حين يستيقظ الضمير الإنساني١
اليوم الجمعة ٧ فبراير ٢٠٠٥، وأنا في غرفتي في مدينة صغيرة في جنوب ولاية كاليفورنيا، قرب الشاطئ الغربي لأمريكا الشمالية، المطل على المحيط الهادي (الباسيفيكي)، الشمس غائبة وراء سُحب تُنذر بالمطر، البرودة خفيفة تشبه البرودة في مصر أيام الشتاء، حين تسطع الشمس يصبح الجو ربيعًا، ومياه المحيط دافئة مثل مياه البحر الأبيض المتوسط، يعود بي الدفء إلى الوطن الذي أحلُم به؛ حيث العدل وحيث الحرية وحيث الحب، الوطن الذي لا يتحقق إلا في الحُلم، أقرأ عنه هنا في الصحف، أشعر بالحزن على الملايين من النساء والرجال والشباب والأطفال، يعيشون الأكذوبة الكبرى؛ أن بلادنا تسير إلى الديمقراطية والسلام، تنطلق الأكذوبة من هنا، ينطق بها جورج بوش الابن، كما نطق بها أبوه ومَن سبقوه، تسري الأكذوبة من الشمال إلى الجنوب، تلتقطها الحكومات الباطشة في بلادنا، يرددونها كالببغاوات، بالغباء نفسه، بالدهاء نفسه، من أجل الثراء، أي ثراء؟ ليس إلا الفُتات، وإن كان أكثر، فهل يحملون معهم إلى القبر قصورهم وأموالهم في البنوك؟!
لكن الشعوب هي الشعوب، في الجنوب وفي الشمال، تنطلق الحقيقة من الشعوب مثل الصفعة على وجه الحكومات، تسقط الحكومات وتُدفَن في التاريخ وتبقى الشعوب، الرجال والنساء الذين رفعوا أصواتهم ضد الحرب وضد الظلم وضد الكذب، رفعوا أصواتهم ثُمَّ ماتوا في السجون، أو تم اغتيالهم خارج السجن، أو تشويه تاريخهم في المحاكم العسكرية أو المدنية.
اليوم الجمعة، ٧ فبراير ٢٠٠٥، ينطلق صوتٌ من هنا، من الولايات المتحدة الأمريكية، صوت من الشعب الأمريكي، يوجِّه صفعة قوية لجورج بوش، يكشف عن أكذوبته الأخرى، يفضح الانتصارات المزيفة التي يتفاخر بها في العراق.
اسمه «كيفين بندارمان»، وهو رجلٌ أمريكي خدعته الأناشيد الوطنية في الإذاعات وخطب الرؤساء، انضم إلى صفوف الجيش، حارب في العراق ثُمَّ عاد إلى أمريكا وأعلن أنه لن يعود إلى الجيش، ولن يعود إلى الحرب بعد ما شهده في العراق، عمره أربعون عامًا، يقف الآن في المحكمة العسكرية متَّهَمًا بالخيانة الوطنية، ويسألونه: لماذا لا تعود إلى مكانك في الجيش في العراق؟ فيرد عليهم دون أن يطرِف له جَفن: لن أعود، ولو حكمتم عليَّ بالموت أو السجن المؤبد. ويسألونه: ماذا حدث لك؟ ويقول لهم: ما رأيته في العراق من وحشية وظلم أيقظ ضميري، لا أحد يمنعني من العودة إلى الجيش إلا ضميري.
الحرب أكبر قرار خاطئ، أكبر خطأ نقترفه، وقد أصبح ضميري والتزامي الأخلاقي للإنسانية يمنعاني من أن أكون جزءًا من هذا الخطأ الكبير أو جزءًا من هذه الجريمة البشعة!
