إذا منعت الحكومة ندوة ثقافية، فلا بد من سبب وجيه لذلك!١
(١) هل تكون في مصر انتخابات حرة؟!
توجَّهت إلى قريتي الراقدة في بطن جسر النيل، وسط الدلتا، وبعد أن انتهى الطريق الناعم المسفلت الممهَّد للحكام والحاكمات والموظفين والموظفات، دخلت إلى الطرق الزراعية، والأزقة المسدودة بالطين والروث وأكوام السباخ والقمامة.
ملأتْ أنفي وفمي وحلقي الأتربة وروائح العفن والتعب والعَرَق المتراكم مع الحزن، والوجوه الضامرة الشاحبة المحروقة بالغضب ولهيب الشمس، وجوه شباب وبنات وأطفال يشبهون العجائز، وملامح النساء تختلط بملامح الرجال، كأنما قسوة الحياة تلغي الفروق المفروضة على البشر بالقانون السياسي أو الديني أو الجنسي أو بالزمن.
تلتقط عيناي التشابه بين ملامحهم وملامحي، تقاطيع عظام الوجه الحادة كأنما منحوتة في الصخر، وهذا الأنف القوي الشامخ يشبه أنف جدتي الفلاحة، التي مشت المزارع والأرض دون حذاء، وقادت أهلها وقريتها للتمرد على العمدة والمَلِك والإنجليز دون أن تدخل مدرسة أو حزبًا أو جمعية حكومية أو غير حكومية.
وهاتان العينان السوداوان المشتعلتان بنار سوداء، بلون الليل، أو نجوم الليل، هما عينا أبي الذي قهر الثالوث المزمن (الفقر والجهل والمرض)، وتخرَّج رغم الزمن في الأزهر ودار العلوم، ثُم مات في المنفى داخل الوطن يَلْعَن الحكومة ووزارة المعارف.
وهذا الفم المزموم الشفتين في عزم وحزم هو فم عمتي التي لم يقهرها إلا وباء الكوليرا، وماتت وهي في الثلاثين من العمر، أمَّا هذا الوجه النضر الساطع بالأمل فهو وجه أمي التي ماتت هي الأخرى في ريعان شبابها ويدها تمسك يدي.
كان موعدي مع أهل قريتي يوم الخميس ٣١ مارس ٢٠٠٥، الساعة الحادية عشرة صباحًا، قرروا أن نعقد الاجتماع في مكتبة القرية، هذا المبنى الأبيض أو الذي كان أبيض العام الماضي، حين احتفلت الحكومة بافتتاحه، تحتفل الحكومة بإنشاء مبانٍ وجدران مدهونة بطلاء أبيض أو وردي، وهي فارغة من الداخل.
هذه المكتبة كافحتُ مع شباب القرية من أجل إنشائها عدة أعوام، كان يراودني حُلم منذ الطفولة؛ أن تكون في قريتي مكتبة بها كتب وروايات وقصص وحكايات من التاريخ ومن الحقيقة وحياة الناس.
كنت أفتح عيني في الصباح وبي شوق للقراءة، مثل كل الأطفال في القرية، البنات والأولاد، لم أكن أحصل إلا على قرطاس اللب الأسمر، بنصف مليم، أشتريه في العيد، أقزقز اللب ثُمَّ أفتح القرطاس وأقرؤه كله، كان ورقة من كتاب قديم أو صفحة من جريدة مُلقاة في الطريق.
كان حُلم حياتي أن يحصل أطفال قريتي البنات والأولاد على الكتب، وتحقق الحُلم بعد أكثر من نصف قرن، بعد كفاح مرير مع الحكومة لتنفيذ المشروع، وبعد محاولات عديدة لإيقافه، حتى تم إنشاء المبنى (ربما في غفلة من الحكومة)، بعد أن غرق أساس المبنى في مياه الصرف والمجاري عامين على الأقل.
بينما أنا واقفة أمام الباب المغلق بالسلسلة الحديدية تذكَّرت السجن، أصبحت الجدران البيضاء ملطَّخة بالطين، ومن حولها أكوام الروث والقمامة والبيوت الواطئة من الطين الأسود، يعلوها الحطب وأقراص الجلة والزلع المملوءة بالجبنة الحادقة والمش والدود.
ورأيت فتاتين بزي المدرسة تقتربان من المكتبة، كانتا تتحدثان معًا، التقطت أذناي صوت واحدة منهما تقول لزميلتها: يمكن في مكتبة الدكتورة نوال السعداوي نلاقي الكتاب. دُهشت حين سمعتهما يسميان المكتبة باسمي، قبل أن يرياني أمسكت إحداهما بالسلسلة الحديدية وقالت في دهشة: المكتبة مقفولة!
