النعامة التي تخفي رأسها في الرمال، وما ظهر كان أعظم!١
يوم ٧ سبتمبر ٢٠٠٥، تمشيتُ في شوارع القاهرة؛ لأشهد ما يحدث يوم الانتخابات الرئاسية، وأسأل مَن أقابلهم لماذا يقاطعون هذه الانتخابات أو لماذا لا يشاركون، وقد سمعت من ردود الناس فكاهاتٍ عدة؛ وهي طريقة الشعب المصري في التنفيس عن نفسه بالنكت والضحك.
ولم أندهش حين قرأت أن ٢٠٪ فقط من الناس شاركوا في الانتخابات، أغلبهم من العاملين والعاملات في الأجهزة الحكومية، وعدد من رجال ونساء الطبقات الأعلى الذين ينشدون مزيدًا من التغيير نحو القطاع الخاص والخصخصة واقتصاد السوق على الطريقة الأمريكية، وبالتالي مزيد من الأرباح لرجال ونساء الأعمال في بلادنا.
استوقفني رجل متوسط العمر، كان عاملًا في مصنع النسيج في سمنود الذي تم إغلاقه منذ أيام، وتشريد حوالي ألف عامل، منهم هذا الرجل الذي قابلته، سألته: انت رايح تنتخب مين؟
– رايح أنتخب الراجل اللي قفل المصنع بتاعنا.
– ازاي ده؟
– أعطانا وعد إنه حيفتح بدلًا منه ألف مصنع!
وضحك الرجل مقهقهًا، كاشفًا عن التناقض في برنامج الحزب الحاكم بهذه النكتة الساخرة.
•••
وفي شارع قصر النيل رأيت فتاة مصرية تمشي برشاقة كبيرة، رأسها ملفوف بالحجاب، حين اقتربت منها رأيت أنها ترتدي بنطلونًا ضيقًا يكشف عن الجزء الأعلى من بطنها (بما فيه علامة السرة) على غرار الموضة الشائعة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي انتقلت إلى بلادنا مع الملابس المستورَدة وأدوات الزينة والماكياج والفول المدمس من كاليفورنيا.
وسألت الفتاة: انتي رايحة تنتخبي مين؟
– رايحة أنتخب أيمن نور.
– ليه هو؟
– لأنه شاب وحلو وأمريكا راضية عنه.
– وانتي مبسوطة من أمريكا؟
– طبعًا! مش أحسن من روسيا والشيوعية والملحدين!
– وانتي طبعًا مُسلِمة مؤمنة ولابسة الحجاب.
– طبعًا، الحجاب ده أمر ربنا.
– وبطنك المكشوفة دي؟
– مالها؟ دي الموضة، وكل البنات كدة.
– يعني مافيش تعارض بين الحجاب والموضة؟
– مافيش تعارض! مافيش حاجة في القرآن ضد الموضة!
•••
والتقيت بامرأة أمريكية تعيش في القاهرة، تعمل بإحدى الشركات الأمريكية وتعيش مع امرأة أخرى مصرية، نشأت بينهما علاقة حب، وقد أصبحت العلاقات الجنسية المثلية بين النساء (أو الرجال) أمرًا عاديًّا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا وبلاد أخرى.
المهم أن هذه المرأة الأمريكية كانت ترتدي الحجاب حول رأسها، وحين سألتها هذا السؤال: ألا يوجد تعارض بين الحجاب والجنسية المثلية؟
– أبدًا مافيش تعارض!
– كيف؟
– ربنا أمرني أغطي شعري، لكن مافيش آية في القرآن ضد الجنسية المثلية.
– ازاي ده؟ وقوم لوط راحوا فين؟
– قوم لوط كانوا رجال وليس نساء!
