عمليات الختان للذكور والإناث
حين تخرَّجت من كلية الطب عام ١٩٥٥ (جامعة القاهرة)، لم أكن أعرف إلا القليل عن قضية المرأة في بلادنا. في طفولتي أدركت أن هناك شيئًا خاطئًا في النظام من حولي، أن نظرة الناس للطفلة البنت تختلف عن نظرتهم للولد، أن الولد حين يُولد تنطلق زغاريد الفرح، وأن البنت حين تُولد لا يكون هناك فرح، أو فرح قليل أقل من الولد. وكنت أسأل مثلي مثل كل البنات: لماذا يحدث ذلك؟ وكانت الإجابة تتلخص في أن هذه هي إرادة الله، أن يصبح الذكر أعلى درجة من الأنثى، وأن يحمل الأطفال اسم الأب، وأن للولد نصيبَ البنتين. ولم تكن هذه الإجابة قادرة على إقناعي في مرحلة الطفولة. إن الذكاء الفطري للأطفال يحول دون الاقتناع بأشياء غير منطقية، إلا أن هذا الذكاء الفطري سرعان ما يتبدد تحت الضغوط الاجتماعية والأسرية والتهديد بالعقاب في الدنيا والآخرة.
في كلية الطب لم ندرس شيئًا عن القهر الواقع على الأطفال الإناث والذكور تحت اسم عملية الختان، بل تم تدريبنا على هذه العملية الجراحية تحت اسم الدين والأخلاق أو النظافة أو الصحة. كنت أسأل نفسي وأنا طالبة بكلية الطب: كيف يمكن أن يقطِّع المشرط في جسد الطفل السليم؟ يقشعر جسمي حين أسمع صرخات الأطفال الأبرياء الإناث أو الذكور، بعضهم قد يُصاب بمضاعفات أقلها تلوُّث الجرح، أو النزيف، أو التهابات المسالك البولية أو الأعضاء التناسلية.
وقد نسيت في ذلك الوقت أنني عشت حادث الختان وأنا طفلة في السادسة أو السابعة. إن الأطفال جميعًا ينسون الحوادث المؤلمة كنوع من الدفاع عن الذات، بل إن الكبار أيضًا ينسون؛ والنسيان نوع من الجهل؛ لأنه يخفي تجارب الألم في حياتنا، ويخفي معها الأسباب التي أدت إلى هذا الألم؛ أدت إلى بتر جزء سليم من جسد الإنسان.
كيف بدأت أبحث وأنقِّب وأكتب ضد هذه العمليات غير الإنسانية؟ لا أدري بالضبط، ربما هي صرخة أختي الصغرى حين أمسكوها وهي في السابعة من عمرها وقطعوا بظرها بالموس، أو ربما هي صرخة أخي الأصغر حين أمسكوه وعمره أسبوع واحد وقطعوا غُرْلَته بالمشرط.
أو ربما هي الصرخات المتراكمة في ذاكرتي للأطفال الإناث والذكور الذين رأيتهم يتعرَّضون لهذه العمليات، أو ربما هي صرختي وأنا طفلة بدأت تدوِّي في أعماقي بعد أن طواها النسيان.
إن استعادة الذاكرة أوَّلُ الخطوات على طريق المعرفة، وقد ساعدتني الكتابة على التذكُّر، خاصةً الكتابة الإبداعية، وهناك علاقة وثيقة بين القدرة على التذكُّر والقدرة على الإبداع. أمَّا دراسة الطب في بلادنا وفي بلاد متعددة في العالم فهي لا تؤهِّل الطبيب إلا لفتح عيادة أشبه بالمحل التجاري القائم على الربح؛ لهذا لم يكن غريبًا أن أكره مهنة الطب وأهجرها إلى الأدب وكتابة الروايات.
