لماذا الإبداع والتمرُّد والنساء؟١
تثير هذه الكلمات الثلاثة (الإبداع، التمرُّد، النساء) الغضبَ أو على الأقل القلق لدى الكثير من رجال العالم، وليس فقط الرجال العرب (وبعض النساء أيضًا).
ارتبطت هذه الكلمات الثلاثة منذ نشوء النظام العبودي بالشيطان، الذي أبدع العصيان والتمرُّد، وحرَّض المرأة على الإثم أو المعرفة.
هناك علاقة بين الإبداع والمعرفة (الآثمة) أو الوعي بما يدور في العالم من ظلم وتفرقة بين البشر.
كان الجهل فضيلة (ولا يزال)، ومن هنا الترابط بين التمرُّد والإبداع والوعي.
كانت المرأة هي المبدعة الأولى في التاريخ، المتمردة الأولى، سبقت رجلها في التمرُّد واكتساب المعرفة، لولا إبداعها وتمرُّدها ما كانت البشرية ولا الإنسانية، ولا كنَّا نحن النساء والرجال المجتمعين والمجتمعات اليوم في هذه القاعة في هذا المؤتمر.
لولا الإبداع والتمرُّد النسائي الأوَّل ما كُنَّا وما جئنا إلى الوجود، فلماذا تثير هذه الكلمات الثلاثة كل هذا السخط والغضب والقلق، والذي أصبح يتزايد من السبعينيات في القرن الماضي، مع تصاعد الحركات السياسية الدينية «الأصولية»، سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو هندوكية أو بوذية أو غيرها.
من الطبيعي أن يسعى النظام السياسي القائم على القوة وليس العدل أن يدعم نفسه بالقوة الغيبية، وأن يتخذ من «الدين» سلاحًا ضد العبيد من النساء والرجال، ومن الطبيعي أيضًا أن يتخذ المقهورون والمقهورات من «الدين» سلاحًا ضد الظالمين المتحكمين في الدولة أو في الأسرة، حسب مفهوم كلٍّ منهم لمعنى الدين.
وهذا هو الصراع الذي نعيشه حتى اليوم، وهو صراع قديم قِدَم العبودية، وهو صراع حديث يتطور مع تطوُّر الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.
(١) تدمير العقل
يتميز عصرنا الحديث أو ما بعد الحديث بتطوُّر وسائل الإعلام والاتصالات، يسمونه عصر المعلومات، أصبح فيه سلاح الإعلام أكثر خطورة من السلاح العسكري؛ لأن تدمير العقل أو الوعي الزائف أكثر خطورةً من تدمير المباني والمنشآت الخرسانية.
تدمير العقل يؤدي بالإنسان (المرأة أو الرجل) أن يضرب الصديق بدلًا من العدو، وأن يقف الشعب المضلل إعلاميًّا ضد مصالحه.
تدمير العقل يؤدي بالمرأة أن تؤمن بأفكار عبودية، أن تصبح أداةً في يد رجلٍ أو زوج يضربها ويهينها أو يستعبدها في العمل داخل البيت وخارجه، تحت اسم الدين أو الثقافة أو الهوية أو القومية أو الوطنية أو غيرها.
من الطبيعي أن يتمرَّد الإنسان (المرأة أو الرجل) ويثور ضد القوانين غير العادلة، لكن تدمير العقل يؤدي بكثير من النساء إلى قبول الظلم، كأنما هو قانون إلهي أو طبيعي يتفق مع الطبيعة الأنثوية، وبالتالي عدم الثورة أو التمرُّد، بل أحيانًا الاستمتاع بهذا الظلم أو بهذا الضرب، إلى حد الدفاع عنه، بل الموت في سبيله.
منذ أيام أو أسابيع قليلة هنا في القاهرة، أقدمت فتاتان في العشرين من العمر على الموت، ضحَّت الفتاتان بحياتهما من أجل أفكار دمَّرت عقليتهما تمامًا، منها أن وجه المرأة عورةٌ لا بد أن يُغطَّى بالنقاب، ومنها أن طاعة المرأة للرجل واجبةٌ دينيًّا، وإن دفعها إلى الانتحار.
