فصل الدين عن حياة النساء والمسيرة نحو التقدم
خلال النصف الأخير من القرن العشرين استطاعت بعض النساء العربيات (من الباحثات والكاتبات) أن يكسرن حواجز فكرية متعددة، ويناقشن قضايا لم يكن من الممكن التعرُّض لها في بداية القرن العشرين، لعل أهم مساهمة قدَّمتها هؤلاء الباحثات هي محاولة القضاء على الأحادية الفكرية التي ترى الأشياء بعين واحدة هي عين الرجل، أو تنكفئ على الذات دون رؤية الآخر، أو تلك الثنائيات الموروثة التي تفصل الدين عن السياسة عن الأخلاق عن الاقتصاد والجنس وغيرها.
بفضل هذه المساهمات الجديدة تجاوزت قضية المرأة العربية حدود الأحوال الشخصية أو الشئون الاجتماعية لتشمل الشئون السياسية، وعلى رأسها تحرير الأرض والاقتصاد والتاريخ والعقل والجسم.
إلا أن هذه الحركة الفكرية النسائية كانت ولا تزال تتلقَّى الضربات من الداخل والخارج من أجل إجهاضها؛ تلعب الرقابة على النشر دورها في مقاومة أي فكر لا يخضع للسلطة الحاكمة سياسيًّا ودينيًّا، ربما لهذه الأسباب لن يتحقق لهذا الفكر النسائي الانتشار في بلادنا العربية، بمثل ما انتشرت الأفكار المناهضة لتحرير المرأة وإعادتها إلى حظيرة البيت.
ساعد على هذه الرِّدة تصاعدُ القوى الرأسمالية الدولية (بعد سقوط المعسكر الآخر الاشتراكي)، وتشجيعها للتيارات الدينية المحافظة أو الرجعية.
ظهرت موجات الرِّدة في الفكر النسائي في الولايات المتحدة وأوروبا مع ظهور النظام العالمي الجديد القائم على القطب الواحد الرأسمالي، وبدأ الاستعمار الجديد يبطش بكل مَن يعترض على الظلم، وفي بلادنا تعرَّضنا لحرب الخليج عام ١٩٩١ التي أدت إلى مزيد من الضعف والتجزئة للبلاد العربية، ومزيد من القوة لدولة إسرائيل والهيمنة الأمريكية على المنطقة، وتصاعُد القوى السياسية الدينية التي تستخدم الإرهابَ وسيلةً لضرب كلِّ مَن يخالف الرأي. وفي الولايات المتحدة الأمريكية تصاعدت القوى السياسية المسيحية الرجعية وانتكست حقوق المرأة، وظهرت مؤلَّفات جديدة تحاول إعادة النساء إلى البيوت تحت اسم العودة إلى الأمومة أو العودة إلى الطبيعة الأنثوية وما فُطِرَت عليه المرأة من استعدادات وقدرات مغايرة للرجل، وتراجعت عددٌ من النساء عن أفكارهن السابقة التحريرية، واعترفن بخطأ خروج المرأة عن طبيعتها التي خلقها بها الله، وظهرت دراساتٌ تحت اسم علم الاجتماع أو علم النفس تُثبِت فشل النساء في الحياة العامة أو ضرورة عودتهن إلى حظيرة الأمومة والدين والأخلاق.
انتقلت هذه الرِّدة إلى بلادنا عبْر الأنظمة العربية والإعلام العربي التابع للغرب، والمؤسسات الثقافية التي نشطت من أجل ترجمة هذه المؤلَّفات الأمريكية إلى اللغة العربية، وبدأ ما يُسَمَّى الاستشراق النسائي الأمريكي الجديد.
خلال الأعوام القليلة الماضية غرقت الأسواق والمؤسسات الثقافية في بلادنا بالكتب عن المرأة العربية والإسلام، أغلبها بأقلام النساء الأمريكيات المستشرقات، اللائي يُروِّجن للفكر الرأسمالي الليبرالي الحديث أو ما بعد الحديث.
ويقوم هذا الفكر على أربعة أسس:
-
(١)
أن الطريق الرأسمالي (الطبقي الأبوي) هو الطريق الأمثل لمستقبل البشرية، وعلى رأسها السوق الحرة أو حرية التجارة.
-
(٢)
أن الأمومة هي الدور الطبيعي والأساسي للمرأة، وأية أدوار أخرى ثانوية.
-
(٣)
أن الصراعات الدولية والمحلية تقوم بسبب الاختلافات الثقافية والدينية والإثنية (وليس بسبب الاستغلال الاقتصادي والسياسي).
-
(٤)
أن الثقافة شيء منفصل عن الاقتصاد، والشكل منفصل عن الجوهر، وأن الشكل هو الأساس (ولا يوجد جوهر).
وقد اشتد انتشار هذا الفكر في الغرب كردِّ فعلٍ ضد الفكر الماركسي التقليدي الجامد الذي جعل الاقتصاد كل شيء وأهمل الثقافة، ومع سقوط حائط برلين والاتحاد السوفيتي خلال العَقد الماضي طغى هذا الفكر على العالم، وعلى المفكرين في بلادنا العربية، سواء فيما يخص القضايا العامة أو قضية المرأة، إلى حدِّ أن قامت حملة نشيطة لترجمة هذه الكتب إلى اللغة العربية، ومنها كتب النساء الأمريكيات عن المرأة والإسلام.
يتبنى الخطاب الاستشراقي النسائي الجديد الأفكار التي تشجِّع النساء العربيات على العودة إلى البيت والأمومة تحت اسم التمسُّك بالقيم الدينية أو الثقافية المحلية أو الهوية الأصلية، وهو نفس خطاب الهيمنة الأمريكية الذي رفع الشعارات الدينية في العالم كله «سواء الشعارات المسيحية أو الإسلامية أو الهندوكية أو اليهودية أو البوذية أو غيرها» كرمز لمقاومة الغرب.
إن تصاعد التيارات الدينية في العالم الذي أطلق عليه اسم «التيارات الأصولية» لم تكن إلا الوجه الآخر للفكر الليبرالي الرأسمالي الحديث وما بعد الحديث، وهو فكر الاستعمار الأميركي الجديد؛ لهذا لم تنجح هذه التيارات الدينية الأصولية إلا في قتل الأبرياء من النساء والرجال، على حين انطلقت قوى الاستعمار العسكرية والاقتصادية تفتك بأرواح الشعوب ومواردها، سواء بالحروب الواضحة السافرة، أو القوانين التجارية السرِّية أو المعلنة داخل منظمة التجارة الدولية وغيرها من المؤسسات المسيطرة، بل أصبحت قيادات هذه التيارات الدينية جزءًا من هذه المؤسسات الاقتصادية رغم غضبها الشديد على الغرب، برغم نضالها تحت عباءة الدين لم تثمر عن شيء إلا المزيد من التبعية للتفوُّق الغربي والعولمة.
ربما كانت خطابات الإصلاح الديني في بداية القرن العشرين أكثر تقدُّمًا فيما يخص قضية المرأة عن الخطابات الدينية التي في نهاية القرن العشرين، يكفي أن تقارن الأفغاني والشيخ محمد عبده بما نقرأه اليوم لبعض المفكرين الدينيين، برغم ما يُقال عن اختلافها كانت جزءًا من الخطابات الاستشراقية التي تؤمن بالتفوُّق الغربي، ولم تربط بين الثقافة والاقتصاد.
