إعادة قراءة التاريخ
يتناول البحث الكلمات الثلاثة: المرأة، الدين، الأخلاق، وهل هناك كلمات تثير الجدل والخلاف (الذي قد يصل أحيانًا إلى القتل أو التهديد بالقتل) أكثر من هذه الكلمات الثلاثة؟
في بلادنا العربية وفي بلاد العالم شرقًا وغربًا، تتسربل هذه الكلمات داخل رموز أو مفاهيم أو محظورات أو محرَّمات مختلفة الأنواع والأشكال، تعود في التاريخ البشري إلى أصل واحد، أو فلسفة توارثتها الأجيال البشرية المتعاقبة عبر الخلايا أو الجينات المادية والعقلية، تُسَمَّى في الطب حاملات الوراثة، وتشمل الذاكرة الجماعية التاريخية للمجتمع بمثل ما تشمل الصِّفَات الجسدية العضوية، والميول الثقافية والوجدانية للفرد الواحد.
هذه الفلسفة التي توارثناها منذ العصر العبودي حتى اليوم تغيَّرت قليلًا أو كثيرًا مع تغيُّر الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتغيَّرت معها المفاهيم والقيم والأديان والأخلاق والعلاقات الدولية والعلاقات الشخصية. إن سِمة الحياة هي التغيُّر، ولكلِّ عصر من العصور ثوابته حسب درجة الوعي والتطور، هذه الثوابت أو المسلمات أو المقدَّسات تتغير على الدوام مع تقدُّم العقل البشري، وانعتاقه البطيء من الفلسفة العبودية، ولماذا نقول البطيء؟ لأن الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تعاقبت بعد العصر العبودي كالنظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي القديم ثُمَّ الحديث أو ما بعد الحديث، لم يكن من صالحها التحرير الفكري للأغلبية الساحقة المسحوقة من النساء والرجال والأطفال والشباب؛ فهي تقوم على الفلسفة ذاتها التي قامت عليها العبودية.
وهناك مَن يحاولون تجاهُلَ الحضارات القديمة في بحوثهم العلمية من أجل إثبات أن الإله الذكر الواحد هو أصل الوجود وليس الإلهة الأنثى، الأم القديمة، أو الأمهات الإلهات، ويثبت التاريخ المصري القديم أن تعدُّد الإلهات الإناث والآلهة الذكور كان هو السائد، وأن الإلهات كانت لهن مكانة عالية تعلو أحيانًا على الآلهة الذكور، مثال ذلك إلهة العدل «معات» وإلهة الطب والصحة والموت «سخمت»، والإلهة «إيزيس» إلهة الحكمة والمعرفة.
وفي هذا المجال يمكن أن يجتهد الباحثون والباحثات، وهناك مَن يقول إن «إيزيس» (وليس أوزوريس) هي الأولى في التاريخ التي قامت فلسفتها على التوحيد مثل أمها «نوت» إلهة السماء، وجَدَّتها الكبرى «نون» التي كانت إلهة الكون الموحَّد دون انفصال السماء عن الأرض. لقد بدأت الديانات الانفصالية في التاريخ بانفصال السماء عن الأرض، وكانتا وحدة واحدة بقيادة واحدة هي الإلهة الأم الكبرى «نون»، وقد ساعدت هذه الوحدانية على ازدهار الكون ونمو الخير وتوزيعه على الناس بالعدل دون أسياد وعبيد، إلا أن نشوء العبودية أدى إلى ظهور فلسفة جديدة تقوم على الانقسام والتفرقة «فَرِّقْ تَسُد».
إن هذه الفترة من التاريخ القديم في حاجة إلى دراسات متعمقة بعيدة عن التنافس السياسي والحزبي الذي يقسِّم الناس إلى فِرَق تتنازع الحكم فوق الأرض وفي السماء أيضًا.
