عن صعوبة هذا البحث
ربما لا يبدو هذا البحث لأغلب الأكاديميين بحثًا بالمعنى السائد أو الشكل المألوف للبحوث العلمية؛ لأنَّه يزيل الفواصل بين الخاص والعام وبين الجنس والسِّياسة والدِّين والأخلاق، وبين العلم والفن، إلا أنه يبدو مألوفًا لمن قرأ بحوثي المنشورة على مدى نصف القرن الماضي، والتي تعرضت فيها لقضايا النساء والرجال في بلادنا العربية، وعلاقتي بها قديمًا منذ الطفولة.
منذ دخلت المدرسة الابتدائية وشطب المدرِّسون على اسم أمي الذي كتبته إلى جوار اسمي فوق كراستي، وكتبوا اسم أبي، منذ فرَّق المدرِّسون بيني وبين زميلتي في الفصل؛ لأنها قبطية وأنا مسلمة، منذ فصلوا بيني وبين أخي؛ لأنه ولدٌ وأنا بنت، منذ ميَّزوا ابنة المأمور عن بقية التلميذات؛ لأنَّ أباها يملك السلطة.
منذ ذلك الوقت بدأت أحلم بعالَم آخَر لا يشطب فيه أحد على أسماء الأمهات، ولا أحد يسألني مَن هو أبوك وما هو دينك وما هو جنسك أو جنسيتك أو غيرها من الأسئلة التي لا نكف عن سماعها منذ أن نُولد حتى نموت.
ومنذ أن قطع الموس جزءًا من جسدي وأنا طفلة تحت اسم الدين أو الأخلاق، ومنذ سمعت صراخ أخي الصَّغير حين كان الموس يقطع في جسده وعمره ثمانية أيام تحت اسم الدين أو الطهارة، ومنذ أشعلت ابنة الجيران النار في نفسها وماتت محترقة؛ لأنَّ رجلًا خدعها، والخادمة الصَّغيرة التي ألقت نفسها في مياه النيل؛ لأنَّها حملت سفاحًا، والفتاة في الخامسة عشرة من عمرها التي قتلها أبوها في الصعيد؛ لأنَّها لم تنزف ليلة الزفاف؛ حوادث متعددة من هذا النوع نشهدها منذ أن نُولد حتى نموت، تحدث تحت اسم الدين والأخلاق في معظم الأحيان.
منذ الطفولة وأنا أتشكك في عدالة هذه القيم السائدة التي تقطع في أجساد الأطفال والبنات الصغيرات دون ذنب، ضحايا الاغتصاب والكذب أو الحب، يتغنى المجتمع ليل نهار بالحب، وإن وقعت فتاة صغيرة في هذا الحب تربَّص بها المجتمع ذاته دون أن يطرِف له جَفن.
بعد أن كبرت وازداد وعيي بدأت أدرك الصلة الوثيقة بين الدين المقدَّس والسلطة المقدَّسة في الدولة والعائلة.
منذ منتصف القرن العشرين وأنا أكتب من أجل إنقاذ أجساد الأطفال البريئة من الموس في يد الدايات والأطباء وحلَّاقي الصحة، كان اهتمامي يتجه أكثر نحو إنقاذ أجساد البنات وعقولهن، وهذا أمر طبيعي؛ لأني امرأة وطبيبة، عشت بجسدي وعقلي مآسي النساء، خاصةً الفقيرات منهن؛ فقد جئت من قرية فقيرة في دلتا النيل، وتخرَّجت في كلية الطب رغم كل العقبات، واشتغلت طبيبة في القرية والمدينة، لكل هذه الأسباب عرفت معنى الثالوث المزمن في بلادنا (المرض والفقر والجهل)، وكشفت الكثير من الأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية التي تعاني منها النساء والفقراء، وكان لا بد أن أكتب وأنقل إلى الناس ما عرفت.
إنَّ أوَّل خطوةٍ لعلاج المرض أو المشكلة هو الكشف عن أسبابها الحقيقية في تاريخ الفرد والجماعة، أصبح لدراسة التاريخ دور هامٌّ لإدراك الترابط بين الأمراض الجسدية والنفسية والأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعلاقة كل ذلك بالموروث المقدَّس الذي يتغلغل إلى أعماق العقل والجسد والروح، فيفصل بين الثلاثة، يمزق الإنسان المتكامل الكيان الواحد إلى ثلاثة أجزاء متنافرة متصارعة تحت اسم الجسد والعقل والروح، يندرج كلٌّ منها تحت فرع من العلوم فينفصل عن الفرع الآخر، تدخل «الروح» تحت عِلم الدين أو اللاهوت أو الروحانيات والأخلاقيات، ويدخل العقل تحت تخصص آخَر هو الطب النَّفسي أو الأمراض النَّفسيَّة والعقليَّة، وينفصل كل ذلك عن الأمراض الاجتماعية أو السياسية التي ينتج عنها «الفقر» أو «الحروب الاقتصادية والعسكرية» وغيرها مما يُشكِّل أهم الأسباب التي تعرِّض أجسام النَّاس وعقولهم وأرواحهم للأمراض والمشاكل على اختلاف أنواعها.
من أهم العقبات أمام الباحثين والباحثات في أي مجال من العلوم الطبيعية أو الإنسانية هو هذا الفصل بين ما نسميه علومًا طبيعية (كالطب والفلك والفيزياء والكيمياء وغيرها)، وبين ما نسميه علومًا إنسانية (كالدين والفلسفة والتاريخ والأدب وغيرها). لم تَعُد الرؤية الشاملة للكِيان الكلي للإنسان (الرجل أو المرأة) متاحةً للباحثين والباحثات.