لقد عاش «كيفن بندارمان» ستة شهور في العراق، خلال العام ٢٠٠٣، شهد من المذابح البشرية ما اهتز له ضميره الإنساني، شهد أطفالًا يُحرقون ويُذبَحون، رأى طفلة عراقية صغيرة واقفة في الشارع وهو يمر بسرعة داخل سيارة الجيش، كانت واقفة بجسدها المحترق المسود بنار الحريق، واقفة تستنجد دون أن ينقذها أحد، حتى هو كان داخل سيارة الجيش التي مرقت بسرعة البرق، ورأى أطفالًا ينبشون في القمامة ويأكلون الكلاب المحروقة، ورأى كلابًا مشرَّدة في الشوارع تلتهم لحم أطفال حُرِقوا أو ذُبِحوا، ورأى الجنود الأمريكيين ينظرون إلى الحرب كأنها لعبة على شريط فيديو، يصطادون العراقيين بالرصاص كأنهم قطعان من الماشية، ويعتبرون الاحتلال العسكري لهم أمرًا عاديًّا.
وقال كيفين بندارمان للمحكمة: توسَّلت إلى سائق السيارة الحربية أن يقف لنسعف الطفلة العراقية المحروقة الواقفة في الشارع، إلا أنه رفض وقال إن الأدوية معنا لا تكفي إلا الجرحى من جنودنا.
ولكني نظرت في عيني الطفلة المحروقة، وفي عينها رأيت الحقيقة التي جهلتها، أن الحرب جريمة بشعة، وأنني لن أشارك فيها!
كيفين بندارمان ليس الوحيد الذي كتب مثل هذه الكلمات، ليس الوحيد بين الجنود الأمريكيين الذي استيقظ ضميره ورفض الحرب والقتل، هناك آخرون مثله، فلم يكشف أحد عن عددهم في حرب العراق الأخيرة، لكن تم الكشف عن أعدادهم في حرب فيتنام التي مضى عليها أكثر من أربعين عامًا، في تقرير أخير بلغ عددهم ١٨٩٠٠٠ جندي أمريكي استيقظ ضميرهم في فيتنام ورفضوا الحرب.
حسب ما خرج من البنتاجون من تقارير عن حرب أفغانستان والعراق، فإن أعداد الجنود الأمريكيين الذين يرفضون الحرب تتزايد على الدوام، بسبب يقظة ضميرهم، زاد عددهم من ٢٣ جنديًّا عام ٢٠٠٢ إلى ٦٠ جنديًّا عام ٢٠٠٣، إلى ٦٧ جنديًّا عام ٢٠٠٤ حسب تقارير البنتاجون (وهي دائمًا أقل من الحقيقة خاصةً وقت الحرب).
وأعلن كيفين بندارمان أنه لم يستمع إلى الأوامر العسكرية خلال وجوده بالعراق، هذه الأوامر كانت تحرِّم على الجنود الأمريكيين التحدُّث إلى أي عراقي، الحديث مع العراقيين ممنوع منعًا باتًّا، التعامل الوحيد معهم هو القتل.
لكن كيفين بندارمان أصبح يتحدَّث إلى العراقيين، ويدرك أنهم بشر مثله، وأن عقيدتهم الإسلامية لا تختلف عن عقيدته المسيحية، وأن لهم قِيمًا أخلاقية وإنسانية تشبه قيمه وأخلاقه.
وقال كيفين بندارمان: اكتشفتُ كم كذبوا علينا في التدريب العسكري، وصوَّروا لنا العراقيين كأنهم بلا أخلاق ولا قيم، وإسلامهم يدعو إلى القتل. وقال: الحرب جريمة ضد القاتل والمقتول معًا؛ لأنها تسلُب القاتل من إنسانيته، وتسلب المقتول من حياته، الإنسانية هي الحياة لمن ضمير له؛ ولهذا لن أعود إلى الحرب، ولن أسمح لأية قوة أن تسلبني إنسانيتي.