حين تصبح المرأة ضد نفسها فماذا نفعل؟ هذه إحدى الصعوبات الهامة التي تواجه الحركة النسائية التحريرية في العالم كله، وفي بلادنا العربية على الأخص، ليس لأن الدين الإسلامي أكثر قهرًا للمرأة أو أقل ديمقراطية أو أكثر عجزًا عن التطوُّر من الأديان الأخرى كما يدعي بعض المفكرين الأوروبيين والأمريكيين؛ بل لأن بلادنا العربية وقعت تحت سيطرة الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي قرونًا طويلة، مما عطَّل النمو الطبيعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الذي يحدث في بلاد أخرى. تعاني بلادنا العربية اليوم من الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي في العراق وفلسطين، والحرب الاقتصادية الشرسة للعولمة الرأسمالية، التي حوَّلت الأغلبية الساحقة من النساء والرجال والشباب في بلادنا إلى هياكل بشرية تعيش تحت خط الفقر، ولا أمل لها إلا الهجرة بحثًا عن العمل أو لقمة العيش، أو الفرار من الأنظمة الدكتاتورية البوليسية.
(٢) الاتساع في مفهوم الإبداع
أصبح الإبداع يشمل جوانب الحياة جميعًا، بما فيها الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. تطوَّرت الحركات النسائية في العالم وفي بلادنا لتواكب التغيرات الجديدة، لتتجاوز الحدود والقيود التي لازمتها في الماضي. لم تَعُد الحركات النسائية قاصرة على النساء، بل شملت الرجال الذين يحاربون النظام الطبقي الأبوي ذاته، والحركات السياسية الأخرى المناهضة للحرب والعولمة، ولعبت النساء دورًا في الإبداع الفكري والفلسفي في كافة المجالات بما فيها المجال الديني، لم يَعُد تفسير الآيات الدينية قاصرًا على الرجال، دخلت النساء هذا المجال، وأحدثت إبداعًا فكريًّا جديدًا في تفسير التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها من الكتب الدينية، يعتمدن على جوهر الدين أو روح النص، وإرجاع النص إلى زمانه ومكانه، وتحليل أسباب نزوله، وإعلاء المصلحة المتغيرة على النصوص الثابتة.
تجاوزت المرأة مجال الفكر النظري إلى المجال العملي والفعلي، واحتلت مناصب في الكنيسة كانت قاصرة على الرجال، وربما نسمع قريبًا عن امرأة تحتل منصب البابا في الفاتيكان. كما مارست المرأة المسلمة دور الإمامة، وربما نسمع قريبًا عن امرأة تحتل منصب شيخ الأزهر الذي لا بد أن يكون بالانتخاب وليس بالتعيين.
كما نزلت المرأة إلى ميدان السياسة، ورشَّحت نفسها لرئاسة الدولة مما أثار جدلًا حول قدرات المرأة في المحاولات التي كانت حكرًا على الرجال، حدث ذلك في إيران والجزائر ومصر وغيرها من البلاد العربية والإسلامية.
إلا أن الأمر ليس امرأة أو رجلًا، ولا يكفي أن يكون الإنسان امرأة ليكون حاكمًا عادلًا، وعندنا أمثلة من النساء مثل مارجريت تاتشر أو كونداليزا رايس وغيرهما مما يحملن جسد المرأة، لكنَّ عقولهن لا تختلف كثيرًا عن عقل جورج بوش أو دونالد رامسفيلد أو غيرهما.
من هنا أهمية الإبداع، الذي ينجح في رفع الحجاب عن عقول الرجال والنساء، التي دمَّرها الفكر الطبقي الأبوي، في مجال السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الدين أو غيرها.
ينجح الإبداع في تدمير النظام القائم أو الفكر القديم أو المُسلَّمات القديمة، ويخلق نظامًا جديدًا أكثر تطوُّرًا، أكثر عدالةً وحريةً وإنسانيةً.
لكن هناك دائمًا فترة بين النظامين القديم والجديد، فترة انتقالية ضرورية تتسم باللانظام أو التمرُّد أو الفوضى، وهي فترة قصيرة مؤقتة، إلا أنها تثير المخاوف والقلق والشكوك لدى أغلب الناس، من غير المبدعين أو المبدعات.
لا تزال كلمة التمرُّد أو الفوضى سلبية، تقترن بالجنون في أحيانٍ كثيرة بمثل ما اقترن الإبداع بالجنون، خاصةً في حالة النساء؛ لقد اتُّهِمْتُ بالجنون منذ أمسكتُ القلم وكتبتُ ضد الظلم الواقع على المرأة. وفي البرلمان المصري منذ أيام وصفني أحدُ رجال الحكومة بالجنون لمجرد الترشُّح لانتخابات الرئاسة، ولم يصف أحدًا من الرجال المرشَّحين الآخرين بهذه الصفة.
