الفكر الإرهابي، ما منبعه؟١
أصبحت كلمة الإرهاب هي الكلمة الأولى في القاموس اللغوي المقرَّر علينا كل يوم، بل كل دقيقة، يتبارى الكثيرون في بلادنا وخارجها للكتابة عن الإرهاب، آخر الأحداث كانت في مدينة شرم الشيخ في مصر خلال هذا الشهر، يوليو من عام ٢٠٠٥، سبق ذلك أحداثٌ أخرى في طابا والأزهر والمتحف المصري والسيدة عائشة والأقصر وغيرها.
تنتقل أخبار الحدث إلى جميع بلاد العالم بعد وقوعه بثوانٍ أو أثناء وقوعه، عبْر وسائل الاتصال ما بعد الحديثة، يسرع المفكرون والمحللون والصحفيون في الكتابة عنه، أو تسرع الإذاعات المرئية والمسموعة إلى أخذ آرائهم، يحاول كلٌّ منهم أن يُنكِر التهمة عن وطنه أو دينه أو ثقافته، ويشير إلى غيره.
كان الإعلام الإسرائيلي والأمريكي أسبق من غيره في إدانة أحداث شرم الشيخ، وأسرع مفكروهم إلى توجيه إصبع الاتهام إلى التيارات الإسلامية المتطرفة، أو إلى المذهب الوهابي أو غيره من المذاهب، كأنما هذا المذهب أو هذا التيار الديني هو وحده دون سائر المذاهب أو الأديان يحرص على قتل الآخرين (الكفار) الذين يؤمنون بأديانٍ أخرى، كأنما تنظيم القاعدة وحُكم الطالبان وبن لادن والزرقاوي، كلها ظواهر إسلامية دينية مذهبية ولا علاقة لها بالقوى الاستعمارية الرأسمالية دوليًّا، أو القوى الاستبدادية الحاكمة محليًّا، والتابعة لهذه القوى الرأسمالية الخارجية.
وينقل الكثيرون من المفكرين والصحفيين في بلادنا عن الآخرين الأمريكيين أو الأوروبيين أو الإسرائيليين، وقد أصبح مفكرٌ مثل صموئيل هانجتون أو برنارد لويس، كأنما هو يملك الحقيقة والفكر الصائب فيما يخص موضوع الإرهاب وعلاقته بالإسلام، ويروِّج لفكرة أن العنف (الجهاد والقتل في سبيل الله) هي فكرة إسلامية، وأن هناك تناقضًا جذريًّا بين الديمقراطية والإسلام.
يردد بعض المفكرين في بلادنا هذه الفكرة، وينسون أن قتال الآخرين (غير المؤمنين) ظاهرة تاريخية سابقة على ظهور الإسلام بجميع مذاهبه، الوهابية وغير الوهابية، وأن تاريخ المسيحية واليهودية يغرق في الدم وقتل الآخرين الذين لا يؤمنون بإله اليهود أو يسوع المسيح؛ لعل أقرب هذه الحروب الدموية إلينا هي حرب إبادة الشعب الفلسطيني من أجل الاستيلاء على الأرض الموعودة، التي منحها «يهوا» إلى شعبه المختار؛ لأنهم يؤمنون به «يهوا» وليس أي إله آخر.
بل إن جورج بوش (الأب والابن) قد أمسك الإنجيل وهو يعلن الحرب على الشعب العراقي، من أجل القضاء على «الشيطان» صدام حسين، ومن أجل نشر الحضارة الأمريكية المسيحية القائمة على السلام والحرية والديمقراطية … إلخ.
يؤكد التاريخ أن المسيحية لم تكن أقل دموية من غيرها في الحرب ضد أعدائها من الكفار أو الشياطين، بل إن جورج بوش (الابن) نفسه يستند في حكمه داخل الولايات المتحدة على التيارات المسيحية المتطرفة الإرهابية، التي حملت المسدس مع الإنجيل وقتلت الأطباء والنساء الحوامل في المراكز الطبية للإجهاض تحت اسم الحفاظ على الحياة المقدَّسة (حياة الجنين في بطن أمه) على حين تأييدها لسياسة القتل الجماعية التي يقوم بها جورج بوش ذيل شارون في العراق وفلسطين.
