الإلحاد: أبولوجيا

١

الدين ظاهرة لغوية، فاللغة — اللغة وحدها — تجعل الدين حقيقة واقعية، أما تداولية اللغة فتجعل من الدين واقعة تاريخية ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها من الظواهر الاجتماعية من حيث هي عامة، نسبية، متأثرة بشروط إنتاجها، يخضع لها الأفراد ولا تخضع لأثر فردي، وتُنتج قواعدها وأعرافها وشَفراتها الخاصة. وليتمكن الورَّاق من إثبات ذلك، اتجه إلى لغة القرآن، وعمد إلى «الطعن» في إتقان بعض الآيات وإحكامها لغويًّا، فأظهر تناقضها المنطقي، وتفاوت بلاغتها بين دركات، وشكك — بالتالي — في الإعجاز التخييلي للقرآن، مفترضًا أن محمدًا (الذي لم يكن أميًّا على الإطلاق) كان الأكثر بلاغةً لقدرته على تأليف هذا النص، بينما كان العرب منشغلين بالحروب واستباق ذواتهم هربًا من وصمة الجاهلية. لكن الإسلام لم يكن هو الصنم الوحيد بالنسبة إلى الورَّاق؛ فاليهودية والمسيحية كانتا صنمين كبيرين أيضًا يحتلان ساحات بغداد. هكذا انتقد أهم ما تقومان عليه من أسس، وألحق بهما المجوسية، وكل دين آخر دون تحديد، ليتحول إلى أول ناقد في الثقافة العربية-الإسلامية يعالج مفهوم الدين في عمومه. ولسوف يعمل — طوال حياته — على إنقاذ مشروعه النقدي هذا من المطاردة والملاحقة والاتهامات التي لم يستطع صدها، إلى أن يقع أخيرًا في قبضة خصومه الأيديولوجيين المتحالفين مع السلطة.

٢

بدأ الورَّاق حياته الفكرية معتزليًّا، مع ميل إلى التشيع. عبَّر اختياره الأول عن رؤية منهجية، وعبَّر الثاني عن موقف سياسي. لكنه مضى بالاعتزال إلى أبعد مما يحتمل المعتزِلة، كما تنكَّف من سلوكيات المغالين في تقديس الإمام. وهو وإن كان قد غادر المعتزِلة إلى غير رجعة فلأن تحرر الفكر ليس في حاجة إلى منظمة ترعاه، إلا إنه ظل على تشيعه لأن الموقف السياسي في حاجة إلى محيط من الأنصار والمتآلفين.

كان شعار المعتزِلة آنذاك أكبر من إسهامهم الفعلي، فلم تنعكس ادعاءاتهم الكبيرة، التي أفرزتها المناظرات وأظهرها الجدل مع الفرق والمجموعات الفكرية الأخرى، على الواقع الاجتماعي، بالرغم من أن المعتزِلة مثلوا حزبًا أيديولوجيًّا وحيدًا وراء ثلاثة من الخلفاء العباسيين، أي إنهم كانوا الأقدر آنذاك على اختبار أطروحاتهم النظرية ووضعها موضع التطبيق؛ بل إن أطروحاتهم لم تقنعهم هم أنفسهم، فلقد كانوا يُقْصون ويَنفون عنهم كل من يختلف معهم، وصاروا حركة براغماتية تتكسب على حساب خصومها، تنصَّلت من أخلاق العلم، ونبذت حرية الفكر التي كانت مطلبها الأساسي وسبب وجودها، وصار الترهيب والوشاية ممارسةً مسوغة عقائديًّا لديهم. والأسوأ من كل ذلك أن بغداد شهدت مرحلةً تحوَّلَ فيها النظر في مصائر خصوم المعتزِلة إلى قاضي القضاة الذي كان من عتاة المعتزِلة وأكثرهم حرصًا على وحدة هذا الحزب.