إنَّ ما نعرفه عن التَّاريخ القديم لا يزيد على آثار الحجارة أو حروفٍ مدوَّنة على جدران المعابد والبرديات، وأساطير وردت في بعض الكُتب الدِّينية باعتبارها قصصًا غير حقيقية أو حقيقية، وقصة الخلق في التوراة لا تذكر شيئًا عن أوزوريس أو إخناتون، مع أنَّ النبي موسى (الذي نُسِبَت إليه التَّوراة) قد قرأ فلسفة إخناتون ونفرتيتي وتأثَّرَ بهما ونقل عنهما، وهو أمر طبيعي؛ لأن كل نبي أو زعيم سياسي لا يبدأ من فراغ أو من الصفر، ولكنه يبني أفكاره على أفكار مَن سبقوه ويزيد عليها، أو يطوِّرها إلى الأفضل أو إلى الأسوأ حسب المرحلة التاريخية التي يمرُّ بها الشعب في ذلك الوقت.
ولعل أكبر تحوُّل من النظام الأموي إلى النظام الأبوي في التاريخ البشري هو أن الإله أوزوريس الذي أصبح أول الآلهة الذكور الموحدين، الذي ولد نفسه بنفسه ولم تلده أمه، وهي الإلهة نوت، وكانت إلهة السماء وزوجها «جب» إله الأرض، بعد انفصال السماء عن الأرض، وقد ولدت نوت أربعةً من الأولاد والبنات (إيزيس ونفتيس وست وأوزوريس).
إلا أن الصراعات بين الآلهة كانت دائرة حول امتلاك الحكم والأرض الزراعية، واستطاع الإله «رع» أن ينزع عن الإلهة الأم تاجها، وكان قرص الشمس ذاته، أو «أتوم» وهو الإله الكامل الواحد (الجعران/خِبْري) الذي اتَّحد مع ذاته وأنجب (دون حاجة إلى المرأة) زوجًا من الآلهة هما: «شو» إله النور أو الحرارة أو الجفاف، و«تفنوت» إلهة الظلام أو البرد والرطوبة، وهنا نتوقف قليلًا لندرك كيف تم الاستغناء عن دور المرأة الزوجة والأم في إنجاب الآلهة، كأنما الإله الذكر قادر وحده على الإنجاب، وكما حدث في التاريخ من الانتقال من الإلهة الأم إلى الإله الأب حدث في عبادة الحيوانات.
الحيوانات التي كانت ترمز إلى الألوهية، وكانت «البقرة» ترمز إلى الإلهة إيزيس أو حتحور، إلا أن الملك مينا (أو نارمر) أنشأ عبادة التمساح المذكَّر «سوبك» في الفيوم، وعبادة العجل «أبيس» المذكَّر أيضًا في منف، وكان الملك مينا أو نارمر حاكمًا باطشًا ظالمًا للفقراء والنساء، وكان يتمتع بلقب «قاطع الرءوس الجبار».
كان الصِّرَاع في التَّاريخ حول الحكم والأرض صراعًا دمويًّا تُقطع فيه الرءوس، وقد انهزمت الأغلبية الساحقة من الشعب المصري الفقير (رجالًا ونساءً) أمام هذا البطش الفرعوني، وقد تنكَّر فرعون في ملابس الإله الذكر.
واشتد الصراع بين الإله الملك إخناتون (إيمحتب الرابع) وبين الإله الملك آمون رع، وانهزم رع وجلس إخناتون على عرش مصر وقال: إن الإلهة الوحيدة المعبودة هي «الشمس»، وكانت محاولة لاستعادة وحدانية الإلهة الأم الكبرى، وكان إخناتون رقيقًا يحتوي على صفات الأمومة مع الرجولة، وكان جسمه أيضًا مثل عقله، يُظهِر بعض الصفات الأنثوية والذكورية في آنٍ واحد، وحين رأيت صورة إخناتون ونفرتيتي لأول مرة تصوَّرت أن إخناتون هو المرأة ونفرتيتي هي الرجل، وقد رأيت لإخناتون ثديَيْن ورِدفَيْن أكبر مما عند زوجته نفرتيتي، وهناك مَن يقول إن أناشيد إخناتون هي التي ألَّفتها نفرتيتي وهي التي كانت تحكم وليس زوجها، أو ربما كان إخناتون يحكم من خلال أمه الملكة «تي» ذات الشخصية القوية، إلا أن هذه الفترة لا تزال في حاجة إلى دراسات متعمقة حيادية غير خاضعة لفلسفة الذكورية السائدة في العالم اليوم …
وهناك تشابُه كبير بين أناشيد إخناتون ونفرتيتي ومزامير الملك داود في التوراة، وقد تحولت الفلسفة بعد ظهور التوراة إلى فلسفة طبقية أبوية، أساسها النَّسب الأبوي والسيطرة الذكورية في الدولة والعائلة، هكذا حدث الصراع ضد «عبادة الشمس» المؤنثة، وانهزم إخناتون ونفرتيتي هزيمة منكَرة على يد الآلهة الذكور في التوراة، الذين تصارعوا فيما بينهم حول الحكم والأرض، وما زالوا يتصارعون حتى اليوم، وبعد أن جعلهم الإله شعبه المختار ومنحهم الأرض الموعودة (أرض فلسطين) مقابل ختان الذكور، وكثيرًا ما نبذوا هذا الإله الواحد غير المرئي وعبدوا «العجل» وقت الهزائم.
