ماذا نعني بكلمة دين؟
في طفولتي كانت جدتي الفلاحة الفقيرة تقف أمام العمدة غاضبة متمردة وتقول له بلغتها الدارجة: «ربنا هو العدل عرفوه بالعقل.» هذا هو الدرس الأوَّل في حياتي الذي فهمت به كلمة الله أو كلمة الدين.
وقد تخرَّج أبي في الأزهر والقضاء الشرعي وكلية دار العلوم، إلا أنه كان مثلَ أمِّه متمرِّدًا على المفاهيم الخاطئة عن الدين، وأدرك منذ طفولته أن الله هو العدل، لكن المدرسين في الأزهر فرضوا على التلاميذ مفهومًا بعيدًا عن العدل أو الحرية، فرضوا على التلاميذ فكرة أن الدين هو النصوص الثابتة في الكتب الدينية، والتي يحتكر تفسيرها وتأويلها قلةٌ من الرجال من ذوي اللِّحى الطويلة أو غير الطويلة، يحملون المناصب الرفيعة في الدولة المتصلة بالسلطة الحاكمة، يقبضون رواتبهم من الحكومات، يحظى كلٌّ منهم بلقب صاحب الفضيلة، وإن كان يمارس في الخفاء أو العلن تعدُّد العلاقات الجنسية، وينتقل من امرأة إلى امرأة في الفراش تحت اسم تعدُّد الزوجات.
كان أبي ضد تعدُّد الزوجات مثل الشيخ محمد عبده، وكان ضد المَلِك والإنجليز رغم أن شيخ الأزهر كان معهم في ذلك الوقت. كان أبي يفهم الدين بطريقة أخرى غير أغلب رجال الدين، كان يؤمن أن الله ليس نصًّا أو كتابًا يخرج من المطبعة بأموال الحكومة، لكن الله هو العدل والحرية والمساواة بين البشر، لا فرق بين ذكر أو أنثى أو حاكم ومحكوم.
وكان لأبي أخ غير شقيق (من الأب فقط) يعمل أستاذًا للشريعة في جامعة الأزهر، كنت أستمع إلى الحوار الدائر بينهما حول معنى الدين ومفهوم الإيمان، كانا يختلفان على طول الخط. بينما كان يرى عمي الشيخ أن النصَّ ثابتٌ ومقدَّس كان أبي يرى أن عبادة النص مناقض للإيمان وليس إلا أحد موروثات الوثنية، وكانوا في الوثنية يعبدون النقوش المقدَّسة على الحجر، وتم استبدال الحجر بالورق بعد اكتشاف الطباعة، ولا زلت أذكر صوت أبي يحاور عمي الشيخ ويقول له: «يا شيخ محمد، أنا أعرف الله في أعماقي، وهو العدل، الله يا شيخ محمد يخرج من أعماقنا وليس من المطبعة أو من فوق المآذن والجوامع.» هكذا فهمتُ الدين عن أبي، وأدركت أن النضال من أجل العدل والحرية هو الإيمان، فكيف يكون شيخ الأزهر مؤمنًا إذا كان حليفًا للملك والإنجليز؟! وكيف يدافع عن الظلم والاستعمار والاستغلال للشعب المصري إذا كان يعرف الله؟!
وحينما حاول أخي الأكبر أن يفرض سيطرته عليَّ وعلى أخواتي البنات تصدَّى له أبي وقال له: لا فرق بين الولد والبنت إلا بالاجتهاد والعلم، وكنت أعمل وأجتهد في المدرسة والبيت؛ ولهذا فضَّلني أبي على أخي، وقبل أن يموت أبي بأيام قليلةٍ قال لي: «لن أعيش طويلًا، وأرجو أن تتولَّي مسئولية أخواتك من بعدي.» لم يقل هذه العبارة لأخي الأكبر مع أنه الرجل؛ لقد أعطاني حق الولاية على أخواتي وأخوتي القصَّر والقاصرات ولم يعطها لأخي الأكبر. وكان أبي يقول: «لا فرقَ بين رجل وامرأة إلا بالعلم والقدرة على تحمل المسئولية.» ويردد الآية القرآنية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.