أمَّا قضية تحرير الأطفال الإناث والذكور (من قبضة الأطباء وحلاقي الصحة والدايات)، فقد ظلت تشغلني، وظل السؤال يدور في رأسي: لماذا تحدث عملية ختان الذكور والإناث؟ هل يمكن أن يأمر الله بقطع عضو هو الذي خلقه في جسم المرأة؟ أيمكن أن يقع الله في هذا التناقض، أن يخلق شيئًا ثُمَّ يأمر بقطعه؟ كنت طبيبة ناشئة في قرية طحلة محافظة الغربية عام ١٩٥٧، وبدأت أشعر بضرورة التصدي لهذه العمليات البشعة، ومن هنا بدأت قراءة التاريخ والأديان لأعرف كيف بدأت هذه العمليات. استغرق البحث أكثر من عشرة أعوام، وخرجت بكتابي الأول عن قضية تحرير المرأة بعنوان «المرأة والجنس»، الذي اشتمل على جزء خاص عن ختان البنات الإناث. تمت مصادرة الكتاب في مصر عام ١٩٦٩، ثُمَّ نُشر في بيروت بعد ذلك بعامين أو ثلاثة، وتعرضت للهجوم من السلطات الحاكمة في مجال السياسة والدين والطب، وقف ضدي زملائي في نقابة الأطباء. اتهمني رجال الدين بأنني ضد الأخلاق وضد الدين، وأشجِّع النساء على الفساد؛ لأن الختان في رأيهم يحمي المرأة من الفساد الأخلاقي، ويحمي عذرية البنت فلا تسعى وراء الرجال. وفي عام ١٩٧٢ تعاونت السلطة السياسية مع السلطة الطبية، وتم إبعادي عن منصبي بوزارة الصحة، وكان لا بد من مرور أكثر من ربع قرن حتى تتغير العقلية الطبية في مصر، وأن يُصدِر وزير الصحة عام ١٩٩٨ قرارًا بمنع ختان الإناث بعد أن ثبت ضرره البالغ على صحة النساء الجسمية والنفسية.
يرجع ختان الإناث في التاريخ إلى بداية النظام الطبقي ونشوء النَّسب الأبوي وفرض نظام الزواج الأحادي على النساء فحسب. لقد أدرك المجتمع العبودي منذ نشأته أن الأبوة لا يمكن أن تُعرَف إلا بفرض النظام الأحادي على النساء، وترك للرجال حرية تعدُّد الزوجات، ولم يكن من الممكن فرض مثل هذه الازدواجية دون قوانين وعمليات لقمع النساء داخل البيت وخارجه بحيث لا يشك الرجل في أبوته للأطفال. من هنا نشأت عملية الختان لحرمان المرأة من العضو الجنسي الأساسي في جسمها، وبالتالي تتفرَّغ للخدمة في البيت دون أن تُعطِّلها الرغبة الجنسية عن أعمالها المنزلية أو تشجِّعها على التطلُّع إلى رجل آخَر غير زوجها.
إن عملية الختان ليست إلا واحدة من عمليات أخرى قانونية وأخلاقية واقتصادية تم ابتداعها لعزل النساء عن الحياة العامة تحت سيطرة الزوج الواحد. لقد فُرِضَ على المرأة قوانين زواج تحدِّد إقامتها بالبيت، فلا تخرج إلى العمل بأجر أو تسافر إلا بإذن زوجها. لقد فُرِضَ عليها العمل بالبيت دون أجر حتى تظل عالة على زوجها، يفرض عليها الطاعة مقابل الإنفاق، وفُرِضَ على المرأة الحجاب حتى لا يراها رجل آخر غير زوجها.
هذه أمثلة لوسائل القهر التي فُرضت على المرأة لمجرد أن يتأكد الرجل من أبوته، ولمجرد أن يحمل الأطفال اسم الأب وليس اسم الأم. إن عمليات قهر النساء، سواء كانت الختان أو الحجاب أو غيرها، لم تنبع من الدين الإسلامي أو المسيحي أو غيرهما، بل نبعت من المجتمعات العبودية في الشرق والغرب على حد سواء. يحاول بعض الباحثين في مجال الطب النفسي دراسة أثر الختان على الصحة النفسية للذكور والإناث، وقد حدثت طفرة في السنين الأخيرة في الدراسة الطبية نتج عنها الكثير من الحقائق التي تثبت أضرار ختان الذكور بمثل ما حدث بالنسبة لختان الإناث.