بالطبع ليس في العالم خطاب يقوم على النقاء الثقافي الخالي من الشوائب؛ لأن الثقافات الإنسانية كلها متداخلة مخلوطة برغم الحواجز الجغرافية والتاريخية، والمشكلات ليست في النقاء أو الاختلاط أو ما يُسَمَّى الأصالة والحداثة أو التغريب والتشريق، لكن المشكلة هي التناقض في الخطاب الاستشراقي الجديد، خاصةً الخطاب الاستشراقي النسائي الذي يحاول العودة بالمرأة العربية إلى الوراء تحت اسم احترام ثقافة الآخر.
حين كنت في لندن فتحت جريدة الجارديان يوم ٢٥ نوفمبر ١٩٩٩ لأقرأ مقالًا لإحدى المناضلات البريطانيات لتحرير المرأة في الغرب، وهي جيرمان جرير، كتبت في مقالها تؤيد ختان البنات في بلادنا كجزء من الهوية الأصلية أو الثقافة المحلية التي يجب احترامها في عصر ما بعد الحداثة الذي يتميز بالتعددية الثقافية والخصوصية والاختلافات الدينية والإثنية.
لم يكن غريبًا أن العالم في ظل هذا العصر ما بعد الحديث قد شهد حروبًا ومذابحَ في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية تحت اسم الصراعات الإثنية أو الدينية برغم أن الصراع الحقيقي هو الصراع الاقتصادي الناتج عن تزايد الفقر والجوع مع تزايد الثراء في يد القلة القليلة التي تسيطر على التجارة في العالم.
حين كنت أستاذة زائرة في جامعة فلوريدا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، شاهدت وتابعت ما حدث في مدينة سياتل من مظاهرات شعبية ضد منظمة التجارة الدولية خلال اجتماعها في نهاية نوفمبر ١٩٩٩، وقد اشتركتْ في المظاهرات بعض طالباتي في جامعة فلوريدا من الأمريكيات اللائي سافرن إلى سياتل، كما اشتركت في المظاهرات أيضًا بعض النساء العربيات اللائي يعشن في مدينة سياتل، أو المدن القريبة منها في ولاية كاليفورنيا وبعض الطالبات منذ عام ١٩٩٥ حين كنت أستاذة في جامعة واشنطن بمدينة سياتل. لقد ساعدت أجهزة الاتصال الحديثة وما بعد الحديثة (ومنها الإنترنت والويب) على سرعة الاتصال بين الناس، وأصبح العالم الضخم كأنه قرية صغيرة، وكنت أتلقَّى كل ساعة تقريبًا الأخبار من سياتل كأنما أعيش في المدينة برغم أنني في فلوريدا، بل قبل المظاهرات جاءتني رسائل الإنترنت والبريد الإلكتروني من النساء العربيات في سياتل اللائي اشتركن في التنظيم والتخطيط لهذه المظاهرات، بعضهن تركن العمل والدراسة وشاركن في غرفة العمليات متفرغات لهذا العمل الكبير أكثر من ثمانية أشهر.
وقد نجحت مظاهرات سياتل نوفمبر ١٩٩٩ في أشياءَ متعددة، إلا أن أهم ما نجحت فيه هو كشفها للصراع الحقيقي في العالم، وأنه صراع ضد القوانين الاقتصادية والتجارية غير العادلة ضد قوانين منظمة التجارة الدولية وغيرها من المؤسسات، إنه صراع اقتصادي أساسًا وليس صراعًا ثقافيًّا أو دينيًّا أو إثنيًّا؛ لأن المظاهرات جمعت النساء والرجال والشباب والشابات من مختلف البلاد والثقافات واللغات والأديان والألوان، تجمَّعت كلها في مسيرة واحدة ضد عدو واحد هو النظام الاقتصادي العالمي، أو العولمة من أعلى من القمة حيث يتربع الفرد أو قلة من الأفراد ينهبون عَرَق الملايين تحت اسم حرية السوق أو الديمقراطية أو الليبرالية الرأسمالية.
كانت نسبة النساء في المظاهرات تبلغ نسبة الرجال، ونسبة العمال تبلغ نسبة المهن الأخرى في مجالات العلم أو التعليم أو الثقافة، لم يتخلف عن هذه المظاهرات الشعبية الدولية إلا الأحزاب التقليدية التي فوجئت بما يحدث؛ فهي مظاهرة تكسر الحواجز التي جعلت الأحزاب السياسية التقليدية شبه معزولة عن الناس، يجلس على قمَّتها الهرمية فرد واحد أو أفراد قلة يتوارثون السلطة المطلقة (الأبوية الطبقية) في ظل انتخابات شكلية أو ديمقراطية زائفة تحت اسم اليسار أو اليمين، تحمل اسم المعارضة مع أنها جزء من النظام وتكاد لا تفعل شيئًا إلا الكلام تحت قبة البرلمان.
بعد عودتي إلى مصر في منتصف ديسمبر ١٩٩٩ جاءتني الدعوة من النساء العربيات الطالبات عبر شاشة الإنترنت، وقد أصبح لهن قناة خاصة في الويب/الإنترنت تحمل اسم تضامن النساء العربيات في أمريكا الشمالية، أنهن ينظِّمن مؤتمرًا نسائيًّا عربيًّا في أبريل المقبل سنة ٢٠٠٠، يحرصن فيه على دعوة الباحثات والكاتبات العربيات اللائي يعشن في الوطن العربي ويكتبن باللغة العربية، ويعرفن الواقع والحقيقة التي تعيشها النساء في بلادنا أكثر من النساء المستشرقات الأمريكيات، في إحدى هذه الرسائل تقول طالبة أردنية تدرس في سان فرانسيسكو: «كيف يمكن أن تكون مراجعنا عن المرأة العربية هي كتابات الباحثات الأمريكيات؟ لم أسمع عن امرأة عربية أو نساء عربيات أصبحن المرجع لحياة النساء الأمريكيات! أليس هذا هو المنطق الاستشراقي القديم يعود إلينا في ثوب جديد تحت اسم الاستشراق النسائي؟»
لقد شاركت الشابات العربيات في مظاهرات سياتل، وأدركن أن الشعوب المقهورة، نساءً ورجالًا، داخل أمريكا وأوروبا أو خارجهما في القارات الأخرى، قد بدأت تدرك أهمية الاتحاد والتضامن بصرف النظر عن الحدود التي تضعها القلة الحاكمة في كل مكان، بدأت الشعوب تكسر الحواجز المصنوعة بين البشر حسب اللون والعِرْق والجنس والجنسية والعقيدة والإثنية وغيرها، بدأت تدرك أن هذه الفروق بين البشر مصيرها إلى الزوال، وسوف تبقى القيم الإنسانية الكبرى القائمة على العدالة والمساواة والحرية والوعي.
أصبح النضال العالمي أكثر نُضجًا ووعيًا بأهمية التضامن برغم الاختلافات، وفي بلادنا العربية أيضًا هناك حركة نسائية ذات وعي جديد تتجمع وتتضامن وتدرك أن التضامن العربي الشعبي جزء لا يتجزأ من التضامن العالمي الشعبي.
إلا أن النضال من أجل التحرُّر لا بد وأن يبدأ على المستوى المحلي؛ فلا يمكن أن تكون هناك حركة عالمية شعبية دون أن تكون هناك حركة شعبية محلية، على مستوى البلد الواحد، ومن هنا المحاولات المتعددة لتجميع الحركة النسائية في مصر مثلًا داخل الاتحاد النسائي المصري، وهي حركة لا تزال تعمل حتى اليوم رغم العقبات والضربات التي توجهها لها القوى المسيطرة سياسيًّا ودينيًّا.