أصبحت نظرية الفوضى جزءًا من عِلم الكون الجديد، وبدأ العقل الإنساني يدرك أن اللانظام جزء من النظام، بمثل أن الليل جزء من النهار، والموت جزء من دورة الحياة، والجنون جزء من العقل والإبداع.
(٣) إثارة الجدل والأسئلة الجديدة
مع كل إبداع جديد يحدث الصراع بين القديم والجديد، بين الاستعباد والتحرُّر، بين الاستغلال والعدل، بين المنطق واللامنطق، ينتصر الجديد ويسود العقل على اللاعقل، وتظهر أسئلة جديدة غير مألوفة.
إلا أن مراحل الصراع ضرورية، وهي إيجابية طالما الصراع يؤدي إلى الحوار والجدل وليس إلى القتل وإراقة الدماء.
وقد دار الجدل في مصر مؤخَّرًا حول السؤال: هل يجوز للمرأة أن تصبح رئيسة للدولة؟ وانقسمت القيادات الدينية كعادتها؛ إذ أعلن شيخ الأزهر (الدكتور: محمد سيد طنطاوي) أنه يجوز للمرأة في الإسلام أن تتولَّى رئاسة الجمهورية، أمَّا المفتي (الدكتور: علي جمعة) فأعلن أن الإسلام لا يسمح على الإطلاق للمرأة أن تتولَّى منصب رئيس الدولة، حين سألوه: لماذا؟ قال: بسبب طبيعتها الفسيولوجية، وما تعانيه فترة الحيض!
ربما لم يذهب الأستاذ المفتي إلى قريتي، أو أي قرية أخرى في مصر، ليعرف أن الحيض لا يعطِّل النساء الفلاحات عن العمل في الحقل من الشروق إلى الغروب، بل إن المرأة الفلاحة قد تلد طفلها في الحقل وهي تشتغل، تقطع الحبل السري بالفأس، تدفن المشيمة في الأرض، تضع مولودها في القفة فوق رأسها وتعود إلى بيتها سائرة على قدميها لتطبخ العشاء لأسرتها.
ودار سؤال آخَر: هل يجوز للمرأة أن تكون إمامًا للمصلين في المساجد؟ وانقسمت الآراء أيضًا؛ أغلب الرجال يعارضون وبعض النساء أيضًا، ومنهن الدكتورة «سعاد صالح» عميدة كلية الدراسات الإسلامية (جامعة الأزهر)، قالت: إن شروط الإمامة في الإسلام هي العقل والبلوغ والذكورة؛ لذلك لا يجوز للمرأة أن تكون إمامًا. لماذا؟ لأن بدن المرأة في الركوع والسجود أمام الرجال قد يؤدي إلى المفسدة.
هذا المنطق أيضًا يسري على فكرة تحجيب النساء درءًا للفتنة والمفسدة (مفسدة الرجال)، كأنما أخلاق الرجال هشة إلى حد المفسدة إن وقعت عينهم على وجه المرأة، أو حركة جسمها وهي تركع، والمشكلة هنا إذًا ليست المرأة، بل أخلاق الرجال الهشة، الذين يشغلهم الجنس والشهوة حتى وهم راكعون في الصلاة بين يدي الله.
المفروض إذًا إصلاح أخلاق الرجال وليس عزل النساء، أو إخفاءهن وراء الحُجُب، أو منعهن من العمل في أي مجال.
إلا أن النظام العبودي (أو الطبقي الأبوي) منذ نشوئه حتى اليوم، أنتج الفساد الأخلاقي أو الازدواجية في المقاييس؛ إذ يحق للرجل أن يمارس شهواته الجنسية جميعًا، ونزواته المتعددة خارج الزواج، دون أن يتحمل المسئولية قانونًا أو دينيًّا أو عُرفًا.
هنا نذكر ما حدث لشاب مصري يعمل بالفن (أحمد الفيشاوي)، الذي رفض أن ينسب طفلته إليه، رغم اعترافه بالعلاقة الجنسية بينه وبين أمها المهندسة (السيدة: هند الحناوي)، واحتمى الشاب بالقانون والشرع والعرف، رغم انتهاكه للمبدأ الأساسي للأخلاق أو الفضيلة.