ومن المعروف أنَّ المرأة المصريَّة القديمة كانت تحظى بمكانة عالية فوق الأرض وفي السماء، وكانت تُنسب إليها أطفالها، وكانت إلهة العدل مؤنثة في مصر القديمة واسمها «معات».
إلا أنَّ الصراعات الدموية قد أطاحت بفلسفة العدل أو الحق وحلت مكانها فلسفة «القوة» المسلحة، واستطاع الفراعنة والملوك والإقطاعيون أن يسلبوا الشعب المصري حقوقه تحت اسم الإله الحاكم أو فرعون الأكبر.
إنَّ إعادة قراءة التاريخ القديم تكشف لنا عن الكثير من الأسباب الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى قهر الفقراء والنساء من الشعب أخلاقيًّا ودينيًّا؛ هناك ترابط بين السياسة والاقتصاد والدين والأخلاق، ولا يمكن فصلُ أحدهما عن الآخر، لكن هذا الفصل يحدث في المدارس والجامعات بسبب ما يُسَمَّى ﺑ «التخصص».
تدل الدراسات التاريخية على أن البشر (نساءً ورجالًا) ثاروا ضد الظلم، قاوموا الأنظمة العبودية على مدى القرون، رغم كل ما كان يُفرَض عليهم من أغلال أو قوانين تحت اسم المقدَّس الديني أو المقدَّس السياسي.
إن إعادة قراءة التاريخ توضِّح كيف لعبت المرأة المصرية القديمة دورًا في الثورات الشعبية والنسائية ضد بطش الفراعنة والسلطة المطلقة للمحاكم في الدولة والعائلة، وقد حرق المصريون والمصريات القصر الملكي ذاته (عام ٢٤٢٠ قبل الميلاد)، ونادَوا بتكافؤ الفرص بين الأغنياء والفقراء وبين النساء والرجال، إلا أن المؤرخين الرجال المتحيزين للسلطة الحاكمة قد تجاهلوا جهود النساء في هذه الثورة التي عُرفت باسم ثورة «منف».
وقد أُجهضت هذه الثورة بعد فترة، وعاد الحُكم الفرعوني بسطوته مرة أخرى، ثم قامت الثورة الشعبية الثانية يقودها النساء والرجال (عام ١٢٦٠ قبل الميلاد)، وجاءت الأسرة العاشرة و«نظام الرودو» الذي أعاد للمرأة المصرية حقوقها المسلوبة، وتم القضاء على نظام التسري، وتساوت المرأة في الحقوق العامة والخاصة مع الرجال، إلا أن هذه الثورة فشلت وعاد نظام الإقطاع والبطش الفرعوني (عام ١٠٩٤ قبل الميلاد) ينزع من النساء والفلاحين حقوقَهم، وأصبح للرجال فقط حق الطلاق والنَّسب والكهنوتية. ثم ثار الشعب المصري نساءً ورجالًا مرة ثالثة (عام ٦٦٣ قبل الميلاد) واسترد الفقراء والنساء بعضَ حقوقهم المسلوبة.