إن العمل الشعبي أو غير الحكومي في بلادنا العربية يواجه الكثير من الصعاب؛ لأن الأنظمة الحكومية تتخوَّف من أي تنظيم شعبي يمكن أن يمثل قوةً سياسية وفكرية ضاغطة. إن التعددية الفكرية لم تحدث في بلادنا العربية إلا نظريًّا أو في المقالات الصحفية وتصريحات المسئولين، ولا يزال الفكر الأحادي وحكم الفرد الواحد يسيطران في أغلب البلاد العربية. إن أهم ما يلفت النظر في شوارع أي مدينة عربية هو تلك الصور الضخمة المُعلَّقة في كل مكان، فوق كل جدار وشاشة وصحيفة ومجلة، داخل كل مبنى حكومي أو غير حكومي؛ «صورة الملك أو رئيس الدولة»، أشبه ما يكون بالإله أو نصف الإله، ويحكم مدى الحياة ثُمَّ يورِّث أولاده.
وقد يعلن أحد الأنظمة الحاكمة في بلادنا عن الديمقراطية أو شرعية المعارضة، وتنشأ أحزاب المعارضة في أغلب الأحيان بقرار من الملك أو رئيس الدولة، كما حدث في مصر خلال السبعينيات من القرن العشرين تحت حكم السادات، ويصدر القرار الملكي أو الجمهوري بتكوين الأحزاب، وتحديد الحدود المسموح بها للمعارضة، فإن تجاوزت هذه الحدود يتم ضربها وإيداعها السجون، النساء منها والرجال دون تفرقة بين الجنسين.
رغم كل العقبات فإن النساء العربيات يكسرن الحواجز، ويتقدمن على طريق التحرر السياسي والاقتصادي والديني والأخلاقي. خلال شتاء عام ٢٠٠٠ دخلت النساء في الكويت المعركة من أجل الحصول على حق الانتخاب، وفي الجزائر في الأعوام الماضية خرجت النساء في مظاهرات ضد الإرهاب السياسي الذي يتخفَّى تحت عباءة الدين، وفي المملكة العربية السعودية استطاعت بعض النساء الخروج في مظاهرة (في بداية التسعينيات من القرن العشرين) من أجل الحصول على حق قيادة السيارات، وفي السودان خرجت النساء مع الرجال إلى الشوارع يهتفن ضد نظام الحكم الديني قائلات: «كفاية دِين عاوزين تموين.» إن لقمة العيش تأتي قبل الدين في الحياة البشرية في أي مكان وزمان، ولا يمكن أن يفكِّر الإنسان في الدِّين إلا بعد أن يأكل.
في مصر لم تكفَّ النساء من مختلف القطاعات عن النضال من أجل التخلص من بقايا الأغلال، رغم الرِّدة السياسية وتربُّصها بحقوق المرأة وفرض الحجاب أو العزلة عليها، إلا أن أعدادًا تزايدت من الفتيات المصريات والنساء اقتحمن ميادين العمل بأجر، وتعول النساء اليوم أكثر من ٢٥٪ من الأسر في مصر.
إن الاستقلال الاقتصادي عن الأب أو الزوج قد منح المرأة المصرية العاملة بأجر حقوقًا اجتماعية وشخصية أكثر من أختها التي تعيش عالة على أبيها أو زوجها. وانتشرت ظاهرة جديدة بين الشابات المصريات، وهي ظاهرة الإحجام عن الدخول تحت طائلة قانون الزواج الرسمي، الذي يعطي للزوج سلطة مطلقة على زوجته. بدأت أشكال جديدة من الزواج تنتشر وتُقبِل عليها النساء المستقلات اقتصاديًّا أو المتعلمات العاملات بأجر (من ذلك الزواج العرفي، وزواج المسيار وغيرها)، ويمكن للمرأة أن تحافظ على استقلالها الاقتصادي وتنفِق على نفسها وأطفالها، وبالتالي تتحرَّر من قانون الطاعة الذي يُفرض على الزوجات مقابل إنفاق أزواجهن عليهن.
وهناك ظاهرة أخرى انتشرت أيضًا في مصر وعدد من البلاد العربية، ومنها دول الخليج، وهي تزايد أعداد النساء أو الفتيات غير المتزوجات اللائي يعشن حياتهن وحيدات دون رجل، أغلبهن متعلمات يعملن بأجر، وفي غير حاجة إلى زوج يسيطر بسبب الإنفاق، هؤلاء النساء يخترن عدم الزواج بإرادتهن، ولا تحمل الواحدة منهن لقب «عانس» كما كانت تُنعَت المرأة التي يفوتها قطار الزواج.
كانت كلمة «عانس» تنال من كرامة المرأة وشخصيتها وتُعتبر إهانة أو تحقيرًا؛ لأن المرأة العانس لم تكن تنفِق على نفسها، بل تعيش عالة على أبيها حتى يأتيها زوج يتولَّى الإنفاق عليها بدلًا من أبيها؛ لقد فُرض عليها هذا الوضع حين حُرمت من التعليم والعمل خارج البيت بأجر تعول به نفسها، إنها تعمل داخل البيت بدون أجر؛ فهي أجيرة في بيت أبيها ثُمَّ أجيرة في بيت زوجها، وإن لم يتقدَّم أحد للزواج منها تشعر بالنقص، تفقد ثقتها في نفسها وأنوثتها، وتتقبَّل لقب «عانس» بالأسى والألم.
لكن المرأة العربية الواعية المستقلة اقتصاديًّا لم تعد تحمل لقب «عانس»، بل تحمل لقب أستاذة أو قاضية أو دكتورة أو كاتبة أو أديبة أو محامية، أو تاجرة أو عاملة صناعية أو زارعة في أرضها، أو دبلوماسية أو امرأة أعمال أو غير ذلك من المهن التي تعمل بها النساء.
إن التغيُّر الاجتماعي والاقتصادي يؤدي إلى التغير الأخلاقي؛ فلم تَعُد المرأة غير المتزوجة محتقَرة في نظر المجتمع؛ لأنها تعيش بدون رجل.
لم يَعُد الزواج أو الأمومة أو الإنجاب هو الذي يُكسِب المرأة قيمتها واحترامها، بل عملها المنتج في المجتمع، ولم تعد المرأة المنتجة تسعى وراء الزواج من أجل أن يعولها الرجل؛ إنها قادرة على اختيار شريك حياتها لأنها تحبه وهو يحبها ويحترمها كإنسانة مساوية له في جميع الحقوق والواجبات، وهكذا يُؤسَّس الزواج على الحب والعدل والحرية، وليس على مقدَّم المهر والمؤخَّر وقائمة العفش وغيرها من الأمور المالية.
إن الزواج القائم على الفلوس والأموال لا يختلف في جوهره عن البغاء، وقد استطاعت المرأة العربية المستقلة اقتصاديًّا أن تحرِّر الزواج من مفهومه التقليدي الذي ربطه بالمال والإنفاق والمهر والهدايا وغيرها من الشروط المالية التي يفرضها قانون الزواج في بلادنا العربية.
وكم شعرنا نحن النساء المصريات المستقلات اقتصاديًّا بالإهانة، ونحن نتابع الجدل الذي دار في مجلس الشعب وفي الصحف حول مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد؛ لقد اتضح أن المال هو الأساس في العلاقات الزوجية السائدة وليس أي شيء آخر، وأن مشكلة الإرث أو توريث المال أو العقارات هو الأساس في موضوع النَّسب.
يكفي أن أضرب بعض الأمثال من جريدة الأهرام الصادرة بالقاهرة يوم ١١ مارس ٢٠٠٠، ص١٨: في موضوع الخلع نص القانون على: «إذا أقامت الزوجة دعواها وافتدت نفسها وخلعت زوجها بالتنازل عن حقوقها المالية الشرعية، وترد عليه الصداق ومقدم المهر الذي أعطاه لها، كما تتنازل عن نفقتي العِدَّة والمتعة.»