لقد ارتبطت كلمة «الروح» في أعماق عقولنا وأجسامنا منذ الطفولة بالمقدَّس الأعلى، بالقوة الرهيبة في السماء، أو ما درجنا على تسميتها «الإله»، وهي منطقة محظورة محاطة بالخوف والرهبة وعدم المعرفة؛ فهي من اختصاص الآلهة أو الإله أو المقدَّس.
لا تسعى التربية في بيوتنا أو مدارسنا إلى إنتاج الشعب الشجاع القادر على تجاوز الحدود التي يفرضها المقدَّس في الدين أو المقدَّس في الدولة والعائلة، بل العكس تقوم التربية في البيوت والمدارس والجامعات على ترسيخ الخوف من المقدَّس الديني والمقدَّس السياسي في آنٍ واحد، لكن المقدَّس لا يكون مُقدَّسًا إلا في مواجهة نقيضه الآخر، أو ما نسميه «المُدنَّس»، ومن هنا نشوء كلمة «الشيطان» في علوم الدين أو اللاهوت؛ أمَّا في العلوم السياسية فإن كلمة «المعارضة» أو «أحزاب المعارضة» هي التي تأخذ دور الشيطان، وهو دور هام، بل ضروري لأي سلطة في الدولة، سواء كانت ديمقراطية أو دكتاتورية؛ في الأنظمة الدكتاتورية يهبط الشيطان أو المعارضة تحت الأرض في الأحزاب السرية، أو تدخل السجون تحت اسم الخيانة الوطنيَّة أو عدم الشرعيَّة. وفي الأنظمة الديمقراطية تظهر المعارضة على السطح، لكنها تظل محكومة مشلولة الحركة، ويمكن ضربها عند الضرورة، كما حدث في مصر خلال سبتمبر ١٩٨١؛ حيث زجَّ أنور السادات بالمعارضة في السجون والمعتقلات.
إنَّ غياب الديمقراطية أو الحرية الحقيقية في حياتنا السياسية من أهم العقبات أمام الباحثين والباحثات في أي مجال من مجالات العلم والمعرفة، هذه المعرفة التي تم تحريمها بوضوح في أول الأديان السماوية، وهو الدين اليهودي، وكانت حواء أو المرأة هي التي أكلت الثمرة المحرَّمة فوق شجرة المعرفة، وتم إدانتها وعقابها، وليس هي وحدها «حواء»، وإنما الجنس كله، أو سلالتها جميعًا؛ بنات حواء.
لقد أصبح الجسد يرمز إلى الجنس المدنَّس، والشيطان؛ المرأة بالذات. أمَّا الروح فهي ترمز إلى المقدَّس، الجنس الأعلى أو الرجل، الذي يمثِّل الإله فوق الأرض.
لكن دراسة التاريخ تكشف لنا عن أنَّ هذا الوضع لم يكن هو الوضع الأصلي في الحياة البشرية، وفي مصر القديمة كانت المرأة ترمز إلى الروح المقدَّسة أو إلى السماء؛ إذ كانت الإلهة «نوت» هي إلهة الماء، وزوجها «جيب» كان إله الأرض، ربما لهذا السبب نخاطب «الروح» بالمؤنث، ونخاطب السماء بالمؤنث أيضًا، ونخاطب «الشمس» بالمؤنث، وكانت الإلهة إزيس (ابنة نوت) ترمز إلى الشمس، تحمل قرص الشمس فوق رأسها كالتاج، وكانت إزيس ترمز إلى المعرفة والحكمة.
لكن هذه الدراسات التي تبحث في التاريخ البشري عن أصل المقدَّس أو المدنَّس ليست موجودة في بلادنا إلا نادرًا؛ فهي محاطة بالخوف من العقاب في الدنيا (والآخرة)، وقد حاولت الاقتراب منها في بعض مؤلفاتي السابقة، ونالني بسبب ذلك الكثير من الأذى.
ربما كانت الكتابة الأدبية أو القصائد الشعرية أكثر كشفًا (لموضوع المرأة والدين والأخلاق) من البحوث العلمية، بسبب المحرَّمات الدينية من ناحية؛ ولأن مفهوم «العلم» في بلادنا ظلَّ حبيس العقل الأكاديمي المنفصل عن الجسد والروح، أو ما نسميه الإحساس أو الشعور أو الوجدان. لقد تم الفصل بين «الموضوع» وبين الذات، أو بين ما نسميه «الموضوعية» وبين ما نسميه «الذاتية». ربما لهذا السبب نجد أن أغلب البحوث العلمية جامدة مملة نظريًّا، مجرَّدة خالية من حرارة الحياة الحقيقية التي يعيشها النساء والرجال كل يوم.
إن مثل هذا البحث عن «المرأة والدين والأخلاق» لا يمكن أن يكون بحثًا علميًّا (في نظري) دون أن يتجاوز الحدود المفروضة علينا في البحث الأكاديمي، دون أن يكسر القوالب الجامدة التي توارثناها من الأسلاف، والتي تفصل بين حياتنا الخاصة وحياتنا العامة، أو بين الطب والأدب، أو بين العلم والفن.
إن الناس تعيش حياتها اليومية بطريقة طبيعية ليس فيها تلك الفواصل النظرية المفروضة في البحوث العلميَّة.
الناس تعمل وتأكل وتشرب وتقرأ وتكتب وتمارس الجنس، وتصلي وتصوم وتخضع للسلطة وتتمرد عليها، وتكذب وتصدق بكيانها الكلي، دون فاصل بين ما نطلق عليه نظريًّا الدين أو الأخلاق أو الجنس أو السياسة أو الاقتصاد أو غيرها.