خلال عام ١٩٩٩ نشرتُ بعض المقالات في مصر عن أضرار ختان الذكور، وطالبت بمنعه ونشر المعلومات الجديدة عن مضاره، إلا أنني تعرَّضتُ للهجوم من السلطة الطبية والسلطة الدينية، يكاد يشبه الهجوم الذي تعرضتُ له منذ ربع قرن حين كشفت عن أضرار ختان الإناث وطالبت بمنعه.
إن مناهج كليات الطب في بلادنا لا تساير التقدُّم الطبي والعلمي في العالم، ولا زال في بلادنا أطباء يؤمنون أن بظر المرأة مثل الزائدة الدودية بلا فائدة، أو عضو شيطاني يحض المرأة على الرذيلة ويجب قطعه. وعندنا أطباء حتى اليوم، بل إن أغلب الأطباء في بلادنا (حتى بداية هذا القرن الواحد والعشرين) يؤمنون أن غُرْلة الذَّكر (التي تُقطع في الختان) ليست إلا خلايا شيطانية أو بقايا «ذيل الشيطان»، غرضها منعُ نظافة الذَّكر وتعريضه للأمراض.
لقد اتضح أن هذه الغُرْلة هي نسيج حي وليست قطعة جلدٍ ميتة كما اعتقد الأطباء في الأزمنة القديمة. هذه الغُرْلة هامة للصحة الجنسية للرجل؛ فهي تحتوي على نهايات أعصاب حساسة تُسَمَّى في الطب «مسنر كوربا سيلز»، وهي تشمل أنسجةً وأعصابًا تجعل رأس العضو الذكري حسَّاسًا للإثارة الجنسية وقادرًا على بلوغ اللذة. إن هذه الغُرْلة تنمو مع نمو جسد الطفل، وتغطي أجزاء هامة من عضو الذكر، لكنها في عملية الختان تفقد ٥٠٪ على الأقل من أنسجتها، ويفقد العضو غطاءه الطبيعي الغني بالأعصاب الحساسة التي تتركز في الطبقة الداخلية للغُرْلة، والتي تنكشف في العملية الجنسية عند الانتصاب، وتلامس جدار المهبل عند المرأة؛ وبالتالي فهي ضرورية لأداء الوظيفة الجنسية بشكلها الكامل للرجل والمرأة على حدٍّ سواء.
وفي الغُرْلة خلايا هامة تُسَمَّى خلايا «لانجر هانز» لها وظيفة وقائية؛ فهي تهاجم الميكروبات التي قد تُصيب هذه المنطقة، وتنقلها إلى الخلايا الليمفاوية التي تدمِّر الميكروبات وتفرز أجسامًا مضادة لها تُكسِب الجسم مناعة ضد الأمراض.
أمَّا المشاكل النفسية لختان الذكور فهي متعددة؛ أولها صدمة الألم أثناء العملية الجراحية التي تُجرى للمولود في الأسبوع الأوَّل من عمره، يبقى الألم في ذاكرة الطفل طوال حياته، كما أن غياب الغُرْلة يؤدي إلى عدم الإشباع الجنسي عند الرجل، مما يؤدي إلى أنواع من التوتر والعنف والرغبة في الانتقام من الذين أساءوا إليه في طفولته، ومنهم الأب والأم، وقد لا يستطيع الرجل الانتقام منهما، ولا يجد أمامه إلا زوجته أو فتاة أخرى يغتصبها أو يقهرها.
