اعترافات رجل اقتصادي قاتل١
قليل من الناس يدركون الترابط بين الأشياء، التي تبدو غير مترابطة، قليل مَن يدركون أن القتل في الحرب العسكرية ليس هو القتل الوحيد، بل إن القتل الجسدي لا يحدث إلا بعد أن يفشل القتل الآخر بسلاح لا تراه بالعين، ولا يظهر فيه الدم.
وضعت يدي على كتاب جديد ظهر منذ فترة قصيرة هذا العام، مؤلِّفه رجل أمريكي اسمه «جون بيركينز»، كان يحمل لقبًا سريًّا هو «رجل اقتصادي قاتل»، كيف تم تجنيده بالأجهزة الأمريكية السرية؛ ليصبح خبيرًا اقتصاديًّا مرموقًا، يلتحق وظيفيًّا بإحدى الشركات العملاقة عابرة القارات، تحت اسم المستشار الاقتصادي العالمي، يحصل على راتب خيالي، يرتدي بدلة أكثر أناقة من رئيس أي دولة في أفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية، يحمل حقيبة سيمسونايت آخر طراز، لها جِراب سرِّي، ورقم مفتاح لا يفتحه الجان، ولا تكشفه أجهزة الكشف عن أسلحة الإرهابيين في المطارات، يسافر بالدرجة الأولى إلى جميع القارات، من نيويورك وواشنطن إلى كل البلاد، إلى إندونيسيا، وبنما، وإكوادور، وكولومبيا، وإيران، والعراق، وأفغانستان، والكونجو، والسودان، وبلادنا العربية.
على وجهه ابتسامة ملائكية، يؤدي مهمة إنسانية لفقراء العالم، تحت اسم المعونة والتعاون والتقارب والصداقة والشراكة، هذه المهمة الظاهرية مطبوعة على الكارت الأنيق الذي يحمل اسمه ولقبه العالمي المرموق.
تنفيذ السياسة التي تزيد من مكاسب الجبهة الموحدة، وهي: الحكومة الأمريكية، الشركات عابرة القارات، البنك الدولي وغيره من البنوك والمؤسسات الأمريكية والمتعددة الجنسيات.
أعترف أنني كنت واحدًا من هؤلاء الرجال الاقتصاديين القتلة، الذين جلبوا الفقر والمجاعات والخراب والفساد في بلاد كثيرة من العالم، وجلبوا أيضًا بلايين الدولارات لأكبر الشركات الأمريكية، ولحفنة من أثرى أثرياء العالم، وأعوانهم من ملوك ورؤساء في بلاد العالم الثالث.
وكانت مهمته بسيطة، أن يُقنِع أصحاب النفوذ في البلاد الفقيرة أنه قادم لإنقاذ الشعب من الفقر والبطالة، يقدِّم لهم بعض الهدايا الثمينة، وما يندرج تحت بند «المعونة الأمريكية»، أو بند «مشروعات البنك الدولي، أو قروض صندوق النقد، أو اتفاقات التجارة الحرة، أو السوق الحرة، أو الشراكة والتعاون بين البلدين الصديقين».
وكانت أدواته بسيطة أيضًا، تقارير اقتصادية مزيفة، دراسات جدوى لا جدوى منها، كلمات رنانة عن الديمقراطية والانتخابات الحرة وحقوق الإنسان وتحرير الفقراء والنساء، وفي الخفاء له أدوات أخرى يستحضرها حين تفشل الأدوات العلنية، أدوات تتعلق بالرشاوى والأجور السرية والعلاقات الجنسية، وجرائم القتل التي تبدو بالصدفة أو بأمر الله، مثل سقوط طائرة أو حادث سيارة.
دخلت هذه المهنة «القذرة» بسبب ميلي إلى السلطة والمال والنساء، كنت شابًّا تتملكني الشهوة للنجاح في هذه المجالات الثلاثة، مثل كثيرين غيري من الشباب، ثُمَّ شهدت من المآسي والجرائم التي انزعج لها ضميري، لم أعد أستطيع الاستمرار في هذا العمل القاتل لإنسانيتي، وقررت إنقاذ نفسي منه.
«ضمير رجل اقتصادي قاتل»، وكتب الإهداء إلى رئيس إكوادور (جيم رولدوس) ورئيس بنما (عمر توريجوس)، الاثنان تم اغتيالهما عن طريق حادث وقع بالصدفة! (سقوط طائرة من الجو إلى الأرض، بأمر الله، القضاء والقدر!)
ويقول جون بيركينز: هذان الرئيسان رفضا الخضوع للترهيب أو الترغيب في الشراكة والصداقة بين بلديهما وبيننا، نحن الذين نمد لهم يد المساعدة والمعونة والإنسانية! حين نفشل كرجال اقتصاديين مع مثل هؤلاء القيادات المخلصة لشعوبها فإننا ننسحب بهدوء، ليتولَّى الأمر رجالنا الآخرون في الجهاز السرِّي، مهمتهم القتل أو الإبادة الجسدية بعد فشل القتل الاقتصادي.
