بمناسبة عيد ميلاده الرابع والتسعين
منذ خمسة وثلاثين عامًا أو أكثر كنت واحدة من أعضاء لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، الذي تغيَّر اسمه إلى المجلس الأعلى للثقافة، وتم إعادة تشكيل لجنة القصة بعد حذف اسمي دون علمي حتى اليوم.
وكان توفيق الحكيم هو الذي رشَّحني لعضوية هذه اللجنة بعد أن قرأ روايتي «الغائب»، ومجموعة قصصية لي بعنوان «الخيط والجدار»، وبعض قصص أخرى، وأعلن لأعضاء لجنة القصة أن مستقبلًا باهرًا ينتظرني في عالم الأدب، بل إنه رشَّح مجموعتي القصصية «الخيط والجدار» لجائزة الدولة التشجيعية، لكن وزير الثقافة في عصر السادات رفض هذا الترشيح، وتضامن معه في هذا الرفض ثروت أباظة وأعضاء آخرون في لجنة القصة، كان يهمهم إرضاء السيد الوزير، إلا أن أعضاء آخرين، ومنهم يوسف إدريس ولطيفة الزيات، تضامنوا مع توفيق الحكيم بعد أن قرءوا مجموعتي القصصية، وانتصر فريق الوزير بطبيعة الحال، وأُعطيت الجائزة لشخص آخر، لكن توفيق الحكيم لم يقبل الهزيمة ومعه الأعضاء الآخرون المتضامنون معه، وتم ترشيحي لجائزة أخرى من خارج نطاق جوائز الدولة، وقيمتها حينئذٍ ثلاثمائة جنيه، تكاد تكون مجهولة لدى الأجهزة الثقافية والإعلامية، تُعطى دائمًا للأعمال الأدبية ذات القيمة العالية، والمغضوب عليهم من السلطة الحاكمة.
منذ خمسة وثلاثين عامًا أو أكثر، قابلت نجيب محفوظ لأول مرة في هذه اللجنة، كان عُضوًا بها قبل أن أدخلها، وكان يجلس معظم الوقت صامتًا منصتًا بانتباه شديد لما يقوله رئيس اللجنة، توفيق الحكيم، الذي يناديه بإجلال كبير بلقب توفيق بيه.
كنت مثل الشباب والشابات في ذلك الوقت لا أستخدم هذه الألقاب من نوع بيه وباشا ومعاليكم، وقد صدر القرار الثوري بسقوط هذه الألقاب جميعًا مع سقوط المَلَكية وعصر الباشاوات، لكن نجيب محفوظ وبعض أعضاء اللجنة لم يُسقطوا هذا اللقب عن توفيق الحكيم أو غيره من كبار الشخصيات في الدولة.
كنت أخاطب توفيق الحكيم بلقب أستاذ، وحين أقول له يا «أستاذ توفيق»، يرمقني نجيب محفوظ في ضيق بزاوية عينه، غير راضٍ عن هذه الأديبة الشابة التي لا تُبدي الاحترام الواجب لرئيس اللجنة، خاصةً وأنه توفيق الحكيم بجلالة قدره، الجالس على عرش الأدب في مصر، الإله أو نصف الإله الواجب تقديسه.
وكنت أنا بدوري غير راضية عن نجيب محفوظ؛ فهو يبدو لي إلى جوار توفيق الحكيم منطفئ العينين والشخصية، ويبدو توفيق الحكيم إلى جواره أكثر شبابًا وأكثر حيويةً وأكثر جاذبيةً.
وأصبح توفيق الحكيم مركز الإشعاع في اللجنة، يُطل من عينه بريق العناد والكبرياء، وسخرية الذكاء والتمرُّد على السلطة الحاكمة، والقدرة على نقد المُسلَّمات، مما لم أجده في نجيب محفوظ؛ ولهذا كان الحوار يدور بيني وبين توفيق الحكيم، وأحيانًا أزوره في مكتبه بجريدة الأهرام؛ لأشرب معه القهوة ونتجاذب أطراف الحديث.
كنت أرى أن شخصية الإنسان لا تتجزأ، ولا يمكن للأديب المبدع أن يكون متمرِّدًا على السلطة الحاكمة ومطيعًا لها في آنٍ واحد.
ربما لهذا السبب ظلت روايات نجيب محفوظ عاجزة عن تحريك مشاعري، رغم إجماع النقاد على أنه أعظم روائي في عصرنا هذا، إلا أن التذوق الأدبي عملية ذاتية، تخص الإنسان وحده؛ ولهذا تختلف الآراء حول العمل الأدبي الواحد، بعضها يرفعه إلى السماء، وبعضه يهبط به إلى الأرض، وهناك مَن يخرج عن الإجماع لأسباب خاصة أو عامة.
ولا يمكن أن أُنْكر أن بعض أعمال نجيب محفوظ تستحق ما حظيت به من تقدير محلي أو عالمي، إلا أنني أعتقد أن الأضواء قد سُلِّطت عليه أكثر من اللازم، ولأسباب سياسية أكثر منها أدبية؛ فهو لم يدخل أبدًا في صراع مع السلطة الحاكمة، بل كثيرًا ما أعلن عن تأييده لقرارات رئاسية لم تكن في صالح الأغلبية من شعب مصر.
ليس معنى ذلك أن السياسة تعلو على الأدب، أو أن الأديب لا بد وأن يكون تابعًا لحزب سياسي أو أيديولوجية معينة، لكني أعتقد أن الإبداع والتمرُّد وجهان لشيء واحد، وأن المبدع في أي مجال علمي أو أدبي أو اجتماعي لا بد وأن يثور ضد الأنظمة السلطوية الباطشة، وإن قاده ذلك إلى السجن أو النفي أو الحرمان من المنصب العالي أو الأضواء الإعلامية.