لقد تم تجاهُل دور النساء في الحضارات القديمة بمثل ما تم تجاهُل دورهن في الحضارات الحديثة؛ لأن معظم الذين يكتبون التاريخ رجالٌ يتطلعون إلى السلطة ويحتقرون الشرائح الفقيرة والضعيفة في المجتمع ومنهم النساء.
إن كلمة فلسفة في أصلها اللغوي مؤنثة، ترمز إلى فيلسوفة امرأة اسمها «سوفيا»، ولأسباب سياسية واقتصادية متعددة، منها انهزام الحضارات القديمة في مصر والعراق وسوريا وفلسطين وغيرها من بلاد أفريقيا وآسيا، وانتصار النظام الطبقي في الحضارة الأوروبية الغربية، تم تجاهُل الفلسفة الإنسانية القديمة التي كانت تحترم الإنسان العقل والجسم والروح في كِيان واحد، والمرأة والرجل على قَدَم المساواة، في المقدَّس الديني والمقدَّس السياسي دون تفرقة، وبدأت الفلسفة العبودية القائمة على التفرقة هي التي تسود وتشكِّل القيم الدينية والأخلاقية المزدوجة التي نعيشها حتى اليوم.
- (أ)
الأشخاص: وهم الأسياد الرجال المُلَّاك الذين خُلقوا للأنشطة النبيلة والمعرفة الفكرية والفلسفية.
- (ب)
الأشياء: وهم العبيد والنساء والحيوانات الذين خُلقوا للأعمال الجسدية حسب طبيعتهم، وخُلقت المرأة بطبيعتها من أجل الولادة لحفظ النوع.
إن عملية إخضاع النساء والعبيد القائمة، وتدمير الحضارات القديمة التي قامت على احترام المرأة استنفدت عدة آلاف من السنين، بسبب مقاومة النساء والعبيد للسلطة الطبقية الأبوية الجديدة، بعد معارك متعددة انهزمت القيم الإنسانية على المساواة بين البشر، وانتصرت القيم التي تُفرِّق بين الناس على أساس الجنس والطبقة والعِرق والدين والعقيدة، لقد أصبح العالم منسوبًا إلى الإله الأب، واندثرت حضارة العالم الإنساني القديم واندثر معه اسم الأم.
لقد نبعت القيم الدينية والأخلاقية المزدوجة التي نعيشها حتى اليوم من هذا الاحتكار الأبوي للنسب والشرف والأخلاق والدين، ومعه أيضًا الاقتصاد والسياسة.
إن هذا الصراع الدائم في بلادنا حتى اليوم حول حقوق النساء وحقوق الإنسان ليس إلا استمرارًا للصراع القديم منذ نشوء العبودية أو النظام الطبقي الأبوي.
هل يمكن إذًا أن نكتب بحثًا يتناول المرأة والدين والأخلاق دون أن ندرك الأسباب الحقيقية التي أدت إلى طرد النساء من الفلسفة والدين والحكم والأخلاق، وفرض القوانين عليهن التي تضمن استغلالهن جسديًّا وعقليًّا تحت سيطرة الأب أو الزوج.
نشأت الأديان في عصورٍ قديمة يحكمها النظام العبودي، وانعكست الفلسفة والقيم العبودية على هذه الأديان بشكل واضح، لهذا السبب نجد بعض المفاهيم التي تشير إلى الرِّق في بعض الآيات الدينية، كما نجد أيضًا المفاهيم التي تشير إلى أن جنس الذكور أعلى درجة أو درجات من جنس الإناث.
في كتاب التوراة نرى بوضوح وضع حواء الأدنى بالنسبة لزوجها آدم، وفي الإنجيل أصبح الثالوث المقدَّس هو «الأب والابن والروح القدس»، ترمز الروح القدس إلى الإلهة الأم القديمة التي توارى اسمها كما توارى جسمها وراء الغِلالة أو الحجاب، كما فقدت أيضًا قدرتها الطبيعية على الولادة، لم تَعُد هي الأم الوالدة للبشرية، بل أصبحت المولودة من ضلع الرجل، أو أحد أضلاعه غير المستقيمة، أو «ضلع أعوج» كما هو راسخ في الوجدان البشري أو الثقافة الدينية السائدة.