في مصر خلال عام ١٩٩٧ عارض بعض رجال الدين قرار وزير الصحة بمنع ختان الإناث (لا يزال ختان الذكور مُباحًا ويُمارَس على جميع الأطفال الذكور من المسلمين والأقباط)، وجاء على لسان أحد القيادات الدينية أن ختان الأنثى كرامة لها؛ لأنها بالختان تفقد شهوتها فلا تكون طالبة للرجل (بل مطلوبة منه)؛ فالرجل لا يحب المرأة التي تطلبه، كذلك فإن الختان مفيد للمرأة، يحميها من شهوة البظر، وإذا ركبت دابة واهتزَّت فإن شهوتها لا تفور، لكن إذا كان ركوب الدابة يثير شهوة المرأة (بسبب احتكاك البظر بظهر الدابة) فلماذا تُختن النساء في المدن اللائي لا يركبن الدواب، بل يركبن السيارات والقطارات والطائرات؟ وماذا عن احتكاك العضو الذكري بظهر الدابة؟ وهل نقطع أعضاء الرجال الذكرية حتى لا تفور شهوتهم؟
من المعروف في علم الطب أن مخ الإنسان (الرجل أو المرأة) هو العضو الجنسي الأساسي، وهو مصدر الإثارة الجنسية؛ أي إن عقل الإنسان هو الذي يتحكَّم في شهوته، سواء كان رجلًا أو امرأةً، وإلا عشنا مجتمعًا همجيًّا يثور فيه الذكور والإناث بمجرد ركوب الدابة أو دراجة.
منذ نشوء النظام الطبقي القائم على النَّسب الأبوي أصبحت شهوة المرأة الطبيعية مدانة، وحرم عليها اللذة (خوفًا من اختلاط الأنساب أو الشكوك حول الأبوة).
انعكست هذه القيم العبودية في بعض الأديان، منها الدين اليهودي.
وفي التوراة فقرة تعاقب حواء (أنها أكلت من شجرة المعرفة) تقول ما يلي: «تلدين في الأسى والألم ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.» هذه الفقرة توضِّح التحوُّل من مبدأ المعرفة واللذة في حياة النساء إلى مبدأ الألم والأسى والخضوع. كان هذا التحوُّل ضروريًّا لنشوء النظام الطبقي القائم على النَّسب الأبوي، وكانت المجتمعات الأموية السابقة على ذلك تقوم على اسم الأم.
مع التطوُّر الاجتماعي والثقافي في بعض بلاد العالم، ومع ارتفاع مكانة النساء في المجتمع والدولة والأسرة، أصبح الأطفال يحملون اسم الأم والأب معًا، وليس اسم الأب وحده.
في المعركة ضد ختان الإناث في مصر انتصرت الحقائق الطبية والعلمية على السلطة الدينية، وصدر قرار وزير الصحة بمنع ختان البنات عام ١٩٩٨، وأعلن شيخ الأزهر أن ختان الإناث مسألة طبية من اختصاص الأطباء، وليس مسألة فقهية.
لكن لم يُصدرْ شيخ الأزهر مثل هذه الفتوى فيما يخص الذكور، رغم أن الشيخ محمد عبده في بداية القرن العشرين أدان ختان الذكور واعتبره عادة يهودية لا علاقة لها بالإسلام. كذلك أكَّدَ الشيخ محمود شلتوت أن ختان الذكور «إسراف في الاستدلال، ولم يأمر به الله إلا لليهود.»
بعض الآراء تقول إن المعركة ضد ختان الذكور والإناث مثل المعركة لتحرير المرأة قد جاءتنا من الغرب، لكن هذه المعارك عريقة في تاريخنا منذ نشوء العبودية. وفي كتاب التوراة فرض الله على النبي إبراهيم ونسله ختان الذكور مقابل إعطائهم أرض فلسطين أو كنعان.
في الإصحاح السابع عشر (تكوين) يعقد الإله مع النبي إبراهيم عهدًا، يقول له: «أقيم عهدي بيني وبين نسلك من بعدك … عهدًا أبديًّا … أعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكًا أبديًّا … هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم … يُختن منكم كلُّ ذَكر … فتُختنون في لحم غُرْلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم … فيكون عهدي في لحمكم أبديًّا … وأما الذَّكر الغلف الذي لا يُختن في لحم غُرْلته فتُقطع تلك النفس من شعبها؛ إنه قد نكث عهدي.»
