مرة أخرى بعد نصف قرن ما هو مفهوم الشرف والأخلاق؟
رأيت برنامجًا على شاشة تليفزيونية يناقش مفهوم الشرف والأخلاق، انقسم المشاركون والمشاركات إلى قسمين: قِسم يرى جوهر الشرف في السلوك والصدق والنزاهة والعدالة والحرية. وقِسم آخَر يرى مظاهر الشرف في الملابس والزي والحجاب وغيرها من المظاهر الخارجية، دافع هذا الفريق الأخير عن مواقفهم ببعض آيات دينية أساسها فكرة: أظهروا أحسن ما عندكم، والله أعلم بالسرائر.
تأملتُ وجوه هؤلاء الذين يدافعون عن المظاهر (وليس الجوهر أو السرائر)، فأدركت تقلُّصات عضلات الوجه، مع شيء من زوغان العين، وعدم القدرة على النظر مباشرةً في عدسة الكاميرا أو حتى في عين الشخص الذي يخاطبونه، لاحظتُ اهتزازةً في الرموش مع زيغ النظرات، مما يدل على عدم الثقة فيما يقولون، بل وعدم إيمانهم بما يقولون؛ لأنه يخالف المنطق والعقل والصدق والدين الصحيح والأخلاق الصحيحة.
حتى وقف شابٌّ من الجمهور الحاضر (الذي يأتون به لمجرد التصفيق عند دخول المذيعة)، وقال بهدوء شديد نابع من الثقة: وكم من مفاسد تحت الحجاب والنقاب أيها السادة والسيدات!
تذكَّرت أنني منذ أكثر من نصف قرن نشرت كتابًا يدعو إلى مفهوم جديد للشرف والإخلاص يتعلق بجوهر سلوك الرجل والمرأة، وليس ببعض خلايا بيولوجية في جسم المرأة، تُولَد بها أو لا تُولَد بها، ويخلو منها جسم الرجال والذكور؛ فهل معنى ذلك أن مقياس الشرف السائد يُطبَّق على جنس الإناث دون جنس الذكور؟
ازدواجية أخلاقية منذ نشوء العبودية جعلت القوة العضلية أو القوة العسكرية هي التي تحكم العالم، وليس العدل وليس الحق وليس الأخلاق.
ازدواجية المقاييس الدولية في السياسة والاقتصاد لا تنفصل عن ازدواجية المقاييس في الحياة الاجتماعية لأي شعب، أو الحياة العائلية أو الشخصية.
إن أردنا الإصلاح السياسي الحقيقي (محليًّا داخل البلد ذاتها أو دوليًّا)، فلا بد من إصلاح الأخلاق داخل العلاقات الشخصية.
إن أردنا ديمقراطية في انتخابات الرئاسة أو البرلمان أو أية انتخابات، فلا بد أن تكون هناك ديمقراطية بين الأفراد وداخل العائلة، وفي البيت الذي ينشأ فيه الأطفال.
هذه الديمقراطية لا يمكن أن تتحقَّق في ظل ازدواجية المقاييس، وفي ظل نظام طبقي ذكوري يغفر للذكور أخطاءهم الكبيرة (لمجرد أنهم ذكور)، ويُعاقِب الضحايا الضعفاء وهم الأطفال والنساء الفقيرات الضعيفات من الأسر الريفية غير المدرِكة لحقوقها.
تصوَّروا معي الأستاذة هند الحناوي، لو كانت من الريف، من أسرة معدمة فقيرة، ماذا كان يحدث لها؟
تتمتع هند الحناوي بالاحترام؛ لأنها واعية بحقوقها، ولها أسرة واعية مدرِكة لجوهر الشرف الحقيقي (وليس مجرد المظاهر)، ولها أب قادر على الرد في الصحف وفي الإعلام على خصومه.
تصوَّروا لو أن هذا الأب رجل جاهل بمعنى الشرف الحقيقي، رجل تقبل ابنته أن تحمل دون عقد زواج مختوم بالنسر، فما بال أن يدافع عنها تحت الأضواء وفي كل الأنحاء، مستميتًا هو وأسرته من أجل تغيير هذا المفهوم الهش الواهي لمعنى الشرف والأخلاق.
(١) الحقيقة الحائرة بين الصدق والكذب!
مَن يتولَّى الدفاع عن الحق الضائع في بلادنا؟ الأطفال الذين يأتون إلى عالمنا هذا رغم أنفهم، وضد إرادتهم، لمجرد أن رجلًا وامرأةً جمعهما فِراش واحد؟!
الفِراش الواحدة (لمدة دقائق أو ساعات أو أيام أو شهور أو سنين) بين رجل وامرأة يؤدي إلى ولادة إنسان جديد، هو الطفل أو الطفلة.