إلا أن القانون في بلادنا لا يعطي المرأة إلا حق الوصاية فقط، أمَّا الولاية فهي حق الرجل فقط. لم أعرف هذا إلا بعد موت أبي، حين بدأت أقرأ في القانون والدين لأعرف لماذا حُرمت من الولاية على أخوتي القاصرات لكوني امرأة رغم أنني كنت طبيبة في ذلك الوقت، يضع الناس أرواحهم في يدي. وقادني البحث إلى قانون الاحتباس وقوامة الرجل أو سيادته على المرأة، وهذه هي المدرسة الشائعة في الدين الإسلامي، والتي لا تأخذ من النصوص الدينية إلا ما يؤكِّد التفرقة بين البشر على أساس الجنس أو العقيدة أو العِرْق. هذه المدرسة ترى أن حق الولاية لا يجوز أن يُعطى للمرأة أو للرجل غير المسلم. لقد سادت هذه الأفكار في القرون السابقة، في القرن التاسع والثامن، من أجل تأكيدِ التفرقة بين الناس، وسلبِ النساء حقوقهن الإنسانية، وكذلك سلب الرجال غير المسلمين حقوقهم أيضًا.
هذه الأفكار التي تمنع ولاية المرأة أو ولاية الرجل غير المسلم كانت نتاج ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة عن الظروف التي نعيشها اليوم. إن الإسلام يقر مبدأ الاجتهاد، والاجتهاد هو تنزيل النص على الواقع أو رفع الواقع أو المصلحة المتغيرة على النص الثابت. كان أبي يردِّد هذا القول المأثور عن بعض الأئمة: «إذا تعارض النصُّ مع المصلحة غُلِّبت المصلحة؛ لأن النصَّ ثابت والمصلحة متغيرة.»
إن مفهوم الولاية قد تغيَّر؛ فلم تَعُد وظيفة القاضي مثلًا أو رئيس الدولة تندرج تحت الولاية مثل وظيفة النبي أو الخليفة أو الإمام، الذي كان يملك وحده سلطة العلم والمعرفة والاتصال بالله، والرؤيا والرؤية والاجتهاد والتشريع والقضاء وكل شيء. لقد توزَّعت هذه السلطات على أجهزة متعددة في الدولة الحديثة، وظهرت الدساتير التي تساوي بين الناس بصرف النظر عن الطبقة أو الجنس أو العقيدة.
لكن المرأة في بلادنا لا تزال محرومة من حق الولاية، ويمكن لها أن تكون وزيرة أو طبيبة تنقذ الأرواح من الموت، مع ذلك تظل محرومة من حق الولاية داخل الأسرة.
وقد أصبح من حق الرجال غير المسلمين أن تكون لهم الولاية، بعد أن زادت قوتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عدد من البلاد الإسلامية، إلا أن النساء في بلادنا لم يحصلن بعدُ على حق الولاية ولا حق النَّسب؛ حتى اليوم لا يمكن للأم المصرية أن تعطي جنسيتها أو اسمها أو دينها لأطفالنا. إن الرجل المصري وحده له الحق في إعطاء اسمه وجنسيته ودينه لأطفاله.
إن حقوق الأم غائبة تمامًا رغم الأغاني عن الأمومة، والأم المقدَّسة التي تحت أقدامها الجنة.
أمَّا حقوق النساء والأمهات في الجنة فتحتاج إلى بحثٍ آخَر؛ لأن الرجال الذكور يحظون في الجنة بكل شيء وإشباع رغباتهم الجنسية حتى الثمالة مع الحوريات العذراوات (اللائي لا يفقدن عذريتهن رغم الممارسات المتكررة)؛ أمَّا الأمهات والزوجات فإن حقوقهن في الجنة لا تزيد شيئًا عن حقوقهن في الحياة الدنيا، وليس لأية واحدة منهن في الجنة إلا زوجها، والسؤال يُبادر إلى الذهن: «إذا كان زوجها مشغولًا ليل نهار بالحوريات العذراوات، فماذا تفعل هي؟»
سألت إحدى القارئات للصحف الدينية في مصر هذا السؤال في بريد القراء، وردَّ عليها أحد المشايخ قائلًا: إن الله قد ساوى بين النساء والرجال في الجنة؛ لأن الممارسة الجنسية في الجنة لا ينتج عنها أطفال مثل الدنيا، وليس هناك بالتالي خلط لأنساب، ويمكن للمرأة أن تحظى بما تشاء من اللذة مثل الرجل عن طريق الغلمان في الجنة الذين ذكرهم الله بمثل ما ذكر الحوريات للرجال، لكن بعض الآراء من رجال الدين تؤكد أن الغلمان في الجنة لم يخلقهم الله للنساء بل للرجال؛ لأن بعض الرجال يُفضِّلون الغلمان على الحوريات العذراوات.