وتحت عنوان: كيف تُردُّ الهدايا التي لم تُكتَب في العَقد، جاء هذا النص: «في ظل القانون الجديد سوف ينتبه الرجال إلى عِدة أمور، أولها ضرورة تسجيل المهر المتفَق عليه فعلًا وحقيقيًّا في وثيقة الزواج، وإذا كانت تلوح في ذهن الزوج مسألة الخلع، أو إذا أراد الاحتياط للحفاظ على حقوقه المالية مستقبلًا، عليه أن يُترجم هذه الحقوق من خلال جميع العقود والتصرفات القانونية؛ بمعنى أنه إذا تم شراء أي شيء لزوجته فعليه تسجيله في عقود توضِّح شراءه بماله الخاص.»
وتحت عنوان: هل نتوقع ارتفاعًا في المهور خلال الفترة المقبلة، جاء هذا النص: «إذا كان القانون سيؤدي إلى تسجيل المهور الحقيقية، ودفعِ الشباب إلى التقليل من النفقات غير المسماة وغير الملموسة، وترجمة معظم الهدايا إلى مهر يُسجَّل في وثيقة الزواج … سيصبح تسجيل ما يتبرع به الزوج لزوجته من حر ماله الخاص في عقود الزواج أمرًا عاديًّا، مثل كتابة القائمة (قائمة العفش) ومؤخر الصَّداق في الماضي.»
هذه هي مؤسسة الزواج القائمة على المال والفلوس في الزواج والطلاق أو الخلع، وهي تكشف بوضوح كيف تُبنى الأسرة «المقدَّسة» على أسس مالية بحتة، وبالتالي تفقد المبادئ الأولى للأخلاق أو الحب أو الاحترام. إن ما يُؤسَّس على الفلوس والمال يذهب ويضيع بالفلوس والمال أيضًا، وهذا يفسِّر لنا مآسي الحياة الزوجية في بلادنا العربية، إلا أن النساء العربيات الجديدات والمستقلات اقتصاديًّا قد أحجمن عن هذا الشكل السائد من الزواج الفاقد لمبادئ الأخلاق، وبدأن يعشن وحيدات دون زوج، أو يفرضن على المجتمع أشكالًا جديدةً من الزواج أو الأسرة القادمة على الحب والصدق أو الشرف الحقيقي. ولا تزال هذه الأشكال الجديدة من الزواج مجهولة للباحثين في العلوم الاجتماعية؛ لأن حركة الحياة الواقعية تسبق البحث العلمي في معظم الأحيان، وتفرض نفسها على النظريات العلمية أو الدينية أو الأخلاقية؛ فالضرورات تتغلب على المحظورات، وإذا تعارضت المصلحة مع النص (المقدَّس) تغلَّبت المصلحة على النص؛ لأن المصلحة متغيرةٌ والنَّصَّ ثابتٌ. هذه مدرسة معروفة في الدين الإسلامي تعتمد على الاجتهاد والعقل، وليس على النقل عن الأسلاف.
إذا تأمَّلنا ما يحدث في العالم خارج بلادنا العربية نجد أن الزواج بشكله التقليدي (الطبقي الأبوي) لم يَعُد صالحًا مع تطور المجتمعات البشرية الجديدة، وأن هناك ضرورة لتغيير هذه القيم الطبقية الأبوية التي أطلقت العِنان لأهواء الرجال وشهواتهم الجنسية؛ لأن تعدد العلاقات الجنسية في حياة الرجال مُباحة في ظل النظام السائد القائم على النَّسب الأبوي. لقد منعت أغلب بلاد العالم (ومنها بلاد إسلامية مثل تونس والمغرب) القانونَ الذي يُبيح تعدُّد الزوجات، إلا أن القيم الأخلاقية والدينية السائدة ظلت تمنح الرجال حُريَّات جنسية تتناقض مع مسئوليتهم تجاه الأسرة أو الرباط الزوجي المقدَّس؛ لهذا بدأت أشكال جديدة من الزواج تنهض في هذه البلاد من أجل تأسيس الأسرة على الحب والإنسانية (وليس الفلوس والمال)، ومن أجل تدريب الرجال على تحمُّل المسئولية الأبوية الجديدة القائمة على الحب والحنان والرعاية، وليس الإنفاق أو الواجب المالي من أجل إعالة الزوجة والأطفال، بل أصبح للأبوة مفهوم إنساني أكبر.
وقد أصبحت الأسرة التقليدية من المشاكل الكبرى التي تطرح نفسها على أولويات الأحزاب السياسية والحكومات ودوائر الفكر الاجتماعي والسياسي في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا، بل وفي بلادنا العربية أيضًا رغم المحظورات الدينية والأخلاقية التقليدية.
من الملاحظ أن الأسرة بشكلها التقليدي أصبحت تتفكك في كثير من بلاد العالم، وبصورة تصل بها إلى حد الزوال؛ لقد ارتفعت معدلات الطلاق في أغلب الدول في العالم مع تفاوت في النسبة من دولة إلى أخرى، وارتفعت نسبة الأسرة ذات العائل الواحد؛ أي التي تعتمد على الأم فقط (عدم وجود الأب) أو على الأب فقط (مع وجود الأم)، كما ارتفعت أيضًا نسبة الأسر التي ترعى أطفالًا تم إنجابهم خارج نطاق الشكل التقليدي للزواج.
مثلًا في بريطانيا عام ١٩٩٥ بلغت نسبة الأطفال الذين وُلدوا خارج الزواج ٣٥٪ من إجمالي نسبة المواليد، وترتفع النسبة تصل إلى ٣٨٪ في فرنسا، وإلى ٤٩٪ في الدانمارك، وإلى ٥١٪ في السويد، وهذه النِّسب في تزايد مستمر إلى حد أن الأسرة التقليدية الأبوية لم تَعُد هي القاعدة في هذه المجتمعات، ولم يَعُد الأطفال يحملون اسم الأب فقط، بل أصبح لاسم الأم القيمة الأخلاقية والاجتماعية التي يتمتع بها اسم الأب.
كان هذا التغيُّر الاجتماعي والأخلاقي ضروريًّا لحماية الأطفال من السلطة الأبوية المطلقة، التي أدَّت إلى استهتار أغلب الرجال بالأسرة، وعدم تحمُّل الرجل منهم مسئولية الأبوة الحقيقية الخالية من التسلط والأنانية، وقد أدى ذلك إلى كثير من المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها أغلب المجتمعات في العالم، مثل انتشار الجرائم الأخلاقية، واغتصاب البنات والأولاد، والعنف ضد النساء والفقراء، وانتهاك حقوق الأطفال والمراهقين، وانتشار المخدرات بينهم.
تحاول بعض القوى المحافِظة والتقليدية إلى اعتبار المرأة (وليس الرجل) مسئولة عن هذه المشاكل الاجتماعية والأخلاقية، وليس ذلك إلا بقايا القيم الطبقية الأبوية المتميزة ضد النساء، والتي تعاقب الضحية أو تلومها، على حين تطلق سراح المذنب؛ فالرجل الذي يُطلِّق زوجته (للزواج بأخرى) ليس مُخطئًا، ولكن المخطئة هي زوجته (لأنها أهملت زينتها مثلًا، فانجذب زوجها إلى امرأة أخرى)، وإذا اغتصب رجلٌ امرأة فهي المسئولة وليس هو (لأنها خرجت من بيتها مثلًا، وكان يجب ألا تخرج وتلزم مكانها الطبيعي التي خُلِقَت من أجله وهو البيت).