هذه هي الكلمات التي جاءت في التوراة، تؤكد لنا أن إله اليهود رفع «الأرض مقابل الختان»، وهو شعار غريب، فما علاقة الاستيلاء على أرض الغير بالقوة المسلحة وختان الذكور؟
لا يمكن أن نفهم هذا السر إلَّا إذا قرأنا ما جاء في التوراة بعد ذلك، كان إبراهيم ابن مائة سنة، وزوجته سارة بنت تسعين سنة، لم يكن عندهما ابن يرثهما. أشارت سارة على إبراهيم أن يتزوج جاريتها هاجر لينجب منها الولد، لكن ما إن أنجبت هاجر ابنها إسماعيل حتى غيَّرَت سارة رأيها، طلبت من زوجها إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها. تردَّد إبراهيم قليلًا، لكن سارة أقنعته بطردهما بعد أن أنجبت له ولدًا، قالت إنه من عند الله، فسأل إبراهيم الله مندهشًا:
«هل يُولَد لابن مائة سنة؟ وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة؟» (الإصحاح ١٧/تكوين ١٨). توسَّل إبراهيم إلى الله أن يجعل ابنه إسماعيل يعيش أمامه، لكن الله ردَّ عليه في التوراة قائلًا: «فقال الله بل سارة امرأتك تلد لك ابنًا، وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهدًا أبديًّا لنسله من بعده.»
هكذا تمت الخطة حسب تدبير زوجته سارة وفق رواية التوراة، خطة استغرقت ثلاث عشرة سنة بسبب تردُّد إبراهيم وتلكُّئه في طرد زوجته هاجر وابنها إسماعيل، أمرت سارة بتختين إسماعيل قبل طرده وعمره ثلاثة عشر عامًا، كما أمرت سارة بتختين زوجها إبراهيم وعمره تسعة وتسعون عامًا.
تقول التوراة: «وكان إبراهيم ابن تسعٍ وتسعين سنة حين خُتن في لحم غُرْلته، وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين خُتن في لحم غُرْلته … في ذلك اليوم عينه خُتن إبراهيمُ وإسماعيلُ ابنُه، وكلُّ رجال بيته، وُلدانُ البيتِ والمُبْتاعون بالفضةِ من ابن الغريبِ خُتِنوا معه.»
في الإصحاح الثامن عشر نكتشف أن العلاقة الخفية بين الرب وسارة زوجة إبراهيم؛ إذ يظهر الرب عند باب خيمة إبراهيم، ومعه ثلاثة رجال، وسجد إبراهيم إلى الأرض ثُمَّ أسرع إلى سارة زوجته داخل الخيمة وقال لها:
«أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سمينًا، اعجني واصنعي خبز ملة.»
ثُمَّ ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلًا جَيِّدًا وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله، ثُمَّ أخذ زبدًا ولبنًا والعجل الذي معه ووضعها قدامهم، وإذا كان واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا.
بعد الأكل سأل الرب إبراهيم عن زوجته فقال له: ها هي في الخيمة.
«فقال إني أرجع إليك … ويكون لسارة امرأتك ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام … وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء.»
إلا أن سارة تحصل على ابنها إسحاق، كيف؟ لا نعرف. ولماذا كانت تقف وراء الباب تتسمَّع ما يدور بين الرب وزوجها إبراهيم؟ ولماذا كان الرب يستجيب لجميع طلباتها ويأمر زوجها إبراهيم بطرد هاجر وابنها إلى الصحراء؟!
وهل هناك إذلال للرجل وهو في التاسعة والتسعين من عمره أن يمسكه الرجال، يكشفون عورته، يقطعون غُرْلته بالموسى أو قطعة من الحجر؟ لقد تلوَّث جُرح إبراهيم ولم يلتئم إلا بعد زمن طويل من الألم والمعاناة، حتى إنه اشتكى للرب من الألم وطلب منه الرحمة.
ويظل الشعار القديم أو العهد القديم «الأرض مقابل الختان» غير مفهوم، وفي حاجة إلى دراسات أعمق لعصور العبودية والصراعات على السلطة والمال والأرض بين الجماعات البشرية المختلفة.
إلا أن عادة ختان الذكور مثل عادة ختان الإناث أصبحت تتوارث عبْر الأجيال، رغم ما يصاحبها من مخاطر صحية مختلفة.