يمكن القول إن السلطة الدينية والسلطة السياسية توأم لم ينفصل أحدهما عن الآخر، رغم ما يُقال عن فصل الدين عن الدولة. في الغرب فإن الدين المسيحي يلعب دورًا كبيرًا في الأمور السياسية وفيما يخص حياة الناس، مثل حق الإجهاض أو حق الحصول على وسائل صحية لمنع الحمل وغير ذلك.
في عام ١٩٨٢ كان البابا «يوحنا بولس الثاني» ثاني اثنين مع الرئيس الأمريكي الأسبق «رونالد ريجان» في اجتماع سرِّي، تقرَّر فيه التعاون الكامل بين القوات العسكرية الأمريكية والقوة الروحانية الفاتيكانية لإسقاط إمبراطورية الشيطان (أو الاتحاد السوفيتي أو الشيوعية بلغة رونالد ريجان). كان التحالف الأمريكي البابوي يخطِّطان معًا للقضاء على الشيوعية في العالم، ونشأ أيضًا التحالف الأمريكي الإسلامي في عدد من البلاد ومنها أفغانستان، ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية زوَّدت المجاهدين الأفغان بأحدث أنواع الأسلحة بما فيها صواريخ شينجر، وطلبوا من حلفائهم من أثرياء المسلمين في بلاد النفط المساهمة في تمويل الثورة الأفغانية، وتحوَّلت الحرب في أفغانستان إلى ما يشبه حرب فيتنام. وفي عام ١٩٨٩ استقبل البابا في الفاتيكان جورباتشوف، وأكمل مهمة القضاء على الاتحاد السوفيتي من داخل الكرملين. وفي المؤتمر الدولي للسكان الذي عُقد في القاهرة (سبتمبر ١٩٩٤) وجد بابا الفاتيكان في التيارات الإسلامية السياسية حليفًا. وفي مارس١٩٩٥ أرسل البابا خطابًا غاضبًا إلى رؤساء الدول المشاركة في مؤتمر القاهرة قال فيه إن هذا المؤتمر سيكون نكسة خطيرة للإنسانية؛ لأنه يسعى إلى هدم الأسرة المقدَّسة وتشجيع الإجهاض أو القتل المنظم للأجنة داخل الرحم، وأصدر الفاتيكان تقريرًا من ٦٦ صفحة أدان فيه تقارير الأمم المتحدة التمهيدية للمؤتمر والتي وافقت فيها على الإجهاض كحق للأم التي لا تبغي استمرار الحمل، وتساءل الفاتيكان كيف تصبح الأمم المتحدة مع «الموت» ضد الحياة، لم يوجِّه الفاتيكان مثل هذا السؤال للأمم المتحدة حين وافقت جورج بوش عام ١٩٩١ على استخدام القوة المسلحة ضد الشعب العراقي، وقُتل في حرب الخليج نصف مليون من الأرواح. إن الأرواح في نظر البابا والفاتيكان هي فقط أرواح الأجنة داخل الرحم؛ أمَّا أرواح الشعب العراقي أو الشعب الفلسطيني أو غيرهما من الشعوب في بلادنا فهي ليست أرواحًا ولا تستحق الدفاع عنها.
في مؤتمر القاهرة قدَّمنا ورقة باسم جمعية تضامن المرأة العربية، أعلنَّا فيها أننا نرفض منطق البابا والفاتيكان والتيارات الإسلامية الأصولية والمسيحية التي ترى أن المرأة كائن ناقص الأهلية، أو غير قادرة على اتخاذ قرارها بشأن الجنين داخل رحمها، وأنه لا بد للفاتيكان والدول والقوى الدولية والأمم المتحدة التدخُّل فيما يخص جسد المرأة وحياتها وحياة جنينها. كما أننا ضد منطق الأمم المتحدة ورؤساء الدول، بما فيهم الرئيس الأمريكي، الذين يرون أن الفقر والجوع في العالم هما نتيجة خصوبة النساء أو الزيادة السكانية، وليس نتيجة السياسة الرأسمالية الطبقية الأبوية الدولية والمحلية القائمة على الجشع والاستغلال.