بل إن التيارات الإسلامية المتطرفة أو الإرهابية، ومنها تنظيم القاعدة وحكم الطالبان وبن لادن وغيرها، هي ظاهرة سياسية صنعتها الحكومات الاستعمارية الرأسمالية (الأمريكية الأوروبية الإسرائيلية) من أجل ضرب الشيطان حينئذٍ (الاتحاد السوفياتي أو الشيوعية)، وساعدتها في ذلك الحكومات في بلادنا على مدى الثلاثين عامًا الماضية، من أجل ضرب خصومها السياسيين وتمزيق وحدة الشعب، حدث ذلك في مصر منذ السبعينيات (في عصر السادات)، وحدث في الجزائر والأردن والسودان والباكستان وغيرها، وشهدنا المذابح والقتل تحت اسم الدين والأخلاق، راح الأبرياء من النساء والرجال كُبُوش فداء للنُّظم الحاكمة داخليًّا وخارجيًّا.
لعبت الحكومات في بلادنا الدورَ الذي تريده منها القوى الطبقية الأبوية التي تحكم العالم بقوة السلاح والمال والإعلام، اقترنت الحرب العسكرية بالحرب الاقتصادية بالحرب الإعلامية.
لا يتحدَّث إلا القليلون من النُّخَب في بلادنا عن هذا المنبع الرئيسي لثقافة القتل والضَّعف والإرهاب، وهي الثقافة الطبقية الأبوية، القائمة على تبرئة القاتل (لأنه الأقوى) وإدانة البريء (لأنه الأضعف) أو ما يُسَمَّى كبش الفداء.
أغلب النُّخبة في بلادنا تفصل القوى الخارجية عن الاستبداد الداخلي، تفصل بين حكومة الولايات المتحدة وحكومة إسرائيل والحكومات العربية، رغم أن هذه القوى جميعًا مترابطة متعاونة على نطاق واسع في العلن وفي السر، وقد لعبت معًا الدور الأساسي في إحياء التيارات الدينية والإرهابية، سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية أو هندوكية أو غيرها.
إنه إرهاب الدول والحكومات المتعاونة معًا، بأسلحتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية، وثقافتها الطبقية الأبوية، وهو أخطر أنواع الإرهاب؛ لأنه الأكثر قوةً وبطشًا، الأكثر قدرةً على القتل الجماعي والدمار الشامل، يملك جميع الأسلحة، ومنها السلاح النووي والكيماوي والبيولوجي والعلمي والفني والثقافي والإعلامي والديني والأخلاقي، وهو يملك أيضًا القانون الدولي والمحلي، والشرعية الدولية والشرعية الدينية، ويقترف جرائمه تحت أسماء حديثة براقة، منها الحماية أو الديمقراطية أو الحضارة أو التنمية أو حقوق الإنسان أو حقوق المرأة.
تقمَّص جورج بوش «الابن» دورًا نسائيًّا تحريريًّا، أصبح «الفيمينست» العظيم في العالم، حين أعلن أن هدفه من حرب العراق هو تحرير النساء العراقيات من الدكتاتور صدام حسين.
واليوم نسمع صرخات النساء العراقيات المناضلات ضد الاحتلال الأمريكي وضد التيارات الدينية الإرهابية، والفتن الطائفية والمذهبية التي نشأت وترعرعت في ظل الاحتلال الأمريكي.
تتساءل النُّخبة في بلادنا كيف نقاوم الإرهاب. بعضهم وجَّه الإدانة إلى الخارج فقط دون الداخل، بعضهم يدين الاستبداد الداخلي فقط دون إشارة إلى القوى الخارجية المساندة له، بعضهم يدين الإسلام وحده، أو تيارًا إسلاميًّا معينًا، دون التيارات الأخرى ودون الأديان الأخرى.
إذا أردنا القضاء على الإرهاب فلا بد من كشف أسبابه الحقيقية والقوى السياسية والدينية التي تشجِّعه فكريًّا وعمليًّا، في الداخل والخارج؛ أي إننا في حاجة إلى نظرة كلية للمشكلة وليس نظرة جريئة.
نحن في حاجة إلى نظرة موضوعية، شجاعة، قادرة على الإمساك بالمجرم الحقيقي وليس الضحية، قادرة على نقد الفكر الديني السائد، سواء كان إسلامًا أو مسيحيةً أو يهوديةً أو غيرها، قادرة على نقد الفكر الوطني المتعصب للذات وإن أخطأ وأجرم في حق الآخرين، وأن ننشد الهوية الإنسانية الأسمى التي تتجاوز حدود الجغرافيا والثقافة المحلية والأديان الموروثة.