إلا أن تزايد قوة النساء الاجتماعية والاقتصادية والثقافية قد أدَّت إلى مقاومة هذه الاتجاهات وكشف الحقائق، ونتج عن ذلك بعض التغييرات القانونية لصالح النساء، ومنها تغيير البند ٢٩١ في قانون العقوبات المصري الذي كان يسقط التهمة عن الرجل الذي يغتصب فتاة إن تزوَّجها، كان هذا البند المتناقض مع أبسط مبادئ العدل أو المنطق يكافِئ الرجل الذي يعترف بجريمة الاغتصاب بالزواج من ضحيته، كانت الفتاة تتعرَّض لجريمتين في آنٍ واحد: الاغتصاب ثُمَّ الزواج ممن اغتصبها. إلا أن هذا التغيير ليس إلا قطرة في بحر القوانين الطبقية الأبوية التي لا تزال تحكمنا وتعرِّض النساء (خاصة الفقيرات منهن اللائي يعشن عالة على الأب أو الزوج) إلى أنواعٍ لا حصر لها من المشاكل والمآسي.
وقد بدأت النساء في مصر وبلاد عربية أخرى المطالبةَ بتغيير القوانين التي تحكم حياة النساء تغييرًا جذريًّا، ومن تلك المطالب أن يصبح قانون الزواج مدنيًّا وليس دينيًّا. لقد أصبحت جميع القوانين في بلادنا مدنية إلا قانون الأحوال الشخصية أو قانون الزواج والطلاق وتعدُّد الزوجات، كأنما حياة النساء الشخصية هي فقط التي يجب أن تخضع لأحكام الشريعة والدين.
رغم الخطاب الديني المستنير في بلادنا العربية (مثل خطاب الشيخ محمد عبده في بداية القرن العشرين)، والذي استجاب للتطوُّر السياسي والاجتماعي، واجتهد لإعادة تفسير النصوص الدينية، وأعطى النساء بعض حقوقهن الجزئية (مثل حق التعليم والعمل بأجر)، إلا أن هذا الخطاب ظلَّ أسيرًا للإطار القانوني المزدوج، والذي يرى أن علاقة الرجل بالدولة يمكن أن تخضع للقانون الوضعي، أمَّا العلاقة بين المرأة والرجل فيجب أن تخضع للقانون الإلهي.
يلتقي الشرق والغرب، والإسلام والمسيحية واليهودية، في إصدار القوانين والقيم الأخلاقية والسياسية التي تجعل مفهوم الحرية أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان قاصرة على الرجال وعلاقتهم بالدولة والحكم، أمَّا الأسرة التي هي نواة الدولة فإنها تقوم على دكتاتورية الرجل وسلْب المرأةِ حقوقَها الدستورية والإنسانية.
يشترك في هذا الموقف من المرأة أغلبُ التيارات السياسية والدينية السائدة، منها التيار السلفي الديني، والتيار الليبرالي الرأسمالي، والتيار الاشتراكي أو الماركسي أو غيرهم من الفرق الموجودة في الساحة السياسية من أحزاب الحكومة أو أحزاب المعارضة؛ إنهم ينطلقون من فكرة واحدة تعجز عن رؤية المرأة كإنسانة مساوية للرجل في جميع المجالات العامة والخاصة، يرجع ذلك إلى أسباب متعددة، منها تغلغُل القيم الدينية والأخلاقية المزدوجة داخل القرى والمجتمع، واستحالة الفصل بين ما يُسَمَّى السياسة وما يُسَمَّى الدين في الحياة الواقعية.
- (١)
أن الحاكم في الدولة لا يمكن أن يتجرَّد من دينه.
- (٢)
أن الجسم تسكنه الروح، فإذا سيطر الحاكم على أجسام النساء، وسيطر رجال الدين على أرواحهم، فكيف يمكن الفصل بين الدين والدولة.
يعبِّر هذا الرأي عن جزء من الحقيقة؛ لأن الجسم تسكنه الروح فعلًا، ولا يمكن فصل الجسم عن الروح، وبالتالي لا يمكن فصلُ الدين عن الدولة، بمعنًى آخَر: إن الدين هو السياسة والسياسة هي الدين، أو بعبارة أوضح: إن الدين ليس إلا أيدولوجيا سياسةٍ تنظِّم للناس (رجالًا ونساءً) حياتهم الخاصة والعامة. إلا أن الحياة العامة للرجال خرجت إلى ما نسميه «السياسة»، وأصبحت القوانين العامة السياسيةُ والاقتصاديةُ وضعيةً أو مدنيةً.
والسؤال الذي يَرِد الآن هو: لماذا لم تصبح قوانين الزواج والطلاق مدنيةً مثل غيرها من القوانين في بلادنا؟ والرد هو: لأن هذه القوانين تضمن سيطرة الرجل على النساء، ولأن النساء لم يستطعن حتى اليوم تشكيل قوة سياسة منظمة قادرة على تغيير القوانين لصالحها، إن أي فئة مقهورة من البشر لم تستطع أن تغيِّر القوانين لصالحها إلا بعد أن شكَّلَت قوة سياسية واجتماعية قادرة على الضغط والتغيير.
ومن هنا البطءُ الذي يتصف به أي تغيير لصالح المرأة في بلادنا، ومن هنا أيضًا تجاهُل جهود النساء في تاريخنا العربي وكتاباتهن التحريرية، والاهتمام بجهود الرجال فحسب، وقد اشتهر في التاريخ المصري قاسم أمين مثلًا، رغم أن نساءً معاصراتٍ له كانت لهن إسهامات فكرية أكثر تقدُّمًا، منهن مَلك حفني ناصف، وكانت تكتب باسم باحثة البادية (١٨٨٦–١٩١٨)، وقد شاركت بقلمها القوي في الكتابة لتحرير النساء، وكانت أفكارها أكثر تقدُّمًا من الطهطاوي وقاسم أمين؛ كانت دعوة الطهطاوي في نظرها إصلاحًا فحسب، أمَّا قاسم أمين فقد اعتبر أفكار الطهطاوي تحريرًا.
- (١)
أصبحت قضية تحرير المرأة من القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة محليًّا ودوليًّا، لم تَعُد شائكة أو محرَّمة كما كانت بالنسبة لهؤلاء النساء اللائي دفعن ثمنًا غاليًا من أجل قضية المرأة، بل ربما تكون من القضايا ذات البريق (الأدبي أو المادي)، فلماذا لا يركب هذه الموجة الصاعدة بعضٌ من الرجال الذين تعوَّدوا ركوب الموجات الصاعدة؟
- (٢)
من السهل جِدًّا طردُ المرأة من أي مجال، وإن كان المجال الذي يخصُّها قبل غيرها؛ حيث إن الرجل لا يزال هو الأقوى سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ويمكنه أن يستولي على قضية المرأة أيضًا ضمن ما يستولي عليه من أشياءَ أخرى.
- (٣)
من السهل الاعتراف في قيادة الرجال للمرأة حتى في المجالات التي تخصُّها؛ لذلك يريدون أن يظل قاسم أمين أو الطهطاوي قائدًا لحركة تحرير المرأة حتى يأتي رجل آخر ليحل محله، ويتوارث التركة رجل وراء رجل.
- (٤)
يسهُل على بعض الرجال منافسةُ المرأة فيما يخص قضيتها عن أن ينافسوا زملاءهم الذكور في القضايا السياسية الأكثر أهمية (في نظرهم).
- (٥)
تجميد الحركة النسائية أو الفكر النسائي عند قاسم أمين أو الطهطاوي ليس فقط تجريد النساء في هذا المجال، بل محاولة لإيقاف مسيرة الحركة النسائية وفكرها المتقدم.