آلاف الأطفال، ملايين الأطفال في بلادنا يأتون إلى عالمنا بسبب هذا الفِراش الواحد، الذي يجمع المرأة والرجل معًا بسبب الحب العميق الصادق، أو الشهوة الجنسية العابرة، أو الزواج المُسجَّل على عقد رسمي أو غير رسمي، عُرفي أو غير عُرفي.
حسب التقاليد منذ نشوء العبودية (النظام الطبقي الأبوي)، فإن الرجل هو الذي يشتهي المرأة ويذهب إليها، يطاردها من أجل إشباع شهوته أو عاطفته بالزواج أو بغير الزواج؛ والمفروض حسب مبادئ الأخلاق الأساسية أن يكون الرجل مسئولًا عن أفعاله؛ لأنه هو الذي يبدأ الفعل، والبادي أظلم حسب قوانين الشرائع والأخلاق، والأقوى أظلم حسب قوانين الأخلاق والشرائع، كلما زادت قوة الإنسان زادت مسئوليته؛ ولهذا لا بد من محاكمة الأسياد قبل العبيد، ومحاكمة الرؤساء قبل المرءوسين، ومحاكمة الرجال قبل النساء.
إلا أنَّ العكس هو الذي يحدث في بلادنا (وفي بلاد كثيرة من العالم) منذ نشوء العبودية.
أصبحت القوة هي التي تحكم عالمنا وليس الحق؛ لهذا لا يُقدَّم جورج بوش ولا إريل شارون للمحاكمة بسبب قتلهم الآلافَ والملايين من شعوب العالم، على رأسها شعب فلسطين وشعب العراق.
ولهذا لا يُقدَّم للمحاكمة الرجل الذي يخدع امرأة باسم الحب ويأخذها إلى الفِراش.
مَنْ إذًا يتحمَّل العقاب؟ إنَّهم الضَّحايا الأبرياء، الأطفال الذين يأتون إلى عالمنا ويحملون اسم «أطفال غير شرعيين».
إنَّها وصمة عار في جبين هذا المجتمع الذي يعاقب الطفل المولود، ويُطلِق سراح الجاني لمجرد أنه ذكر، أو الأقوى.
تناولت هذه المشكلة الأخلاقية والإنسانية الكبيرة في عدد من كتاباتي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، جادلتُ قضية النَّسب الحائرة بين الصدق والكذب، الضائعة بين الطب والشرع، والسؤال الهام هو: إذا أنكر الأب نَسبَ ابنه أو ابنته إليه، فما هو الحل؟
هل يصبح الطفل لقيطًا، غير شرعي لا يحظى بالشرف والكرامة والحقوق الإنسانية والاجتماعية مثل غيره من الأطفال؟
وما هي القواعد والقوانين والشرائع التي يقوم عليها النَّسب؟
في كتاب من كتبي السابقة قدَّمتُ بحثًا في هذا الموضوع، يتلخص في الآتي:
بنوة الطفل تثبت لأبيه، إما: (١) نتيجة لاتصال الرجل بالمرأة بعقد شرعي صحيح، أو (٢) بوطء شبهة، أو (٣) نتيجة للإقرار، أو (٤) نتيجة لشهادة العدلَيْن.
وسوف أوضح كُلًّا من هذه النقاط الأربعة.
«العقد الشرعي الصحيح»: إذا اختلى الرجل بالمرأة خلوةً صحيحة عند أهل السنة؛ أي اتصل بها جنسيًّا، ومضت أقل مدة الحمل (وهي ستة أشهر) من حين الوطء (المشاركة في الفراش)، ولم تتجاوز المرأة أقصى مدة الحمل (وهي سنة) من حين الوطء (سنتان عند الأحناف، وأربع سنوات عند الشافعية والمالكية)، فإن الطفل يُنسَب لهذا الرجل.
تتعارض هذه النقطة مع المعلومات الطبية والعلمية المعروفة، عن أن مدة الحمل تسعة شهور، تزيد شهرًا أو تنقص شهرًا، إلا أنَّها لا تكون أبدًا سنةً كاملة أو سنتين أو أربعًا!
إلا أن المجتمع الإسلامي القديم أدرك أن النَّسب الأبوي له مثالبه، وأن زيادة عدد الأطفال غير الشرعيين مشكلة لا بد من علاجها، وذلك عن طريق هذه الفكرة التي عُرفت باسم الطفل النائم؛ أي إن الجنين قد ينام في رحم أمه أكثر من تسعة شهور، ربما أربع سنوات؛ ولهذا جاء المبدأ الإسلامي (الطفل ابن الفراش) اتِّباعًا للحديث النبوي: «الولد للفراش»، وفسر البعض هذا المبدأ أنه رجوع بنسب الطفل إلى الأب فقط بعد أن كان يُنسَب للأم، وفسَّره البعض الآخر على أن أي طفل تلده الزوجة هو ابن زوجها، بصرف النظر عن مدة العقد؛ ولهذا كان يُعتبَر الطفل شرعيًّا إن ولدته المرأة بعد ثلاثة شهور فقط من زواجها، أو بعد أربع سنوات من غياب زوجها عنها، وسُمي ذلك «بالطفل النائم».