إن مشروعات التنمية المفروضة على بلادنا بواسطة البنك الدولي (أو غيره من المؤسسات الدولية الاستعمارية) مشروعاتٌ تعرقل التنمية الحقيقية، وتزيد من الفقر والجوع في بلادنا. إن هذه المشروعات أدت إلى نقل ١٧٨ بليون دولار من شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية (ما يُسَمَّى بالعالم الثالث) إلى بنوك أمريكا الشمالية وأوروبا خلال الفترة من ١٩٨٤ إلى ١٩٩٠ فقط.
إن المشكلة الحقيقية ليست خصوبة المرأة أو الزيادة السكانية، بل استمرار النهب الاستعماري لبلادنا تحت أسماء براقة، منها التنمية، وتعاون الحكومات المحلية مع القوى الرأسمالية الدولية لسلب الشعوب من حقوقها الاقتصادية والثقافية نساءً ورجالًا، كما يسلبون أيضًا كرامة الشعوب وحقها في أن تستخدم مواردها الطبيعية لسد حاجاتها، وليس لإثراء القلة الحاكمة دوليًّا ومحليًّا. وتغرق بلادنا في الديون، ندفع فوائدها من عَرَقنا ودَمِنا، أصبحنا رغم (ثراء مواردنا الطبيعية) نستورد ٩٠٪ من طعامنا، ندور في حلقة مفرغة تزيد من فقرنا؛ إذ ننتج ما لا نأكل، ونأكل ما لا ننتج، أصبحت ٤٠٪ من شعوبنا تعيش تحت خط الفقر. مثلًا إن متوسط دخل الفرد في مصر (الفرد الذي يجد عملًا بأجر) ٣٠٠ جنيه مصري في الشهر، على حين يحصل نظيره الأمريكي الذي يقوم بالعمل نفسه داخل مصر على أربعة آلاف جنيه مصري شهريًّا. حين بدأت المعونة الأمريكية لمصر (عام ١٩٧٥ وحتى عام ١٩٨٦) فإن الولايات المتحدة الأمريكية حصلت على ٣٠ بليون دولار (سلعًا وخدمات مستوردة)، ولم تحصل مصر من الولايات المتحدة في المدة نفسها إلا على خمسة بلايين دولار (صادرات إلى الولايات المتحدة).
إن الكرامة تنبع من القدرة على الإنفاق وإطعام النفس، ينطبق ذلك على الدولة بمثل ما ينطبق على الفرد الواحد، الرجل أو المرأة. إن المعونة الأمريكية في حقيقتها ليست معونة، ولكنها جزء صغير مما نُهب مِنَّا يعود إلينا تحت اسم المعونة، وهكذا لا تُسلَب مِنَّا مواردنا المادية فحسب، وإنما كرامتنا أيضًا.
أمَّا كرامة المرأة فقد سُلبت منها في التاريخ منذ نشوء الفلسفة الأبوية التي جعلت للرجل السيادة على المرأة أو القوامة نظير الإنفاق عليها وإعالتها. لقد حُرمت المرأة من العمل المنتج بأجر حتى تظل عالة على زوجها، ويظل هو سيدها والوصي عليها.
إن المرأة المنتجة العاملة بأجر (وإن كانت عاملة في مصنع أو فلاحة فقيرة في الحقل) تشعر بكرامتها كعضو منتج في الأسرة والمجتمع، وطالما هي تعول نفسها بنفسها فهي قادرة على رفض الإهانة أو الضرب الذي قد تتعرض له الزوجة التي تعيش عالة على زوجها.