•••
هذا المنطق الذي يبرِّر التناقض قد ينتج عن الجهل أو الكذب والخداع، وهو سمة العصر الأمريكي الجديد الذي نعيش فيه، عصر السوق والربح بأقصى سرعة، عصر المال ورجال ونساء الأعمال والمضاربات في البورصة وفي الانتخابات الرئاسية أو انتخابات البرلمان، عصر تسويق المرشَّح الذي ترضى عنه أمريكا كأنه سلعة تُباع وتُشترى في السوق عن طريق الإعلان أو الإعلام؛ أعني الإعلام الحكومي، الذي سوف يصبح عن طريق الخصخصة إعلامَ السوق والربح والمال، إعلامًا مصريًّا أمريكيًّا من آخر طراز، إعلامًا يخدم رجال ونساء الأعمال والمشاركين في بورصة الانتخابات والسياسة والأحزاب.
•••
هذا المنطق يقوم على عقد الصفقات السياسية التجارية، وكسب الأصوات في الانتخابات على حساب المبادئ والبرامج التي تقضي على الفقر والبطالة والفساد.
لهذا السبب لم يستطِع واحد من المرشحين للرئاسة أن يقدِّم برنامجًا مقنعًا يقضي على الفقر والبطالة والفساد، بل وعود كاذبة مضحكة مثل إنشاء ألف مصنع جديد، على حين يتم إغلاق المصانع (الرابحة والجيدة) الواحد وراء الآخر، وتقديم مساعدات مالية على غرار المعونة الأمريكية، التي تؤدي إلى مزيد من الفساد والفقر ولا تقضي عليهما، وتبرير الفساد بنظرات أمريكية عن أن الطبيعة البشرية فاسدة، أو أن الفساد موجود في كل البلاد وليس في مصر وحدها، وأن الفقراء كسالى وأغبياء ويكرهون العمل، ويستحقون الفقر، أمَّا الشخص الذكي النشيط المتحرك في السوق والسياسة فهو يصبح مليونيرًا بعد فترة قصيرة، ويصبح أيضًا رئيس حزب ومرشَّحًا للرئاسة وينال إعجاب الجميع، ومنهم كونداليزا رايس.
•••
وكم ضحكنا على ما أسفرت عنه الحرب الديمقراطية الجديدة في بلادنا، من تعديل للمادة «٧٦»، وتكوين لجنة أحزاب كان مهمتها منع تكوين الأحزاب فعلًا، أو السماح فقط لأحزاب هزيلة مضحكة أن تتكوَّن.
كم ضحكنا على رئيس الحزب (الهزيل) الذي رشَّح نفسه ضد حسني مبارك، وحين سألوه: لماذا ترشِّح نفسك؟
قال: لأنني سوف أنتخب مبارك!
نكتة مضحكة بسبب تناقضها الواضح.
وكم ضحكنا أيضًا على رئيس الحزب (الوليد) الذي منحه مجلس الدولة إجازة مؤقتة من المحاكمة في القضية الجنائية، من أجل أن ينافس حسني مبارك في الانتخابات!
هذا في الوقت الذي منع فيه القانون الجديد (المعدل للمادة ٧٦) أحزابًا وشخصياتٍ مستقلةً أكثر تمسُّكًا بمبادئ العدالة والحرية من تلك الأحزاب الهزيلة والشخصيات المضحكة التي سمحوا لها بالترشيح.
ثُمَّ ما هي تلك القوة الخارقة التي جعلت مجلس الدولة يخالف المنطق والقانون، فيعطي إجازة (انتخابية) لشخص مُقدَّم للمحاكمة في قضية جنائية؟ هل القضية مُلفَّقة؟ لماذا إذًا لا تُلغى تمامًا؟ وما معنى الإجازة المؤقتة؟ هل تعني أنها قضية جنائية أن يكون مرشَّحًا للرئاسة؟ وماذا كان يحدث لو أصبح رئيس الدولة؟!
ما هي القوة التي تجعل مجلس الدولة يُقْدِم على هذا التصرف الغريب الذي لم يكن ليحدث مع شخص عادي.
