْسِيرِهَا) غَيْرَ مَا تَرَيَانِ؛ فَإِنَّ الْأَحْلَامَ تُؤَوَّلُ (تُعَبَّرُ) عَلَى عَكْسِ مَا يَرَاهُ الْحَالِمُ، وَلَسْتُ أَرَى فِي تِلْكَ الدِّمَاءِ الْمُرَاقَةِ (الْمَسْفُوحَةِ الْمَسْكُوبَةِ) — الَّتِي سَالَتْ مِنْ تِمْثَالِكَ، وَاغْتَسَلَ فِيهَا أَشْرَافُ «رُومَةَ» — إِلَّا دَلِيلًا جَدِيدًا عَلَى مَا يَبْعَثُ رُوحُكَ الْعَظِيمُ — فِي أَبْنَاءِ «رُومَةَ» — مِنَ الْقُوَّةِ، وَمَا تُكْسِبُ دِمَاؤُكَ الزَّكِيَّةُ وَطَنَكَ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْفُتُوَّةِ. وَالرَّأْي عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ الْحُلْمَ الْبَهِيجَ يَدُلُّ عَلَى مَكَانَتِكَ فِي قُلُوبِ الرُّومَانِ، إِذْ يُمَثِّلُ أَفْذَاذَ «رُومَةَ» (أَفْرَادَهَا الْمُمْتَازِينَ) وَعُظَمَاءَهَا، مُقْبِلِينَ عَلَيْكَ، مُعْجَبِينَ بِمَزَايَاكَ الْبَاهِرَةِ، رَاغِبِينَ فِي أَنْ يَظْفَرُوا بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِكَ الزَّكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ.»
(١١) حِيْلَةُ «دِسْيَاسَ»
فَابْتَهَجَ «قَيْصَرُ» بِمَا سَمِعَ، وَسُرَّ مِنْ تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، وَعَدَلَ عَنِ الْبَقَاءِ فِي دَارِهِ.
فَاسْتَأْنَفَ «دِسْيَاسُ» كَلَامَهُ قَائِلًا: «لَقَدِ اعْتَزَمَ سَرَاةُ «رُومَةَ» (أَشْرَافُهَا) أَنْ يَمْنَحُوكَ التَّاجَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَرُبَّمَا أَغْضَبَهُمْ تَخَلُّفُكَ عَنِ الْحُضُورِ، وَرَأَوْا فِي ذَلِكَ إِزْرَاءً (تَحْقِيرًا) لَهُمْ، وَاسْتِهَانَةً بِهِمْ، وَتَعَالِيًا عَلَيْهِمْ؛ فَعَدَلُوا عَنْ رَأْيِهِمْ فِيكَ، وَانْقَلَبَ حُبُّهُمْ إِيَّاكَ ضَغِينَةً عَلَيْكَ وَحِقْدًا.
وَلَنْ يَقْبَلَ كَائِنٌ كَانَ أَنْ يُصَدِّقَ أَنَّ «قَيْصَرَ» يَخَافُ لِخَوْفِ زَوْجِهِ، وَيَنْسَى وَاجِبَهُ اتِّقَاءً لِوَسَاوِسَ لَا خَطَرَ لَهَا. وَلَنْ يَدُورَ بِخَلَدِ إِنْسَانٍ (لَنْ يَمُرَّ بِخَاطِرِ أَحَدٍ)، أَنَّ «قَيْصَرَ» يَنْسَى شَعْبَهُ، مُسْتَسْلِمًا لِأَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ (أَخْلَاطِهَا).
وَلَقَدْ كُنْتُ — لَوْلَا حُبِّيكَ (مَحَبَّتِي إِيَّاكَ) وَوَفَائِي لَكَ — مُقِرَّكَ عَلَى رَأْيِكَ؛ وَلَكِنَّنِي أَخْشَى — إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ — أَنْ أَكُونَ مِنَ الْأَثَمَةِ الْغَادِرِينَ!»
فَخَجِلَ «قَيْصَرُ» مِمَّا سَمِعَ، وَقَرَّرَ الذَّهَابَ — مِنْ فَوْرِهِ — إِلَى دَارِ النِّيَابَةِ. وَارْتَدَى عَبَاءَتَهُ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ؛ فَرَأَى بَقِيَّةَ الْمُؤْتَمِرِينَ بِهِ قَادِمِينَ عَلَى دَارِهِ — وَعَلَى رَأْسِهِمْ «بُرُوتَسُ» — يَدْعُونَهُ لِمُرَافَقَتِهِمْ إِلَى دَارِ النِّيَابَةِ.
ثُمَّ جَاءَ صَدِيقُهُ الْوَفِيُّ «أَنْطُنْيُوسُ»، وَخَرَجُوا جَمِيعًا مَعَ «قَيْصَرَ»، وَقَدْ سُرِّيَ عَنْهُ، وَزَالَتْ وَحْشَتُهُ، وَذَهَبَ مَا كَانَ يُسَاوِرُهُ مِنَ الْمَخَاوِفِ.
(١٢) جَزَعُ «پُرْشَا»
أَمَّا «پُرْشَا» — زَوْجُ «بُرُوتَسَ» — فَقَدِ اشْتَدَّ جَزَعُهَا عَلَى زَوْجِهَا. وَقَدْ أَدْرَكَتْ — مِمَّا رَأَتْهُ مِنَ الِاضْطِرَابِ عَلَى أَسَارِيرِهِ (خُطُوطِ جَبِينِهِ) — أَنَّهُ قَادِمٌ عَلَى أَمْرٍ جَلَلٍ (عَظِيمٍ)، وَخَشِيَتْ أَنْ يُصِيبَهُ سُوءٌ. فَلَمَّا بَلَغَتِ السَّاعَةُ التَّاسِعَةَ، أَمَرَتْ خَادِمَهَا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى دَارِ النِّيَابَةِ لِيُطَمْئِنَهَا.
•••
وَلَكِنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتًا خَافِتًا؛ فَأَرْهَفَتْ أُذُنَيْهَا، حَتَّى دَانَاهَا الصَّوْتُ؛ فَرَأَتْ عَرَّافًا يَقْتَرِبُ، فَنَادَتْهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا. فَسَأَلَتْهُ عَمَّا يَخْبَؤُهُ الْقَدَرُ لِزَوْجِهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ.
فَقَالَ لَهَا الْعَرَّافُ: «أَرَى أَنَّ زَوْجَكِ يَهُمُّ بِعَظِيمَةٍ مِنْ عَظِيمَاتِ الْأُمُورِ، وَأَخْشَى أَنْ يَلْقَى — مِنَ الْمَكَارِهِ وَالْخُطُوبِ — مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ.»
فَقَالَتْ لَهُ «پُرْشَا» مَحْزُونَةً خَائِفَةً: «هَلْ خَرَجَ «قَيْصَرُ» مِنْ دَارِهِ؟»
فَأَجَابَهَا الْعَرَّافُ: «لَقَدْ حَانَ مَوْعِدُ خُرُوجِهِ، وَسَأَذْهَبُ إِلَيْهِ؛ لِأُحَذِّرَهُ عَاقِبَةَ هَذَا الْيَوْمِ الْمَشْئُومِ.»