- (٦)
يحاول هؤلاء الرجال أن يكونوا هم المتحدثين باسم المرأة (كالزوج الذي يتحدث نيابةً عن زوجته)؛ إنهم يتصورون أنهم أقدر منها في التعبير عن نفسها.
- (٧)
لا يريد هؤلاء الرجال التنازل عن مكانتهم في المجتمع أو على الأقل بالنسبة للنساء. إنَّ تصدِّي النساء لقضية تحرير المرأة يهدد مصالحهم ومكانتهم؛ لأنَّ معنى ذلك أنَّها ستأخذ المبادرة في جوانبَ كثيرة من الحياة.
من الناحية العملية، إن تحرير النساء لن يتحقق أساسًا إلا بجهود النساء أنفسهن، وإن ساعدهن بعض الرجال؛ فإن وجود النساء ضروري كقوى أساسية فكرية وسياسية واجتماعية.
ومن المعروف أن فئة مقهورة في المجتمع لن يمكنها التحرُّر إلا بجهودها.
إن المقياس الأوَّل لمدى تقدُّم أو تخلُّف مسيرة المرأة هو مدى مشاركة النساء في هذه المسيرة لتحرير أنفسهن، ومدى إدراكهن لأهمية هذه المشاركة، يزداد هذا الإدراك بازدياد خروج النساء للتعليم والعمل بأجر، والمشاركة في المهن المختلفة، والنشاط السياسي والاقتصادي والثقافي، وتحمُّل المسئوليات في المستويات المختلفة، وممارسة اتخاذ القرارات في الدولة والعائلة، والمشاركة في الفكر والأدب والكتابة والإعلام والبحوث العلمية والاجتماعية وغيرها.
هناك جوانبُ عديدة ومؤشرات متنوعة لمدى تقدُّم أو تخلُّف مسيرة المرأة التحريرية، وليس فقط التمثيل النيابي. لا شك أن عدد النساء في البرلمان أو المجالس النيابية أحد المؤشرات، إلا أنه قد يكون مُضلِّلًا في كثير من الأحيان؛ فقد تدخل البرلمان نساء لا علاقة لهن بقضية تحرير المرأة، بل قد يعملن ضدها، كما هو يحدث في كثير من برلمانات العالم، بل قد تصبح المرأة رئيسة لحزب سياسي أو رئيسة الوزراء، وتُصدِر قرارات ضد مصالح النساء، كما حدث مع مارجريت تاتشر في إنجلترا؛ إذ فقدت النساء في عهدها الكثير من حقوقهن المكتسبة عبر السنين.
وكم صمتت عضوات البرلمان في بلادنا عند مناقشة القوانين التي تهم المرأة، على حين ارتفعت أصوات النساء خارج البرلمان في الجمعيات النسائية الأهلية أو الشعبية.
ولا تزال قضية تحرير المرأة في حاجة إلى مزيد من الفَهم، ولا تزال الحركة النسائية العربية في حاجة إلى الكشف عن جوانبها المتعددة في الماضي والحاضر على السواء.
إن مستقبل المرأة العربية في يد النساء العربيات أنفسهن، وقد ساعدت الثورة التكنولوجية في مجال المعلومات على تسهيل الاتصال بين الناس (منهم النساء) عبر البريد الإلكتروني وشبكات الإنترنت؛ مثلًا لقد دخلت شبكة الإنترنت إلى المملكة العربية السعودية في بداية عام ١٩٩٩، وأصبحت النساء السعوديات اليوم يمثلن ٣ / ٢ يستخدمون الإنترنت في أعمالهن وحياتهن العملية، وفي السعودية اليوم أكثر من ثلاثة آلاف امرأة يقمن بإدارة أعمالهن الاقتصادية من خلال إنترنت، وينطلقن خارج حدود بلادهن دون أن يتحرَّكن من بيوتهن. ربما تنحصر هذه الأنشطة على الأعمال التجارية وكسب المال، أو مجالات السياحة والفندقة وعروض الأزياء وغيرها مما يدخل في نطاق القطاع الخاص بنساء الأعمال الخاضع للسوق الحرة دوليًّا ومحليًّا، والقيم الطبقية الأبوية، إلا أنها مجرَّد البداية أو حركة نحو انعتاق النساء السعوديات من تحت خيمة العباءة والعبودية.
هذه الظاهرة الجديدة بدأت تنتشر في بلادنا العربية، وبدأت نساء الأعمال ينافسن رجال الأعمال في النشاط والمكاسب، وهناك ظواهر أخرى متعددة أكثر قدرةً على تحرير عقل المرأة العربية أو رفع الحجاب عن عقول النساء في بلادنا. تزايد عدد الكاتبات وتزايدت شجاعتهن في التصدي للقيم الطبقية الأبوية، أغلبهن من الشابات المستقلات اقتصاديًّا، ويشعرن بسعادة تحقيق الذات من خلال إبداعهن وليس من خلال الرجال. ونقرأ هذه العبارة لواحدة من هؤلاء الكاتبات: «يشكل نموذج المرأة بدون رجل أو بدون زوج أكبر تحدٍّ للثقافة الذكورية، وكلما كان اختيار المرأة لهذا النموذج نابعًا من إرادتها الحرة وقناعتها الشخصية وليس مفروضًا عليها، زاد اضطهاد المجتمع الذكوري لها» (من مقال د. منى حلمي، مجلة روز اليوسف، ٤ مارس ٢٠٠٠).
وتعتبر خطوة إلى الأمام إباحة الإجهاض في مصر لحالات الاغتصاب، وكان ذلك ممنوعًا حتى العام الماضي، وبدأت أفكار جديدة تنتشر عن مصير الأطفال الذين يُولَدون خارج الزواج، أو ما يُطلَق عليهم في بلادنا «أطفال السفاح» الذين يأتون إلى العالم بغير إرادتهم نتيجة عمليات الاغتصاب بالعنف، أو بالخداع تحت اسم الحب، وغيرها من الجرائم التي يقترفها الرجال الكبار ويدفع ثمنها الأطفال وأمهاتهن البريئات في معظم الأحيان.
بالنسبة لثمرة هذه العلاقة المحرمة، فإنه (أي الطفل ابن السفاح) لا يَثْبُت نَسبُه من أبيه لأنه وليد علاقة غير شرعية؛ فإنَّ نَسبَه من أمه يثبت في جميع الأحوال؛ إذ هي التي احتوته بين جنباتها وحملته في أحشائها طيلة فترة الحمل، ومِنْ ثَمَّ فإن نسبه منها ثابت على وجه قاطع ويقيني؛ لذلك جاء قانون المواريث ليقرر في المادة «٤٧» منه أحقية ابن الزنا في أن يرث في تركة أمه لتحقُّقَ سبب الإرث بينهما، وهو الأمومة.
هكذا يعترف قانون المواريث في مصر بحق الأم في أن تورِّث طفلها حين لا يكون الأب معروفًا بصفة يقينية، وقد لعبت قوانين الزواج والطلاق السائدة في بلادنا دورًا كبيرًا في اختلاط الأنساب أو عدم معرفة الأب الحقيقي للمولود أو المولودة. تم اكتشاف هذا الأمر في مصر مما دعا إلى تغيير قانون الأحوال الشخصية بقانون جديد يتلافى إلى حدٍّ ما الثغرات في القانون التي كانت تسمح للزوج أن يطلِّق زوجته ويعيدها إليه دون أن تعلم، وحين تتزوج هذه المطلَّقة رجلًا آخَر تُفاجأ بظهور زوجها السابق، وتصبح في نظر القانون زوجةً تجمع بين زوجين في آنٍ واحد.