بل كثيرًا ما حاول المجتمع البشري تبرير هذه العمليات الجسدية من أجل استمرارها؛ كانت السلطة الحاكمة في أي مجتمع في حاجة دائمة إلى التحكُّم في أجساد النساء والعبيد، وقطع أجزاء منها لأسباب قمعية تتخفى تحت الدين؛ ولهذا انتشرت الشائعات حتى بين الأطباء أن عمليات الختان للإناث والذكور ضرورية من أجل النظافة أو الصحة أو لمنع الأمراض.
منذ أكثر من ثلاثين عامًا حين نشرت كتابي «المرأة والجنس» ثارت السلطة الحاكمة في الدولة؛ لأن الكتاب تضمَّن بعض الفصول التي تكشف عن المخاطر الصحية الناتجة عن ختان الإناث، كان هذا الكتاب (والذي صُودر عام ١٩٦٩) هو فاتحة المشاكل في حياتي، والتي أدت إلى فقداني منصبي في وزارة الصحة في أغسطس ١٩٧٢، رغم ذلك أصدرت الكتاب من بيروت عام ١٩٧١ وأعقبته بكتبٍ أخرى على توالي السنين، نُشرت كلها في بيروت أو معظمها.
لكني لم أتعرَّض في هذه الكتابات السابقة إلى المخاطر الصحية الناتجة عن ختان الذكور، كنت مشغولة بما تصوَّرت أنه أهم من ذلك، كما أنني لم أكن عرفتُ بعدُ شيئًا عن هذه المخاطر الصحية، وهي معلومات حديثة نسبيًّا، لم يتم نشرها في المجلات الطبية إلا في السنين العشر الأخيرة.
لحسن حظي وصلت إلى هذه المعلومات حين كنت أستاذة زائرة في جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا، بأمريكا الشمالية، خلال الأعوام ٩٣ و٩٤ و٩٥، وقد شهدت السنوات الثلاث حركةً طبيةً واسعة النطاق، وفي أنحاء متعددة من العالم، لنشر المعلومات الجديدة عن مخاطر ختان الذكور، وساعدت الثورة الإليكترونية الأخيرة في سرعة نشر هذه المعلومات، وتكوَّنت فِرق من الأطباء تدعو إلى منع ختان الذكور، وتقدِّم للجماهير العادية المعلومات الطبية عبْر الإنترنت تحت عنوان: «الأطباء يعارضون الختان».
المفروض أن يطَّلع الأطباء في بلادنا على المعلومات الطبية الجديدة التي تؤكد أن ختان الذكور ضارٌّ صحيًّا، وليست له أي فوائد كما أُشيع قديمًا.
ورغم عدم وجود أية واحدة في القرآن الكريم تذكر الختان (ختان الذكور أو الإناث)، إلا أن عادة ختان الذكور انتشرت بين المسلمين رغم اختلاف الفقهاء حولها، واختلف الفقهاء المسلمون حول ختان النبي إبراهيم ذاته؛ بعضهم قال إنه وُلد مختونًا، وكانت هناك أسطورة يهودية انتشرت في البلاد الأخرى عن طريق التجارة، وهي أن الإله يخلق الأنبياء طاهرين مختونين، وأن «الغُرْلة» تسقط عن أجسادهم مع الولادة، كما يسقط الحبل السُّري والمشيمة، ثُمَّ اتضح فيما بعدُ أن هذه الغُرْلة لم تسقط عن إبراهيم، ولم تعرف بهذا السر إلا زوجته سارة، وبعد أن بلغ من العمر تسعة وتسعين عامًا.
في بداية هذا القرن العشرين كان الشيخ محمد عبده ضد ختان الذكور، واعتبره عادة يهودية لا علاقة لها بالإسلام، إلا أن المشايخ عارضوه. وفي بداية الستينيات من هذا القرن ردد الشيخ محمود شلتوت رأي الشيخ محمد عبده، وقال عن ختان الذكور إنه «إسراف في الاستدلال»، ولم يأمر به الله إلا لليهود.