مع بداية هذا القرن الواحد والعشرين يتجلَّى النظام العالمي الجديد بكلمات جديدة براقة تتخفى وراءها أشكال جديدة من الاستغلال والاستعباد للفقراء والنساء في عالمنا الحديث وما بعد الحديث. أصبحت كلمة العولمة أو الكونية أو الإنسانية العالمية من الكلمات الغامضة الساحرة لكثير من المثقفين في الغرب والشرق على حد سواء، إلا أن نتائجها على الفقراء والنساء من شعوب العالم ليست إلا مزيدًا من الفقر والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والحروب الدينية والطائفية المشتعلة في كل بقاع الأرض. وكم من النساء والفقراء والشباب والأطفال يسقطون قتلى الفتن الروحانية، أو العقائدية والمجاعات الاقتصادية والفكرية التي تخفي وراءها المصالح الدولية للقلة الثرية المالكة للسلاح والمال والإعلام وأعوانهم من الحكومات المحلية.
تتخفى هذه المصالح وراء بعض النظريات الفكرية الحديثة أو ما بعد الحديثة، تحمل أسماء غامضة مثل الكونية الإنسانية أو إنسانيات الغد أو نهاية الأيديولوجيا أو نهاية التاريخ أو موت المؤلف أو غيرها، يقودها مفكرو الرأسمالية الطبقية الأبوية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية (وتابعوهم من المثقفين في بلادنا العربية)، وهي في معظمها نظريات قديمة تتخذ شكلًا حديثًا، تتسم بالمراوغة التي تقبل الشيء ونقيضه من غير بادرة أمل في ربط النظرية بأرض الواقع والتاريخ وحركات التحرير الشعبية نساءً ورجالًا. مثل هذه النظريات تفشل أيضًا في ربط القضايا السياسية بالقضايا الاجتماعية، أو ربط القضايا الفلسفية بالقضايا الدينية والأخلاقية والجنسية، أو ربط مشاكل النساء بمشاكل الرجال، وعدم الفصل بين حياتنا العامة وحياتنا الخاصة، وضرورة الربط بين المعرفة والمسئولية الأخلاقية.
إن دور المفكرين من الرجال والنساء في بلادنا أو في بلاد أخرى ليس مجرد مهنة أو منصب في جامعة أو عمل مقابل أجر أو جائزة من رئيس الدولة (أو جائزة نوبل في العلوم أو الآداب)، لكن دور الفكر أعمق وأشمل بما يتضمنه من رؤية شاملة ومسئولية تجاه الشعب (قبل الحاكم)، إلا أن أغلب المفكرين في بلادنا يدورون في فَلك السلطة الحاكمة وإن أنكروا ذلك، يرفضون ربط السلطة بالجنس أو القهر السياسي بالقهر الجنسي والاقتصادي والأخلاقي، يرفضون ربط أجزاء المعرفة من أجل رؤية شاملة تتجاوز تخصصاتهم الأكاديمية ومصالحهم الاقتصادية والسياسية، يهربون من المسئولية أمام الشعوب المقهورة نساءً ورجالًا إلى النظريات المجردة أو البحث عن المستحيل، الذي يُمثَّل لهم في صورة واقع افتراضي بحت أو عالم نظري خيالي ومفاهيم مثالية (طوباوية) لا علاقة لها بالواقع الذي نعيشه أو الموقف التاريخي المحدَّد الملموس.
لا يمكن أن أنكر أن مثل هذه النظريات، بما فيها فكر ما بعد الحداثة، تتحدَّى الجمود الفكري وتشحذ العقل على التفكير، مما يحقق للإنسان (الرجل والمرأة) متعة كبيرة من أجل تحقيق نفسه كذات مفكِّرة ومبدعة فكريًّا، إلا أن العقل الإنساني ليس ذاتًا مفكِّرة منفصلة عن الجسد والأرض والتاريخ، خاصةً فيما يتعلق بحقوق الإنسان وعلى رأسها حقوق النساء، نصف المجتمع، وحقوق العمال والفلاحين والفقراء أغلب سكان العالم، وأهمية إدانة التمييز الجنسي والعنصري السياسي والعقائدي، ومنها عنصرية الفكر الأمريكي الإسرائيلي الذي سلب أرضَ فلسطين (وأراضي أخرى في لبنان وسوريا ومصر والأردن)، وكذلك أشكال السيطرة الرأسمالية الجديدة التي تتم في إطار ما يُسَمَّى العولمة وما يصاحبها من نظريات مدعمة لها، مثل نظرية صِدام الحضارات وفصل الاقتصاد عن الثقافة، مما يكرِّس اقتصاديات السوق العالمية والنهب الاستعماري بأشكاله الجديدة.