زوجته اسمها «مونيكا»، تقف بجواره تؤيد آراءه، ليست مثل الأم «جانيت» التي قُتل ابنها الشاب في حرب العراق، فكتبت إلى جورج بوش رسالة تؤيده في حرب العراق، ويكرِّمها جورج بوش بأن يذكر اسمها وينشر صورتها في الصحف مع صورة امرأة عراقية تؤيد حرب العراق، تتعانق المرأتان أمام الأضواء، تنسى الأم مقتل ابنها، وتنسى المرأة العراقية المذابح في بلدها، من أجل ماذا؟ ربما هو الضمير الذي لم يستيقظ بعدُ، الضمير الذي يرقد في الظلمة مع الجهل وغسيل المخ بالإعلام الزائف.
وقفت زوجته «مونيكا» إلى جواره، وهدَّده رؤساؤه في الجيش، وسخر منه زملاؤه المقاتلون، قالوا عنه هارب من الواجب الوطني، جبان، وصفات أخرى رديئة، إلا أنه لم يأبه بهم ولا بالسجن وبالموت، قال: إن موت الضمير هو الموت الحقيقي.
ساندته زوجته «مونيكا» بأن كتبت مقالات من خلال الإنترنت عن بشاعة الحرب، واللاأخلاقية، والكذب، وكيف يُساق الشباب الفقير إلى الحرب بمبادئ مزيفة عن الوطنية أو الديمقراطية أو السلام، أو بإغراءات مادية كي يخرجوا من أزمتهم الاقتصادية.
ساعدت الزوجة مونيكا على إيقاظ ضمير الكثيرين من الشعب الأمريكي، وبدأت بعض المؤسسات الاجتماعية تساند قضية كيفين بندارمان، وعدد من المحاربين القدامى في فيتنام هبُّوا لتأييد «كيفين وزوجته» في حملتهما ضد الحرب، بل تلقَّى الزوجان رسائل تأييد (من خلال الإنترنت) من جميع أنحاء العالم، ومن العراق أيضًا، وانتشرت مقالات زوجته مونيكا في العالم تحت اسم: «زوجة عسكري تتكلَّم».
كان حُلم حياته أن يكون لاعب كرة، لكنه دخل الجيش بوهم أنه يخدم الوطن، لكن هذا الوهم زال عنه بعد أن عرف حقيقة الحرب.
في الحرب العالمية الثانية تم إعفاء ٢٥٠٠٠ جندي أمريكي من الذهاب إلى جبهة القتال تحت اسم: «الضمير يمنعهم»، وقد دخل في القانون الأمريكي هذا المبدأ منذ عام ١٦٧٣؛ إذ تم الاعتراف بأن بعض الجنود لا يستطيعون «القتل» بسبب «الضمير الذي يمنعهم»، وتحت هذا البند تم إعفاء ١٢٠٠ جندي أمريكي من القتال عام ١٧٠١، وخلال الحرب الأهلية، وخلال الحرب العالمية الأولى والثانية تم إعفاء الآلاف؛ لأن «الضمير يمنعهم»، وعُهد إليهم بأعمال أخرى لا تتعلق بالقتل، مثل تضميد جروح المقاتلين، وهو عمل كان قاصرًا على النساء الممرضات ولا يُنظَر إليه باحترام مثل أعمال القتل القاصرة على الرجال الذكور الشجعان!
وتم إحالة كيفين بندارمان إلى طبيب نفسي، لاكتشاف لماذا هو يهرب من القتال؛ هل فقد رجولته؟ هل تحوَّل إلى امرأة؟!
إلا أن النساء الأمريكيات أصبحت مجندات مثل الرجال في الحروب، ويقاتلن مثل الرجال في أفغانستان وفي العراق، أصبحت لهن رجولة … إلا أنهن فقدن الضمير الذي يمنعهن من القتل!
ازدحمت عيادات أطباء النفس في الولايات المتحدة في العام الأخير بحوالي ٣٢٠٠٠ جندي يطلبون المشورة النفسية؛ لأن ضميرهم أصبح يمنعهم من القتل.
ولا يزال كيفين بندارمان ينتظر هو وزوجته مونيكا قرار المحاكمة، بعدما أثبت الطب النفسي أنه سليم نفسيًّا وكامل الرجولة، لكن ضميره استيقظ!