عدم الإخلال بحق الزوجة في إثبات مراجعة مطلِّقها لها بجميع طرق الإثبات، ولا يُقبَل عند الإنكار ادِّعاء الزوج مراجعة مطلَّقته ما لم يُعلنها بهذه المراجعة بورقة رسمية قبل انقضاء ستين يومًا لمن تحيض (لغة القانون وليست لغتي)، وتسعين يومًا لمن تكون عِدَّتها بالأشهر من تاريخ توثيق طلاقه لها، وذلك ما لم تكن حاملًا أو تقر بعدم انقضاء عِدَّتها حتى إعلانها بالمراجعة.
وهنا يأتي السؤال عن مفهوم الرجعة؛ فالرجعة في قانون الزواج الشرعي أو الديني هي أن يكون للزوج الحق في إعادة زوجته إلى عصمته ومعاشرتها لها ثانيًا بعد أن يكون قد ألقى عليها يمين الطلاق؛ تعني أن الرجل يحق له أن يُطلِّق زوجته بمجرد أن ينطق ثلاثًا: «أنت طالق.» ويكرِّرها ثلاث مرات. وأصبح الرجال بذلك الحق يُطلِّقون زوجاتهم شفهيًّا في حضور الزوجة أو في غيابها، وتصبح المرأة مطلَّقة في نظر الدين والقانون، ويمكن لزوجها أن يردَّها إليه شفهيًّا أيضًا خلال الأشهر التي يسمونها مدة العدة، وهي المدة اللازمة للتأكد من وجود جنين في بطن الأم يمكن أن يُنسَب لأبيه ويصبح ضمن ورثته.
ومن هنا أصبح الرجال يتلاعبون بزوجاتهم، وقد تعيش الزوجة وتموت وهي لا تعرف أن زوجها قد تزوَّج عليها امرأة أخرى وأنجب منها أطفالًا يرثون تركة أبيهم، وقد يعرف هذه الحقيقة جميع الناس إلا الزوجة المخدوعة. ثُمَّ تلك الحالات الأخرى التي تصبح فيها المرأة مطلَّقة ويصبح من حقها الزواج برجل آخَر بعد انقضاء أشهر العِدَّة، لكنها تُفاجأ بعد زواجها الثاني بالزوج الأوَّل الذي يُعلِن أنه أعادها إليه دون أن تعلم، وتصبح زوجةً تجمع بين زوجين يعاقبها القانون والمجتمع ويعاقب أيضًا الجنين في بطنها من الزوج الثاني ويُعتبَر «ابن زنا».
يمكن أن نتصور حجم المشاكل والمآسي التي عاشتها نساء وأطفال بسبب هذا الحق الشفهي المطلق الذي يُعطى للرجال فيعبثون بالزوجات والأمهات والأطفال تحت اسم القانون والدين، خاصةً النساء الفقيرات غير القادرات على قراءة الصحف العادية، فما بال قراءة القانون أو فهْمه، ويقع هؤلاء النساء فريسةً للمحامين بعد أن وقعوا فريسة لأزواجهن، بل إن النساء المتعلمات أيضًا يعجزن عن فهْم حقوقهن القانونية، خاصةً وتلك التي تخص الزواج أو الطلاق أو النفقة أو العِدَّة أو المتعة أو الرجعة وغيرها. يزيد من تعقيد قانون الأحوال الشخصية ارتباطه بالدين أو الشرعية التي تختلف من دولة إلى دولة، ومن مذهب إلى مذهب، مثلًا في مصر يتبع القانون مذهب الحنفية، ووفقًا لهذا المذهب فإن الرجعة مثلًا هي «استدامةُ مِلْكِ النكاح بعد أن كان الطلاق قد حدَّده بانتهاء العِدَّة، وأنها ليست إنشاء لعَقْد زواج، بل امتداد لزوجية قائمة، وتكون بالقول أو بالفعل، وأنها حق ثابت مقرَّر للزوج وحده دون سواه ولا يملك إسقاطها، ولا يُشترط لصحتها رضاء الزوجة بها، وإن بدا من الزوجة ما يفيد الرجعة فلا تكون ثمة مراجعة لأنها حق للزوج لا لها، وأن مجرد عودة الزوجة إلى منزل الزوجية في فترة العِدَّة دون اعتراض من زوجها لا يُعتبَر رجعة؛ لأن حُكم الطلاق الرجعي أنه لا يؤثر على قيام الزوجية في العِدَّة، فيحق للزوجة البقاء في البيت الذي كانت تساكن فيه زوجها قبل الطلاق» (طعن نقض رقم ١٧ لسنة ٤٣ قضائية أحوال شخصية). ومن هنا فلا يسوغ القول بأي حال من الأحوال بتنفيذ حق الزوج في مراجعته لزوجته من طلاقها الرجعي بالقول أو بالفعل ما دامت في فترة العِدَّة، كما لا يجوز إسقاط هذا الحق عنه أو جعله منوطًا بسلوك من جانب الزوجة أو متوقِّفًا على قبول أو رضاء منها، لما هو ثابت شرعًا من أن الطلاق الرجعي لا يغيِّر شيئًا من أحكام الزوجية؛ فهو لا يزيل المِلك ولا يرفع الحِلَّ، وليس له من الأثر إلا نقص عدد الطلقات، ولا تزول حقوق الزوج إلا بانقضاء العِدَّة (طعن نقض ٢١٤٩ لسنة ٥٣ قضائية أحوال شخصية). إن الرجعة لها ميقات محدَّد يتعيَّن أن تتم فيه حتى تقع صحيحة وشرعية ناتجة لآثارها في استمرار المعاشرة الزوجية بين الزوجين، وأن المقصود بهذا الميعاد هو فترة العِدَّة التي تقضيها الزوجة بعد وقوع الطلاق الرجعي؛ إذ المقرر في أحكام الشريعة الإسلامية أن المرأة إذا كانت من ذوات الحيض فعِدَّتها ثلاث حيضات كوامل، أمَّا إذا كانت لا تحيض فعِدَّتها ثلاثة أشهر؛ حيث قال الله في كتابه: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وقال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُر، وهو ما التزم به المشرِّع الوضعي في قانون الأحوال الشخصية الجديد رقم ١ لسنة ٢٠٠٠؛ حيث نصَّت المادة «٢٢» منه على حق الزوج في مراجعة مطلَّقته، وأنه عند الإنكار فلا يُقبل من الزوج الأداء بحصول هذه المراجعة ما لم يُعلِن زوجته بورقة رسمية بذلك قبل انقضاء ستين يومًا لمن تحيض وتسعين يومًا لمن عِدَّتها بالأشهر من تاريخ توثيق طلاقه لها، ومؤدَّى ذلك أنه ولئن كان حق الزوج في مراجعة مطلَّقته لا يَرِد عليه أي قيد طالما قد تم في خلال فترة العدة، إلا أنه عند الإنكار فإن الزوج لا يُقبَل منه الادِّعاء بحصول هذه المراجعة إلا إذا كان قد التزم الإجراءات والمواعيد القانونية التي أشارت إليها المادة سالفة الذكر، ويُلاحَظ أنه يُستثنى من ذلك على نحو ما قررته المادة المذكورة حالة ما إذا كانت المطلق حاملًا، باعتبار أن عِدَّة الحامل تنقضي بوضعها حملها لبراءة الرحم.