ويشرح المؤلِّف كيف عجز عن نشر كتابه منذ عام ١٩٨٢ حتى هذا العام، حين تجرَّأت إحدى دُور النشر في كاليفورنيا على طبع الكتاب، ويعترف المؤلف أنه كان يتحمَّس لنشر كتابه بعد أحداث خطيرة، أو جرائم يضج لها ضميره، مثل الاحتلال العسكري الأمريكي لبنما عام ١٩٨٩، ثُمَّ حرب الخليج عام ١٩٩١، ثُمَّ حرب الصومال، ثُمَّ صعود ظاهرة أسامة بن لادن والحرب في أفغانستان، إلا أنه كان يمتنع عن نشر كتابه بسبب التهديدات إن تكلم، أو الرشاوى كي يصمت.
وفي عام ٢٠٠٣ أرسل كتابه بعنوان: «اعترافات رجل اقتصادي قاتل» إلى دار النشر الكبيرة (لم يذكر اسمها)، التي تحمَّست لنشر الكتاب، ولكن بشرط أن يتحوَّل إلى «رواية»، وقال له رئيس التحرير في دار النشر:
«هذه الرواية ستحقق أرباحًا خيالية على مستوى العالم، وسوف نجعلك روائيًّا عالميًّا عظيمًا أكبر من جون لوكاري أو جراهام جرين!»
ورفض جون بيركينز هذا العرض، وقال: «هذه حقائق حدثت وليست أحداثًا روائية خيالية.»
وأخيرًا عثر المؤلف على دار النشر في كاليفورنيا التي نشرت كتابه كما هو دون تغيير.
صدر الكتاب هذا العام دون «ضجة إعلامية»، تجاهلته جميع أجهزة الإعلام والصحف الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا بعض النشرات التي تصدر عن المعارضة، أو أجهزة الإعلام المحدودة الانتشار نسبيًّا، والتي يُطلَق عليها اسم «الإعلام البديل» أو أجهزة الإعلام البديلة، والتي تنقل آراء ما يُطلَق عليهم «المتمردون» على السياسة الرسمية لإدارة جورج بوش.
خلال وجودي في كاليفورنيا كنت أتابع الاستماع إلى الراديو الذي يحمل اسم «ك، ب، ف، ك»، وهو ضمن الإعلام البديل، يتحدَّث من خلاله المفكرون من النساء والرجال المعارضين للسياسة الأمريكية العدوانية الموجَّهة ضد شعوب العالم، بل ضد الشعب الأمريكي ذاته.
سمعت عن كتاب جون بيركينز في هذا الراديو، وحصلت على نسخة منه، وهو من القطع الكبير، مائتان وخمسون صفحة، قرأته كله في ليلة واحدة، توقَّفت بالطبع عند الفقرات التي تتعلق ببلادنا العربية، وتأكدت مما كنت أعرفه، كيف سقطت معظم الحكومات العربية تحت أيدي الرجال الاقتصاديين القاتلين، وكيف تم إبادة أو إسقاط مَن تمرَّد منهم (صفحة ٨٢ في الكتاب)، وكيف حاولت البلاد العربية التصدي (عام ١٩٧٣) لبطش الولايات المتحدة الأمريكية المسانِدة لبطش إسرائيل، وكيف تم الاتفاق على استخدام «سلاح البترول» كمحاولة لعقاب الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وكان يمكن لهذا السلاح أن ينجح لولا ما فعله رجال الاقتصاد القاتلون (وكان منهم مؤلف الكتاب)، كيف تحوَّل سلاح البترول من سلاح في يد العرب إلى سلاح ضد العرب، كيف سعت الخطة الأمريكية الاقتصادية لاستنزاف أموال البترول العربية، كيف أصبح النفط يُدر الأرباح على الشركات الأمريكية وأعوانها، ويزيد من فقر الشعوب العربية وقهرها.
كانت مهمة المؤلف (في ذلك الوقت منذ ثلاثين عامًا) أن يُقدِّم لنا مشروعات اقتصادية وتنموية مزيفة، بدلًا من أن نبني اقتصادنا العربي المستقل بأموالنا، ببترولنا، أصبحنا تابعين للاقتصاد الأمريكي، وحصل المؤلف في ذلك العام على علاوة ضخمة وترقية، وسقطت بلادنا العربية في وحل الاستعمار الأمريكي الإسرائيلي، والذي أدى إلى ما نراه اليوم من إبادة الشعب الفلسطيني والعراقي تحت اسم الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي.