مدينة العالم

بغداد في النصف الأول من القرن الثالث الهجري: أكثر من ١٠٠٠ ورَّاق؛ كل منهم يكتب في يوم عملٍ واحد ما بين ٥٠ و١٠٠ ورقة. تُنسخ مئات من الكتب، بعضها حديثٌ يشهد «طبعته» الأولى. وضعٌ مثالي لكي يبدأ الجدل.

يتحول حي الورَّاقين إلى حلقات يومية من الدراسة والجدل، ويصبح الأكثرُ إثارةً من بين الموضوعات حدثًا ثقافيًّا يصل أثره إلى القصر، وكان أكثرها إلهامًا وجدلًا هو القرآن الكريم — أكثر النصوص المقدسة برهنةً على وجود الله، وحوله يتردد الحوار بين تقديس النص الختامي كونه «المانفيستو» الإلهي الأخير أمام العالم، وبين التجديف ومراجعة اللاهوت، وتحويل ذات الله المتنزِّل في الجدل إلى «كائن» أنثروبومورفي، وإحالة عائلة الأنبياء المقدسة والتطويب الفقهي ومفهوم العبادة المفارق، إلى محطات في الحياة الثقافية اليومية لمدينة العالم: بغداد.

كان أبرز أدوات هذا الجدل ما يقوله المتجادلون فعلًا، أو يُتَقَوَّل به على ألسنتهم، حول العظات الدينية؛ أهي تذكير ينفع المؤمنين، أم هي مكررة وجب رفضها؟ ولكن رَفْضها كان أيضًا إعلانَ كفرٍ يُجَازَى صاحبه بسلطة الفقه وحكم الفقهاء.

الفِرَق تعقد مجالسها ومناظراتها، بيئة جدلية تبلغ أَوْجها بظهور الفكرة ونقيضها في آن واحد، ربما من خَصمين، وربما من الفم ذاته. لا حدود لما يمكن للعقل أن يستشرفه. تتحول تلك اللحظة البغدادية إلى منطقة وسطى بين الثنائيات السياميَّة الكبرى: الإيمان والكفر، الله والشيطان، النبي والدجال، الثواب والعقاب، الجنة والنار، الدين والدنيا … إلخ. منطقة رَمادية بين الوحي والوعي الزائف، بين الوعي والوحي الزائف.

  • صورة الكون: بغداد مركز العالم، سُرَّة الأرض، الشمس والقمر والأجرام السماوية تسعى في مدارات حولها. هذا هو التخييل القَرْوَسَطي الذي صوَّر علاقة الإنسان بالمحيط.
  • غائية العلامات: تبرز على نحو شبه دوري علامة من علامات الساعة، لكنها تتراجع. تحيينٌ مشكوك فيه، ولكن الناس سرعان ما يهتمون بعلامة جديدة، أو شكل جديد لعلامة مذكورة، لا يمكن تقسُّط الغاية القصوى إلا برموز الله في الدنيا؛ لا شيء إلا ويتصل بسيمياء القيامة.
  • غائية التلفظ: اللغة استدراجُ حَدَثٍ، انتظارُ واقعةٍ، منطق الإنسان مُوكَل به البلاء، كما في الأثر، ومنطق الله مبدأ كل خلق.

في رواق بالقرب من الورَّاقين تنعقد حلَقات المناظرة، يقتطع البغداديون جزءًا من وقتهم ليشاركوا أو يسمعوا، وكان بعضهم من أهل الرصد.

الأحداث الكبرى لا تزال حية بالرغم من مضي أكثر من مائتي سنة. رُغاء الجمل يدوِّي في الأرجاء مع الغروب، لا يسمعه إلا الشيعة المتأهبون والخليفة المتوفز . الملامحُ لا تزال تصطف عنوةً بين كلبيين (قحطانيين) وقيسيين (عدنانيين)، والإقطاع السياسي والاجتماعي راسخ في ترائب الدولة، وأجياله الناشئة تواصل تقليدًا راسخًا، مستعدة دائمًا للمنافحة عن امتيازاتها. البلاط يكرِّس الاستبداد، والفقهاء يؤدلجون الحق الإلهي في الحكم، ويجعلونه شرعًا. بينما تكتظ الأرجاء بدعوات الخصوم والفرقاء، وجميعهم يتحصنون وراء مبدأ التكفير وعُدَّته، ويدَّعون اليقين:
  • دعاة الخوارج ومفهوم الإيمان والعمل.