وهناك الآلاف من النساء في بلادنا، وآلاف الأطفال الذين يروحون ضحايا هذا الفساد الأخلاقي للرجال، هذا الفصل بين السلطة الأبوية والمسئولية، هذه الثغرة الخطيرة في النظام العبودي السائد حتى اليوم، خاصةً داخل الأسرة الأبوية؛ حيث يتمتع اسم الأب وحده بالشرف والاحترام والكرامة، أمَّا اسم الأم فليس له شرف أو احترام أو كرامة.
وقد تخلصت كثير من البلاد في العالم من هذه المشكلة، وأصبح من حق الطفل أن يحمل اسم الأم ويحظى بالشرف ذاته مثل الأطفال الآخرين.
(٤) قانون الأسرة الأبوية
يظل قانون الأسرة الأبوية في بلادنا قانونًا عبوديًّا، يُطلِق سراح الجاني «الرجل» لأنه الأقوى، ويعاقب الضحايا «الأطفال والنساء» لأنهم الأضعف.
حارَبَت الحركات النسائية في بلادنا هذا القانون منذ نشوئه حتى اليوم، رغم التعديلات الطفيفة التي حدثت على مدى العقود الماضية لا يزال جوهر القانون عبوديًّا يتنافى مع مبدأ الأخلاق والعدالة، ويمكن لرجل عجوز في السبعين أو الثمانين أن يتزوج بامرأة أخرى ويشتريها بالمال من سوق الزواج (حسب الكاريكاتير المنشور في جريدة الأهرام، ٦ مايو ٢٠٠٥، الذي يصوِّر رجلَيْن عجوزَيْن جاءتهما علاوة ١٥٪ للمعاش، أول فكرة تطرأ لهما هي الزواج بامرأة أخرى).
في رحلة لي إلى الجزائر (خلال أبريل الماضي) أدركت أن الحركة النسائية الجزائرية قد نجحت مؤخَّرًا في تعديل خمسة عشر بندًا في قانون الأسرة، رغم اعتراضات التيارات الإسلامية الأصولية، ومن أهم هذه التعديلات أن الرجل الزوج فقدَ حقه المُطلَق في الطلاق وتعدُّد الزوجات، لم يَعُد من حقه أن يفعل ذلك دون الذهاب إلى المحكمة مثله مثل زوجته، كذلك لم يَعُد الرجل الزوج أو الأب هو رئيس الأسرة، بل إن أفراد الأسرة يختارون رئيسهم (الأب أو الأم) حسب الكفاءة والصلاحية وليس حسب نوع الجنس، هذا التعديل شديد الأهمية؛ لأنه يُرسي قواعد الديمقراطية داخل الخلية الاجتماعية الأولى وهي الأسرة؛ فالديمقراطية الحقيقية سلوك منذ الولادة وحتى الموت، وليست مجرد قرار يصدر من البرلمان أو الرئيس، الديمقراطية ليست مجرد الذهاب إلى صناديق الانتخاب واختيار أعضاء البرلمان أو الرئيس، بل هي القدرة على ممارسة حرية الاختيار منذ الطفولة.
عجزت الحركة النسائية في مصر عن تحقيق شيء من هذا الذي حققته الحركة النسائية الجزائرية؛ فقد خاضت المرأة الجزائرية الحرب ضد الاستعمار الفرنسي، وخرجت إلى الشوارع في مظاهرات ضد التيارات الدينية الإرهابية، وتعرَّضت للموت والحرق والذبح، إلا أنها واصلت النضال وواصلت الإبداع في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي بشجاعة كبيرة؛ فالإبداع لا يكون بغير شجاعة، كما أنها دفعت ثمن الإبداع من دمها وجسدها؛ لأنَّ الإبداع لا يكون بغير ثمن، وثمن باهظ في أحيانٍ كثيرة.
ويظل قانون الأسرة الأبوية في بلادنا العربية هو الوتد أو العمود الفقري الذي يرتكز عليه النظام الطبقي الذكوري، الذي يقهر النساء والفقراء على حد سواء، والذي يتجسَّد في الحكومات المستبدة محليًّا، وقوة الاستعمار الدولية.
(٥) إطلاق سراح الجاني
ومن هنا المقاومة الشديدة التي تحدث عند أي تغيير في هذا القانون، خاصةً من التيارات السياسية الدينية الأصولية؛ فالأديان تخدم السياسة في أحيان كثيرة، وتقوم السياسة منذ العبودية على أن السيد الأقوى على حق دائمًا وإن أخطأ.