تعارضت المعلومات الطبية الحديثة عن مدة الحمل أو عدد الشهور التي يمكن أن يحياها الجنين في رحم أمه، مما دعا المجتمع الإسلامي القديم إلى نقد فكرة الطفل النائم، فينسب الطفل إلى الرجل (الأب أو الزوج) وإن نام الجنين في رحم أمه أربعة أعوام.
أمَّا القاعدة الثانية التي قام عليها نسب الطفل إلى الأب فيُطلَق عليها اسم: وطء الشبهة؛ وتعني أنه إذا وطئ الرجل امرأة (فعل معها الجنس) دون عقد زواج صحيح أو محرَّمة عليه، جاهلًا ذلك، معتقدًا أنها زوجته (راجعوا الشيخ محمد مهدي الشمسي، ١٩٧٤، جزء ٢، ص٧٧)، أو عقد على امرأة لا يصح العَقد عليها، معتقِدًا صحة العَقد عليها، وحملت منه، فلا يتحقق في هذه الحالات إثم الزنا بسبب الجهل، ويُلحَق الطفل بالرجل شرعًا وتثبت أبوته للولد إذا اعترف الرجل بالطفل وبعلاقته بأمه.
وهذا أمر غريب، أن يجهل الرجل مَن يمارس معها الجنس؟ زوجته؟ أم امرأة أخرى؟!
إلا أن هذه القاعدة تُعالج بعض الشيء مشكلة الأطفال غير الشرعيين، ويكفي أن يعترف الرجل بالطفل وإن ولدته امرأة غير زوجته أو محرَّمة عليه شرعًا لمجرد أنه غافل عن ذلك! نرى بوضوح أن الرجل لا يُعاقَب على غفلته، بل يتمتع بالأبوة ويُكافأ بنسب الطفل إليه، وإن حدث ووقعت امرأة في مثل هذا الخطأ أو الغفلة فإنها تُرجَم حتى الموت جسديًّا أو اجتماعيًّا، وطفلها يُصبح غير شرعي يُرجَم معها ويحمل لقب لقيط!
القاعدة الثالثة في النَّسب هي الإقرار: وتعني أن النَّسب يثبت بالإقرار، فإذا أقر الرجل ببنوة طفل (أي طفل) نفذ قراره فورًا، بشرط ألا يكون هناك رجل آخر ينازعه هذه الأبوة، ولا يُشترَط تصديق الطفل إذا كان صغيرًا، أمَّا إذا كان كبيرًا فيُشترَط تصديقه.
وبهذا يصبح من حق الرجل غير المتزوج أن يكون له أطفال شرفاء شرعيون، وأن يستمتع بأبوتهم، أمَّا المرأة غير المتزوجة فأطفالها غير شرعيين وليس لهم شرف أو كرامة طالما أن الرجل الأب يتهرب من المسئولية، بحجة أن الحرية الجنسية من حق الرجل خارج الزواج.
القاعدة الرابعة هي شهادة العدلَيْن، وتعني أن النَّسب يثبت ومنه البنوة بشهادة عدلَيْن، فلو شهد أخوان للميت بابنٍ له (وكانا عدلَيْن) ثبت بنوته، والعدلان هما رجلان من أسرة الرجل، أمَّا التي ولدت الطفل والتي هي أدرى منهما بأبي طفلها فإن نسب البنوة لا يثبت بشهادتها.
- (١)
أن يُولَد الطفل لأقل من ستة أشهر من حين الوطء، أو لأكثر من أقصى مدة الحمل (التي اعتُبِرَت سنة واحدة).
- (٢)
اللِّعان: وتعني أنه إذا أنكر الزوج الطفل المولود (الذي لم ينقص حمله عن أدنى مدة الحمل، ولم يزد عن أقصاها)، وكان العقد دائمًا، ففي هذه الحالة لا ينتفي عنه الطفل إلا باللِّعان.
لعنة الله عليَّ إذا كنتُ من الكاذبين فيما رميتُ به زوجتي من نفي الولد. وبعد فراغ الزوج تشهد الزوجة بعد أن يأمرها القاضي، فتقول أربع مرات: أشهد بالله إن زوجي من الكاذبين في ما رماني به من الزنا. ثُمَّ تقول بعد تَكرار هذه الشهادة أربع مرات: غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين.