  • أنصار الكيسانية ونظرية العوْد الدنيوي.

  • الفقه الذي بدأ عقلانيًّا ينتهي سكولائيًّا ويغلق منظومته.

  • الفلسفة تأخذ طريقها إلى موضوعات الشريعة والتشريع.

  • الشعراء يكتشفون أن النص لم يعد يستوعب الحياة.

  • مدرسة «أهل الرأي» تُطوِّر تقنياتها، وبعد أن كانت دروس واصل بن عطاء مثالًا لمنهج عقلي بدئي، تتحول إلى أول اتجاه فكري عربي لا يرى غضاضةً معرفية أو كفرًا في حسم الجدل لصالح العقل.

  • مدرسة «أهل الحديث» تتمسك بالعراقة، وتنتج أكثر المذاهب تحجرًا.

  • حركة الترجمة تضاعف تأويل أوجه التحميل. المتكلمون يعيشون عصرًا ذهبيًّا.

  • تأويل النص يشهد شكلًا أعلى من التقنيات: المعتزِلة يؤسسونه على المفاهيم، فينسبهم النقاد إلى الفلسفة اليونانية، والباطنية يحيلونه إلى الأحوال، فينسبهم النقاد إلى أقانيم النصرانية، والسلفيون يكرسون المُثُل، فتستدرج الأفلاطونية أكثرهم انفتاحًا، بينما ينغلق النص على الأكثر محافظة منهم.

وأخيرًا فإن «العلوم العربية»١ تداخلت تمامًا مع «علوم العجم».
ملامحُ اكتظاظٍ فكري خلاق لا يهدأ إلا بتدخل السلطة فتفرض رأيًا محددًا. فيما عدا ذلك لا شيء ينتهي، لأنه متى ما بدأ لن يحول دون استمراره إلا القيامة، حيث لن يتبقى إلا وجه الله، يتفحص الخراب، قبل أن يعيد الخلق كرةً أخرى. «حركة صراع فكري بين عدة حضارات، ولن نستطيع أن نفهم حقيقة العقلية الجديدة وتطورها طوال ذلك العصر إلا إذا درسنا الوسط الذي اصطدمت فيه عقليات مختلفة، واختمرت فيه بذور الحياة العقلية التي جعلت من العصر العباسي الأول عصرًا من أخصب العصور الفكرية في تاريخ العالم.»٢
مقدمات هذا الاكتظاظ أو «الغليان الكبير الذي كانت تعوم فيه جميع عناصر الإسلام» كما يسميه رينان،٣ نشأت في أواخر الدولة الأموية. وفي أواخر زمن المأمون، ومعظم زمن المعتصم كان المعتزِلة يشبهون حزبًا من المثقفين، هو الأقرب إلى السلطة، وكان تعدد فرق المعتزِلة مثالًا تطبيقيًّا يختبرون به آراءهم.

تحت هذا «الغليان العظيم» علينا أن نتتبع مسارين متوازيين في حركة الرفض السياسي التي جابهت سلطة الأمويين ثم العباسيين: يتخذ المسار الأول سمة الجدل الفكري والفلسفي، وما يتصل به من نقد يفكك الخطاب الديني الذي تسوده «العقادة» و«الفقاهة»، ويتخذ الثاني سمة الخروج على طاعة الدولة متمثلًا في الانتماء إلى أقوى حركات وتنظيمات الرفض؛ أي الشيعة وأنصار الدعوة إلى حكم آل البيت.

١  العلوم العربية هي الاصطلاح الذي يطلقه الخوارزمي في «مفاتيح العلوم» على دراسة الشرائع وما يتصل بها، في مقابل علوم العجم الفلسفية والتطبيقية.
٢  بدوي، ٥٢-٥٣.
٣  ابن رشد والرشدية، ١١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