وفي مقابل مصطلح «العولمة» يطرح المفكرون الرأسماليون (في الغرب والشرق) مصطلحاتٍ أخرى، منها الكوكبة، ومنها الإنسانية أو العالمية، التي ينبغي أن تحُلَّ عندهم محل القومية أو الوطنية أو الجنسية المحدودة بوطن معين أو دولة معينة. وهذه فكرة ربما تكون سليمة ومتقدمة من الناحية النظرية فحسب؛ لأن الواقع يؤكد أن الشعوب المقهورة نساءً ورجالًا تزداد قهرًا وجوعًا في ظل هذه النظريات الإنسانية العامة، ولا شيء يحميها من أطماع الرأسمالية العالمية (أو النظام الطبقي الأبوي العالمي) إلا تمسُّكها بما يُسَمَّى الوطنية أو القومية أو الهوية أو التراث أو حتى الدين (كسلاح من أجل العدل).
كنت أستاذة زائرة في عدد من الجامعات الأمريكية خلال السنوات الثمانية الماضية، وقد لاحظت كم يتفاخر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وأعوانه في الحكومة الأمريكية بهويتهم الأمريكية وقوميتهم ودينهم المسيحي وثقافتهم، ويعتبرون أن ثقافتهم الأمريكية يجب أن تكون هي الثقافة العالمية للإنسانية جمعاء، ومع ذلك هم يندهشون حين تقف امرأة عربية وتفخر بقوميتها العربية أو ثقافتها العربية أو دينها الإسلامي.
وبرغم التشدق بالعولمة والإنسانية والكونية وإلغاء الحواجز بين البشر، ومنها حواجز الدولة القومية، إلا أن هذا الإلغاء لا يحدث إلا في النواحي الاقتصادية والثقافية والإعلامية التي تخدم مصالح الرأسمالية الدولية، وأرباح الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، وسرعان ما تُقام الحواجز بين الشعوب لخدمة أهداف الرأسمالية الدولية ذاتها.
من المعروف أن الاستعباد أو الاستغلال لا يمكن أن يقوم ويستمر دون مبدأ «فَرِّق تَسُد»، ولا بد من تأكيد الفروق بين البشر على أساس الدين والجنس والعقيدة والعِرْق والإثنية والجنسية وغيرها من أجل تقسيم الشعوب وإضعافها؛ لهذا يتسم هذا النظام منذ نشأ وحتى اليوم بالتناقض. ونلاحظ اليوم أن دعوات العولمة الرأسمالية الاقتصادية تصاحبها في الوقت ذاته دعواتٌ عكسية تسعى إلى التأكيد على الثقافات المحلية أو الهوية أو الخصوصية الثقافية أو الدينية من أجل تقسيم الشعوب، وعدم قدرتها على مقاومة القوى الاستغلالية دوليًّا ومحليًّا.
لقد عانينا من بطش الأنظمة العربية في بلادنا، وأدخلتنا النعرات القومية أو الدينية أو الخصوصية الثقافية في جدال عقيم أو في السجون والمعتقلات، وضيعنا الوقت في مناقشة الهوية الإسلامية أو الهوية العربية، أو الأصالة والمعاصرة، أو حجاب المرأة كجزء من هويتها الأصلية، أو ختان الإناث والذكور كجزء من الأصالة أو الخصوصية الثقافية في بلادنا، وهذه المجادلات العقيمة التي تلهينا عن المشاكل الاقتصادية والسياسية الأساسية وتغرقنا في مؤتمرات حول صدام الحضارات أو صدام الثقافات.
إلا أن الواقع والتاريخ يدلنا على أن الازدواجية هي السمة الغالبة للفكر السائد، وأن أقصى أنواع القهر قد حدثت تحت اسم الإنسانية العامة، من أجل إخفاء الظلم الواقع على الفقراء والنساء، أصبحت كلمة «الإنسان تعني الرجل»، وفي النظام العالمي فإن «الإنسان هو الأمريكي أو الإسرائيلي أو غيرهما من الجنسيات القوية المسيطرة»، وحتى يومنا هذا، فإن حقوق الإنسان لا تشمل حقوق النساء محليًّا أو حقوق الشعب الفلسطيني دوليًّا.