ويترتب على اللعان أحكام، منها نفي الولد عن الرجل، ومنها التحريم المؤبَّد بين الرجل والمرأة.
يتضح لنا أن الزوج أيضًا (وليس الرجل غير المتزوج فقط) له الحق في ألا يعترف بشرعية طفله لمجرد أن يكرر بعض العبارات أمام القاضي، رغم صحة عقد الزواج وصحة مدة الحمل، ورغم أن زوجته تقسم بأنه هو الأب، ولنا أن نتخيَّل عدد الأطفال الأبرياء الذين يروحون ضحية رجال ساورهم الشك في أبوتهم.
يظل الرجل في نظر القانون والعرف أرجح عقلًا من المرأة، وأكثر ميلًا إلى الصدق والصواب، أمَّا المرأة فهي ناقصة العقل في نظر الكثيرين وأكثر ميلًا للكذب والضلال.
ويمكن للرجل أن يُنكِر نسب طفله إليه إن ساوره الشك في سلوك زوجته، ويميل الرجال القضاة إلى تصديق الرجال من أمثالهم أكثر من تصديق النساء.
وكم يروح الأطفال ضحايا قوانين النَّسب الأبوي، وهي قوانين غير دقيقة وغير عادلة بسبب الازدواجية الأخلاقية السائدة التي تُعطي الرجال حرية تعدُّد العلاقات الجنسية داخل الزواج وخارجه دون مسئولية.
في المحاكم تتراكم قضايا إنكار النَّسب بسبب الثغرات في القانون، التي تؤدي إلى ثغرات في أخلاق الرجال، يستغل بعض الرجال حقهم القانوني والشرعي المُطلَق في الزواج والطلاق ونسب الأطفال في الانتقام من زوجاتهم، إن خالفت الزوجة أمرًا أو رغبت في الطلاق وهو لا يرغبه؛ فهو يمسك في يده سلاحًا يهددها به، هو سلاح النَّسب، يقول لها: اذهبي إلى المحكمة واطلبي الطلاق، وأنا سأنكر نسب الطفل إليَّ!
وتدخل المرأة وأسرتها في دوامة أو بئر مظلم ليس له قاع، اسمه قضية النَّسب، أكثر بشاعةً ورعبًا من قضية النفقة، ويستطيع الرجل أن يتهرَّب من النَّسب بمثل ما يستطيع أن يتهرَّب من النفقة.
يكون المال عادةً هو لب الصراع في المحاكم بين الزوجين، يلجأ الرجل إلى إنكار النَّسب للضغط على الزوجة (وأسرتها) من أجل التخلي عن حقوقها المالية. يُدرك الرجل أن إنكار نسب الطفل يقضي على سمعة المرأة وأسرتها. يتعلق مفهوم الشرف في بلادنا بسلوك المرأة فقط وليس سلوك الرجل.
يمكن للرجل أن يمارس الجنس مع أي عدد من النساء دون أن يفقد شرفه، ويمكنه أن ينكر نسب طفله إليه دون أن يفقد شرفه (لا تزال قصة الفيشاوي ماثلة في أذهان الناس، وكيف غفر له بعض رجال الدين والقانون خطأه وإنكاره نسب طفلته إليه، باعتبار أن ذلك الخطأ من حقه قانونًا وشرعًا وعُرفًا لمجرد أنه رجل أو ذكر!)
هذه ثغرة خطيرة توارثها المجتمع عن النظام العبودي القديم، حين كان الرجل سيِّدًا للمرأة وهي عبدة له، وقد تخلَّص المجتمع الحديث من ثغرات كثيرة في القانون والأخلاق إلا هذه الثغرة.
هذه الثغرة التي تجعل الأطفال الأبرياء ضحايا كذب الرجال ونزواتهم العابرة وهروبهم من المسئولية.
وقد آن الأوان أن نعالج هذا العيب الخطير في القانون والأخلاق، ليس فقط من أجل الحفاظ على حقوق الأمهات والنساء، ولكن أيضًا من أجل الحفاظ على حقوق الأطفال.
وقد استطاعت بلاد كثيرة في العالم أن تعالج هذه الثغرة من جنوب أفريقيا إلى شمال أمريكا، ومن شرق آسيا إلى غرب أوروبا، استطاعت هذه البلاد أن تُعيد للأطفال حقوقهم، وأن تُعيد للأم كرامتها وإنسانيتها، وأن تُهذِّب أخلاق الرجال، بحيث لا يستطيع أي رجل أن ينكر نسب طفله إليه أو يحرمه من الشرف؛ لأن الشرف لم يعد قاصرًا على اسم الأب، بل عاد لاسم الأم شرفه الضائع منذ العبودية.