هذه الآراء لم تغيِّر من العادة الموروثة منذ الفراعنة، منذ أصبحت إراقة الدم رمزَ الخضوع والولاء للإله فرعون بدلًا من تقديم القرابين، كان الأثرياء يُقدِّمون للإله فرعون ذبائح من أجساد حيواناتهم، لكن الفقراء أو العبيد لم يملكوا الماشية وكانوا يُقدِّمون قطعة من أجسادهم صغيرة مع قليل من الدم؛ دمهم. وفي التوراة آياتٌ كثيرة عن سرور الإله حين كان يشم رائحة الدم، أو الشواء (خاصةً الضأن) فوق المحرقة، من هنا جاء مفهوم الطهارة بإراقة الدم؛ في التوراة لا تطهر المرأة بعد الحيض أو المخاض (الولادة) إلا بعد أن تذبح فرخًا للإله تطهر به من نجاسة دمها، وإن ولدت أنثى تكون نجاستها مضاعفة وتذبح فرخَيْن.
تطوَّرت الطهارة أو عملية التطهير من دنس الولادة بالماء وليس الدم، وهي خطوة إلى الأمام أصبح المولود يغطس في الماء ليصبح طاهرًا (تُسَمَّى عملية التعميد في المسيحية)، وهي عملية لم يأخذ بها المسلمون؛ فلماذا انتشرت عادة ختان الذكور في البلاد الإسلامية؟
كثيرٌ من فقهاء المسلمين يرفضون فكرة الختان للذكور أو الإناث؛ إن الله كامل لا يخلق إلا الكامل، فكيف يعدِّل البَشر على خلق الله؟!
بعض الفقهاء يعتبرون الختان مثل قص الأظافر … نظافة للرجل؛ إنهم يظنون أن الغُرْلة شيء ميت مثل الظفر، بعضهم يعتبر الختان مثل قطْع الحبل السُّري، إلا أن أغلب الآراء لم تكن تشجِّع الختان؛ بعض الفقهاء كانوا يرون أن ختان الذكور وختان الإناث شرطٌ ضروري للطهارة، ولا تُقبل صلاة إنسان غير مختون، رجل أو امرأة … بعض الآراء تقول إن الشيطان يتخفى وراء بظر المرأة ووراء غُرْلة الرجل؛ لذلك وجب قطعها لإخراج غدة الشيطان منهما. بعض الآراء تقول إن الشيطان يتخفى وراء شعر العانة وإلا أصبح الإنسان غير طاهر، ولا يقبل الله صلاته.
بعض الآراء يقول إن الدعوة لعدم الختان جاءتنا من الغرب، وهذا غير صحيح؛ لأن كثيرًا من الآراء المعارضة لختان الذكور والإناث عريقةٌ في بلادنا عراقةَ الصراع بين العقل واللاعقل، وقد قرأت مؤخَّرًا في إحدى الصحف التي تملكها إحدى الجماعات الدينية في بلادنا ما يؤكد أن ختان الموتى من الذكور والإناث ضروري حتى يدخل الميت أو الميتة إلى الجنة؛ فالجنة لا يدخلها إلا الطاهرون والطاهرات! وأن ختان الموتى يقلِّل من ذنوبهم التي اقترفوها في الدنيا.
بعض الآراء تقول إن الأطباء في بلادنا متخلِّفون وينقلون عن الغرب دائمًا، لكن الطبيب الرازي (محمد ابن زكريا الرازي) الذي عاش أوائل القرن العاشر (أي منذ أكثر من ألف عام)، هذا الطبيب عارض كل ما يُسيء إلى جسد الإنسان السليم تحت أية مسميات دينية؛ عارض الختان والوشم وأي شيء يخدش جسد المرأة أو الرجل، وقد كانت كتب الطبيب الرازي تُدرَّس في جامعات أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي، وكان يؤمن أن الله هو رمز العدل والصحة، إلا أن كتب الطبيب الرازي قد مُنِعَت من التداول في بلادنا، بمثل ما مُنِعَت كثيرٌ من الكتب الأخرى الطبية أو العلمية التي حاربت هذه العادات الضارة تحت اسم الدين أو الأخلاق، ومنها كتابي «المرأة والجنس» الذي صُودر من الأسواق المصرية وعددٍ من البلاد العربية منذ الثلاثين عامًا.