بعض الناس يقولون: قوة السيدة كونداليزا رايس، سبحان الله! هؤلاء أنفسهم المعجبون بقوة السيدة كونداليزا رايس يعارضون خروج المرأة المصرية دون أن تلفَّ رأسها بالحجاب، ويعارضون فكرة أن تصبح المرأة المصرية رئيسة دولة أو مرشحة للرئاسة، باعتبار أن المرأة ناقصة العقل والدين، أو لأنها تحيض، مما يحول بينها وبين مباشرة المهام الكبيرة المطلوبة منها.
أمَّا السيدة كونداليزا رايس فهي ليست امرأة، ولا تعرف شيئًا اسمه المرض الشهري.
•••
وكم ضحكنا على هذا المرشح الرئاسي الذي ذهب إلى الإخوان المسلمين، وأعلن عندهم أنه سوف يُطبِّق الشريعة الإسلامية بالحرف، ثُمَّ ذهب في اليوم التالي إلى الأقباط وأعلن عندهم أن الدين لله والوطن للجميع، ولا بد من فصل الدين عن الدولة والسياسة.
وقد صرَّحَ هذا المرشح بأنه عقد صفقات مع الجميع، كلمة صفقات هنا تعبِّر بالضبط عن أن الانتخابات مثل البورصة وسوق المال، مجرد صفقات هدفها الربح وكسب الأصوات بصرف النظر عن المبادئ.
ألهذا السبب لم يعترض (إلا القليل) على خروج نُعمان جمعة (رئيس حزب الوفد) على اتفاق سابق بمقاطعة الانتخابات مع حزبي التجمع والحزب الناصري؟
لقد تنازل عن المبادئ من أجل المصالح، وهل حصل حزب الوفد على شيء من الحزب الحاكم إلا الهزيمة المنكرة، والتخبط الذي يعانيه الحزب اليوم إلى حد إعلان رئيسه أنه دخل الانتخابات رغم أنفه، وأنها انتخابات زائفة؟
كان يمكن لحزب الوفد ورئيسه أن يحصلا على الاحترام لو أنهما تمسَّكا بالمبادئ، وحافظا على العهد المُبرَم بينهما وبين المقاطعين للانتخابات.
من هنا ندرك أن المبادئ أهم من المكاسب، وأن العدالة والحرية الحقيقية ليستا في الجري إلى السوق السياسية والتجارية والإعلامية، وليستا في التسليم والإذعان للقوى المسيطِرة محليًّا ودوليًّا.
بعض الناس يقولون: لقد فاز مرشح الحزب الحاكم وفاز مرشح الغد، وفازت هذه الانتخابات في إحداث حركة جديدة، وفاز منطق الولايات المتحدة الأمريكية وتناقضات كونداليزا رايس.
فهل هذا هو الفوز؟ هل هذا هو النصر أم الهزيمة؟ وهل هذه الحركة الجديدة هي حركة نحو مزيد من العدالة والحرية والصدق أم مزيد من القيود والكذب والتبعية والتسليم للقوى الأمريكية الإسرائيلية السائدة في المنطقة؟!
ألا نرى المذابح في فلسطين والعراق؟ ألا ندرك الخطة الأمريكية الإسرائيلية الواضحة التناقض؛ فهي خطة تتغيَّر حسب مصالحها في المنطقة العربية، وتشجع الحركة الديمقراطية فقط بالقدْر الذي يخدم البورصة والسوق والرأسمالية العالمية والمحلية.
أمَّا حزب الإخوان المسلمين فقد مزَّقته التناقضات بين المبادئ وبين المصالح، بين جوهر الدين من حيث العدالة والحرية، وقشور الدين من حيث اللحى والحجاب، مما أدى إلى هذه التناقضات الصارخة السياسية والأخلاقية في آنٍ واحد.
هذه الفتاة المصرية التي تغطِّي شعرها بالحجاب وتكشف عن الجزء الأعلى من بطنها، وتطرقع باللبانة وتقول: إيه يعني! هي دي الموضة. ورجال السياسة الشباب الذين يخلعون الكرافتة ويقولون: هي دي الموضة.