إن مقتل جندي أمريكي واحد أو جندي إسرائيلي قد يقيم الدنيا ولا يقعدها، أمَّا مقتل آلاف الفلسطينيين أو اللبنانيين أو العراقيين أو غيرهم فإنه يمر دون شيء يُذْكر.
وبالمثل فإن قهر ملايين النساء تحت اسم الدين والأخلاق أو الأمومة أو الأنوثة، فإنه يمر دون شيء يُذكَر، وإن قامت بعض النساء (أو الرجال) بالدفاع عن حقوق هؤلاء المقهورات والمقهورين فإنهم يُدانون، وتُلصَق بهم التُّهم المختلفة ابتداءً من الإرهاب وعدم الشرعية الدولية إلى الكفر والإلحاد، أو عدم احترام الطبيعة الأنثوية أو الخروج عن القيم والأخلاق.
خلال شهر فبراير ٢٠٠٠ جاء المفكِّر الفرنسي «جاك ديريدا» إلى مصر، وتحدَّث عما أسماه «الإنسانية» من أجل التحرير من سلطة الدولة القومية، وأن تتولى العلوم الإنسانية في الجامعات تفكيك فكرها القديم وَفقًا لمفهوم حقوق الإنسان والوعي بالجريمة ضد الإنسانية، إلا أنه تجاهل تمامًا الجرائم الإنسانية ضد نصف المجتمع من النساء، كما تجاهل تمامًا الجرائم الإنسانية ضد الشعوب الأفريقية والعربية، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، ولم يذكر المفكِّر الفرنسي إلا الجرائم الإنسانية ضد اليهود أو طغيان محاكم التفتيش والتمييز العنصري في التاريخ. لم يتحدَّث المفكر الفرنسي عما يحدث في حاضرنا الذي نعيشه والجرائم العسكرية والاقتصادية التي تقتل النساء والشباب والأطفال في السودان ورواندا والصومال ولبنان وفلسطين المحتلة والبوسنة وكوسوفو والشيشان وكشمير والعراق وغيرها.
بينما كان المفكِّر الفرنسي يتحدَّث بلغته الفرنسية ويعتمد في مراجعه كلها على التاريخ الفرنسي وكتابات المفكرين في فرنسا أو أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية، ويشحذ ذاكرته التاريخية الغربية من أجل الإبداع الفكري والفلسفي، إلا أنه كان يطالب الشعوب المقهورة نساءً ورجالًا في بلادنا أو بلاد العالم الثالث بالتخلي عن قوميتها وثقافتها ولغتها من أجل الإنسانية. إن مثل هذه الأفكار يتبناها عددٌ غير قليل من المفكرين في الغرب والشرق (وفي بلادنا العربية)، وقد تنطوي هذه الأفكار على جزء من الحقيقة، إلا أنها في جوهرها تكرِّس المعرفة المجزَّأة والمنفصلة عن الواقع، وهي نتاج الفكر الرأسمالي الطبقي الأبوي الحديث وما بعد الحديث، يتخذ لغة أو مفردات جديدة، منها الإنسانية العالمية أو العولمة، تدعو الشعوب المقهورة إلى التخلي عن الإيجابيات في حاضرهم وماضيهم من أجل الخضوع والدوران في فلك القوى الغربية الرأسمالية.
لقد تصدَّى بعض الرجال العرب لأفكار جاك ديريدا وغيره من فلاسفة الغرب الجدد، ودافعوا عما أسمَوه الذات القومية والدينية، ورفضوا هذا الفكر الرأسمالي من الناحية الاقتصادية. إنهم على وعي بالمشكلة الطبقية التي تزيد من الفقر والبطالة، واتساع الهوة بين الأثرياء والفقراء، إلا أن أغلبهم لا يربط المشكلة الطبقية بالمشكلة الأبوية أو الذكورية، ربما لأنهم رجال لا يرون إلا صالحهم، وكان المفروض أن تكون النساء أكثر وعيًا وأكثر قدرةً على الدفاع عن مصالحهن، لكن التربية في البيوت والتعليم في المدرسة خاصةً التعليم الديني يؤدي إلى عجز أغلب النساء عن إدراك مصالحهن، والخضوع لسيطرة الفكر السائد، بالرغم من حصولهن على المناصب العالمية أو السياسية الكبيرة، مثل الأستاذات في الجامعات أو الوزيرات أو عضوات البرلمان.