وبمثل ما يُطلَق سراح الجاني في الأسرة الأبوية الصغيرة يُطلَق سراح الجاني في المسرح السياسي الدولي.
وهل تمت محاكمة جورج بوش أو إيريل شارون على جرائم الحرب في العراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها؟!
يستمد جورج بوش (مثل غيره من الحكام) قوته من التيارات المسيحية الأصولية أو اليهودية أو الإسلامية أو غيرها، ويقوم برنامجه السياسي على ما يسميه الحفاظ على تعاليم الكنيسة من أجل الحفاظ على قيم الأسرة وتقاليدها.
ومن هنا التشابه بين برنامج جورج بوش وأسامة بن لادن، وحكم الطالبان، وتنظيم القاعدة، وغيرها من القوى الدينية السياسية التي تصاعدت مع تصاعد قوى الرأسمالية والعولمة الجديدة.
كلاهما (جورج بوش وبن لادن) وجهان لعملة واحدة رغم اختلاف اللغة والدين والعِرْق.
(٦) نحو التضامن العالمي والهوية الإنسانية
ما يبعث على التفاؤل رغم الرِّدَة التي نعيشها في كافة المجالات هو هذا التضامن العالمي بين الشعوب، نساءً ورجالًا، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، بصرف النظر عن الاختلافات.
هذا الإبداع السياسي والفكري للنساء والرجال من كافة التخصصات والاتجاهات، هذا الإعلاء من شأن التضامن والعوامل التي تجمع شمل الشعوب نساءً ورجالًا وشبابًا بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو الطبقة أو القومية أو الجنسية أو غيرها.
لقد استفادت الحركة الشعبية العالمية ضد الحروب والعولمة من الحركات النسائية، ومن الفكر النسائي الذي كان له السبق في علاج الثنائيات الموروثة منذ العبودية، وتم إلغاء الفاصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة داخل الأسرة، وبين الإبداع الفلسفي في مجال الفكر والنظرية، والإبداع الجسدي في مجال الرقص والإيقاع والموسيقى والغناء والنحت والرسم.
ثُمَّ إلغاء الفصل بين العمل الفني والأدبي، وبين العمل السياسي والاجتماعي، وبين النضال المحلي والنضال العالمي، وبين الشكل والجوهر، وبين الذات والموضوع، وبين الروح والجسد، وبين الذات الفردية والذات الجماعية، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الأنا والآخر.
أصبح في مقدور الكتابة الإبداعية أو الموسيقى أو الرقص أن تفعل، لا أن تقول فحسب؛ تم إلغاء الفصل بين القول والعمل، بين النظرية والتطبيق.
وأصبح في مقدور الحركة السياسية النسائية أن تنفتح على الحركات الأخرى، أن تصبح التعددية هي الأساس وليس الأحادية والانغلاق على الذات، أن يكون التنظيم أفقيًّا عريضًا وليس رأسيًّا هرميًّا.
يتجسَّد هذا التضامن العالمي الجديد داخل هذه القاعة، في هذا المؤتمر الذي يجمع ما بين نضال الراقصة السويدية ونضال الفيلسوفة الهندية وأستاذ الجامعة العربي، والشاعرة من نيجيريا، والأديبة والطبيبة والباحثة والموسيقية والصحفية والرسامة والنحاتة والروائية، من مصر وهولنده والأردن وبلجيكا وسوريا والعراق وفلسطين ولبنان، والكاريبيان وباكستان وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وكينيا وجنوب أفريقيا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية والنرويج والصومال، وألمانيا والإمارات العربية والبحرين وإسبانيا وغيرها من بلاد العالم، الممثلة هنا اليوم؛ حيث يتلاقى الإبداع السياسي ضد الحرب والاستعمار مع النضال ضد اللغة الذكورية الطبقية والوعي الزائف.
حيث تذوب وتختفي الثنائيات الموروثة والفروق بين الأديان والجنسيات والألوان والأنواع، وبين النساء والرجال.
لا يفصل الإبداع النسائي في هذه القاعة بين التمرُّد السياسي العام وبين التمرُّد الشخصي داخل البيت، بين المقاومة ضد القهر الاقتصادي والقهر الجنسي، يؤكد الإبداع النسائي أو الانتماء للإنسانية وقيم الحرية والعدالة والحب والسلام، هو الانتماء الأفضل، وهو الهوية التي تجمع المبدعين والمبدعات من مختلف البلاد، والتي نحلم بها ونسعى لتحقيقها في المستقبل القريب أو البعيد.