تعرَّفت إحداهما عليَّ وقالت: حضرتك الدكتورة نوال؟ قلت: أيوة. قالت: أتاري الكَفْر منوَّر! قلت: بوجودكم …
دار الحديث بيننا، وعرفت منهما أن أهل القرية والقرى المجاورة لها يُطلِقون على المكتبة اسم د. نوال السعداوي، رغم أن الحكومة منعت الأهالي من تركيب اليافطة على واجهة المكتبة التي تحمل اسمي، وقد سبق لأهالي القرية أن جمعوا التوقيعات من أجل تنفيذ القرار الذي اتخذه المجلس الشعبي لمحافظة القليوبية في بنها بتسمية المكتبة في قرية كفر طحلة باسم د. نوال السعداوي؛ نظرًا لما قدَّمته من خدمات بنَّاءة للقرية في شتى المجالات. صدر هذا القرار رقم ١ بتاريخ ٣ سبتمبر ٢٠٠٣ بعد أن تقدَّم الأهالي والمجلس الشعبي القروي في طحلة بطلب إلى المجلس الشعبي بالمحافظة، إلا أن السلطات الحكومية رفضت ذلك دون احترام للإرادة الشعبية رغم الأحاديث عن الشعب!
مع ذلك، ومع تعليق شريط كبير طويل من القماش الأبيض على الجدران يحمل اسم السيد المحافظ والسيدة الأولى، فإن أهالي القرية والقرى المجاورة يُطلِقون ما يشاءون من الأسماء على ما يشاءون من المنشآت، رغم ما يُكتَب فوق اليفط والحيطان.
ثُمَّ أقبلَ نحونا عددٌ من الرجال والنساء من البيوت المجاورة، قالوا إن رجال الأمن أغلقوا المكتبة بالسلسلة الحديدية منذ السابعة صباحًا، وإن مدير عام الثقافة في مدينة بنها أصدر أمرًا عاجلًا إلى جميع الموظفين والعمال بالمكتبة بالتوجه فورًا إلى الاجتماع به في مكتبه، وفعلًا تم تنفيذ الأمر وذهب الجميع بعد إغلاق المكتبة إلى مدينة بنها.
قررت العودة إلى قواعدي سالمة بالقاهرة، لكن أهل القرية أصرُّوا على عقد الاجتماع في بيت أحدهم، حضره حوالي ثلاثين رجلًا وامرأةً، من الثانية عشرة صباحًا حتى الثالثة بعد الظهر، تم الاتفاق فيه على الإعداد لندوة ثقافية تُعقَد في ساحة القرية يوم الجمعة ١٥ أبريل ٢٠٠٥ بعنوان: الإبداع وحرية الرأي.
مما أدهشني حماس أهل القرية لتحقيق هذه الندوة، والإعلان عنها في القرية والقرى المجاورة، إلى حد جمْعِ تبرعات من بعضهم للإنفاق على طبع الدعوات والملصقات.
قبل أن ينتهي الاجتماع وصل بعض العاملين في المكتبة من رحلتهم إلى مكتب السيد مدير عام الثقافة في بنها، وقالوا لنا ما أدهشنا جميعًا؛ لقد انتظروا السيد المدير العام في مكتبه من التاسعة صباحًا حتى الثانية والنصف بعد الظهر دون أن يظهر سيادته!
ثُمَّ عُدت إلى بيتي القاهرة. قبل أن أجلس لأتناول الطعام رنَّ جرس التليفون، وجاءني صوتُ صاحبِ البيت الذي عُقد به الاجتماع في القرية يقول:
بعد ما مشيتي يا دكتورة جُم بتوع الأمن وأخدوا أسماء كل اللي حضروا الاجتماع، وهددونا إن عملنا أي ندوة أو اجتماع مع الدكتورة نوال السعداوي، وطلبوا مننا إلغاء الندوة الثقافية يوم الجمعة ١٥ أبريل! والناس كلها في كفر طحلة مستعجبة، إيه اللي يخوف الحكومة بكل جلالها وجبروتها من ندوة ثقافية في قرية صغيرة زي كَفْر طحلة؟!
وقلت: طبعًا، لا بد أن هناك سببًا وجيهًا لذلك!
ولا نحتاج إلى ذكاء كبير لمعرفة هذا اللغز، فكيف تتشدق الحكومة ليل نهار بالحرية والديمقراطية والتعددية الحزبية، وإفساح المجال لأكثر من مرشح لمنافسة مبارك في رئاسة الجمهورية، ومن أجل أن تتم الانتخابات الرئاسية في جوٍّ من الحرية والعدالة والنزاهة؟!
فهل نسمع كلام الحكومة على الهواء وفي التسجيلات الصوتية والمرئية، أم نرى سلوك الحكومة على أرض الواقع والحقيقة؟!