«ولما قد يؤدي إليه في بعض الأحيان من عدم صحة الرجعة وحدوثها على خلاف أحكام الشريعة الإسلامية، ذلك أن المادة «٢٢» سالفة الذكر قد جعلت حق الزوج في مراجعة زوجته مُقيَّدًا بأن يتم خلال ستين يومًا لمن تحيض وتسعين يومًا لمن لا تحيض من تاريخ توثيق الطلاق. والمادة الخامسة مكرر من قانون الأحوال الشخصية رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ قد أوجبت على المطلِّق أن يوثِّق إشهار طلاقه لدى الموثِّق المختص خلال ثلاثين يومًا من إيقاع الطلاق، ومِنْ ثَمَّ فلو افترضنا أن الزوج قد ألقى على زوجته بيمين الطلاق أمام أسرتها يوم «١ / ٣»، ثُمَّ قام بتوثيق هذا الطلاق يوم «٣١ / ٣»؛ أي خلال ثلاثين يومًا، فإن المدة المقررة لحدوث الرجعة في هذه الحالة تكون «٣٠ + ٦٠ = ٩٠ يومًا»، وذلك بالنسبة لمن تحيض، وتكون «٣٠ + ٩٠ = ١٢٠ يومًا» لمن لا تحيض، فإذا جاء الزوج واستعمل حقه في الرَّجْعة في اليوم التسعين مثلًا أو العشرين بعد المائة؛ فقد تكون الحيضات الثلاث بالنسبة لمن تحيض قد اكتملت وانقضت تبعًا لذلك فترةُ عِدَّتها التي يحق للزوج أن يراجعها فيها، وتكون الأشهر الثلاث قد انقضت فعلًا بالنسبة لمن تحيض، وكل أولئك يستوجب احتساب ميعاد الرجعة من تاريخ إيقاع الطلاق، وليس من تاريخ توثيق الطلاق حتى تصادف الرَّجْعة محلَّها من عِدَّة الزوجة، فتكون رَجْعة شرعية صحيحة تنتج أثرها الكامل في استمرار المعاشرة الزوجية بين الزوجين، وذلك مع إعطاء الزوجة الحق في إثبات انقضاء عِدَّتها إذا كانت المدة التي مضت على الطلاق تحمل انتهاء العدة.»
مما سبق ندرك التعقيد الشديد أو الغموض البيِّن الذي يجعل تنفيذ مثل هذه الأحكام الشرعية أمرًا شبه مستحيل أو على الأقل منافيًا للدقة أو العدل. وكم راحت النساء والأطفال ضحايا مثل هذه الأحكام المعقَّدة، والتي يختلف عليها المحامون والقضاة أنفسهم، لكلٍّ منهم مذهب أو رأي في تفسير الشريعة.
وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا نفصل الشريعة أو الدين عن قانون الأحوال الشخصية مثل غيرها من القوانين حفاظًا على سلامة الأسرة وحقوق النساء والأطفال؟
إن تفكك الأسرة في بلادنا أو عدم استقرارها هو نتاج هذا القانون الذي يتخبط بين نصوص الشريعة متعددة المعاني والتفسيرات وبين الحياة الواقعية لملايين البشر؛ لهذا السبب تغيَّرت قوانين الزواج والطلاق في معظم بلاد العالم، وأصبحت قوانين وضعية تحفظ الحقوق الإنسانية لجميع أفراد الأسرة النساء والأطفال والرجال دون تفرقة. ولأن الأمومة مؤكَّدة ويقينية أكثر من الأبوة أصبح اسم الأم له الأهمية والشرف ذاته الذي يحظى به اسم الأب. ولأن الأم أصبحت تعمل بأجر وتعول الأسرة كما يعولها الأب تغيَّرت قوانين الوراثة في معظم بلاد العالم، وأصبح نصيب البنت والمرأة في الميراث مثل نصيب الولد والرجل، وحدث ذلك في بلاد إسلامية أيضًا إلا أن هذه التغييرات لم تحدث بعدُ في بلادنا العربية (إلا في بلد أو بلدين)، لكنها سوف تحدث في المستقبل القريب؛ ذلك أن التغيرات الاجتماعية أو الاقتصادية تفرض التغيرات القانونية والأخلاقية والدينية. وقد أصبح للنساء العربيات صوت أعلى في المجالات السياسية والثقافية، مما فرض على الحكومات العربية أن تسعى إلى تغيير القوانين لرفع الظلم عنهن. وفي مصر بدأت الحكومة في الاهتمام بقضايا المرأة، وصدر قرار جمهوري خلال شتاء ٢٠٠٠ بإنشاء المجلس القومي للمرأة، وهذه خطوة نحو التقدُّم، إلا أن التحرير الحقيقي للنساء لا يتحقق إلا بالجهود الشعبية النسائية وليس بالقرارات العلوية من السلطة الحاكمة؛ فالسلطة بطبيعتها (في جميع دول العالم) تميل إلى المحافظة على النظام القائم، وهو النظام الطبقي الأبوي (الرأسمالي أو غير الرأسمالي)، وهو النظام الذي يفرِّق بين البشر على أساس الطبقة والجنس والدين واللون والعِرق وغيرها، فكيف يمكن للنساء أن يتحررن في ظل هذا النظام؟!
إن مسيرة النساء العربيات نحو التحرُّر لا تختلف عن مسيرتها في بلاد أخرى، ويخضع العالم كله لنظام دولي يقوم على التفرقة الجنسية والعنصرية، تحكمه القلة التي تملك السلاح والتجارة والأموال، وتصارع فيه النساء والفقراء من أجل الحصول على حقوقهن الإنسانية الأولى بعيدًا عن المشكلات الدينية أو الفتن الطائفية والعقائدية التي انتشرت في بلاد متعددة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، والتي لا يروح ضحيتها إلا النساء والفقراء وأطفالهم.
إن تاريخ البشرية نساءً ورجالًا يسير إلى الأمام رغم الانتكاسات في مراحل الهزيمة والرِّدَّة؛ لهذا أنظر إلى الحياة بتفاؤل ولا أفقد الأمل، وفي بداية التسعينيات من القرن العشرين اضطررت إلى أن أعيش المنفى خارج الوطن لأكثر من خمس سنوات. لقد دخل اسمي «قائمة الموت» حينئذٍ ضمن عدد من الأدباء العرب الذين كتبوا ضد الرِّدة السياسية والدينية، وقد راح ضحية هذه الرِّدة عدد من أرواح النساء والرجال في بلادنا العربية من المشرق والمغرب، ولا تزال الحملة الرجعية ضد العقول المستنيرة مستمرة، إلا أنها تنحسر تدريجيًّا وتفقد قوَّتها السابقة مع يقظة الشعوب العربية واستعادة النساء والشباب لحركتهم السياسية والفكرية.
في مصر بدأت منذ العام الماضي (١٩٩٩) الجهود لتأسيس الاتحاد النسائي المصري بمبادرة النساء أنفسهن، من أجل توحيد القوى النسائية التحريرية، وبدأ أيضًا تكوين جمعية النهضة الفكرية للمرأة المصرية، والتي تضم أعدادًا من الشابات والشباب المستنير، أصبح الشباب في بلادنا أكثر وعيًا بأهمية تحرير المرأة؛ فهي نصف المجتمع، ولا يمكن لمجتمع أن ينهض فكريًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو ثقافيًّا دون النساء.
ربما تتلقى هذه الجهود الجماعية الجديدة ضربات من السلطة الحاكمة (كما حدث بالنسبة لجهود سابقة)، إلا أن ميزة الجهود الشعبية النابعة من الناس أنفسهم أنها لا تموت، وتظل ظاهرة أو كامنة حتى تتحقق الحرية والعدالة للمقهورين والمقهورات تحت اسم الدين أو الأخلاق أو السياسة.