٣

اختار الورَّاق أن يكون نباتيًّا. كان ذلك موقفه من التأصيل اللاهوتي لحافز الشر والعنف في الإنسان. كتبَ رثاءً في الحيوانات. لكن «أهل الحق» من قومه (أي المعتزِلة) غلبت حسيتهم ولُحْمانيتهم وعَتَمة طباعهم عليهم، فكانوا أول من ندد به باسم الدين الذي يبيح الذبح، (ما لم يُهَلَّ به لغير الله، إذ إن تلك هي التميمة التي تنقذ أرواح الذبائح من الأمم الأخرى). ولأن الورَّاق باحث متميز في المعتقدات، ومثقف رائد في اشتراع الحوار مع الثقافات الأخرى، ولأن «مقالاته» بُنيت على الانفتاح على هذه الثقافات، وجد المعتزِلة طريقًا ممهدًا لينالوا منه. قاموا أولًا باتهامه بالمانوية، التي رأوا فيها دينًا يقتضي اعتناقُه وصفَ الزندقة وحد القتل، بينما كان هو يرى فيها ثقافة أخرى قائمة على المجاز والتخييل الأدبي، ثم قاموا بتحييد صديقه العتيد ابن الراوَندي قسرًا وترهيبًا، وتسخيره ضده، وأخيرًا وشَوا بهما معًا إلى السلطة.

هرب ابن الراوَندي، ولا بد أن اختفاءه دون أن يظهر ثانية قد امتزج فيه الرعب والندم معًا. أما الورَّاق فقد اقتيد إلى السجن ليموت هناك، ولتموت معه رؤيته واختياراته.

٤

«في كل مكان يُملي علينا النور ما كنا نعتقد بسذاجة، حتى الأمس القريب، أنه متعارض مع الدين.»

دريدا

افتتن الورَّاق بالمانوية افتتان مثقف كبير، أتاح له تخييل النور والظلمة وإضفاء صفة الاصطراع عليهما، تجريد العالم من جسمانية كائناته غير المرئية. ربما أحب أن يكون شاعرًا يشيد أعمدة النور، ويمتحن خبرات الأسلاف، لكنه اختار أدوات أخرى: المنطق، الفلسفة، النقد؛ وسخَّر علم الكلام ليصبح علمًا شخصيًّا، متجنبًا تلك «الصرعة الغُنُوصية» التي تمثلت في تحويل المنهج الكلامي إلى فوهة سوداء تمتص العلوم والمعارف والإدراكات ويعاد بثها في أصول الدين، فتغذيه بدم جديد، دم مستعار، دم يمكنه أن يصبغ كل السوائل الأخرى، وأن يلطخ الجدران. لكن الحقيقة ليست صبغةً، وليست لطخة على جدار، والدم مهما كان حيًّا لن يستطيع بث الحياة في غير اللحظة التي ينتمي إليها، وفي غير الجسد الذي تشخَّب فيه، حتى وإن أُهل به لله العظيم.

٥

مفكرًا في الدين (الإسلام بشكل خاص)، أعتقد أن الورَّاق تجاوز معضلة الاختيار بين مفهوم التعبد ومفهوم الأخلاق. وهما المفهومان اللذان حُشِرا بسذاجةٍ في لفظي: العلم والعمل. الدين مُتَجَاوَزًا على هذا النحو ليس تلاوة وانقطاعًا وزهدًا، كما أنه ليس تشريعًا بروتوسيًّا، بل هو اختيار معرفي. العقل بوصفه دينًا، لا الدين بوصفه عقلًا، تلك هي عقيدة الورَّاق، إذا أبحنا لأنفسنا أن نسميها عقيدةً، غير متصورين أن الرجل نفسه كان سيوافق على هذه التسمية.

انتقد الورَّاق اللاهوت برده إلى تجريدات منطقية بسيطة أثبت بها تناقضه مع العقل الاجتماعي في حدود السويَّة الأدنى. نَزَعَ الاعتقاد عن المعتَقدات فلم تصمد وحدها، دون قابلية مسبقة للخضوع لها. أراد أن يستبدل بانغلاق الميثولوجيا اللاهوتية وإطلاقيتها انفتاح المعرفة الإنسانية وتحولاتها الدائمة التي لا تقبل الاختزال إلى «الأصول» و«الحدود»، لا تقبل الذوبان في العِقادة والفِقاهة. رَفَضَ تأبيد الوحي، ورفض تأبيد الإجماعات والأخبار والمرويات (الأحاديث والأساطير على السواء). إن الفكرة الحديثة حول نسخ المجتمع للدين، ورفض أسْر التحولات الاجتماعية بنص مؤبد، ربما شهدت أول تطبيقاتها الفكرية في حركة الورَّاق.

لا يمكن فهم الإسلام إلا من حيث هو تطور تاريخي شهدته الحياة العربية. ولكن اللاهوت لا يعترف بهذا التطور، بل يقابله بمفهوم العوْد، الرُّجْعَى، وإعادة استنباط الوحي الإبراهيمي، متمثلًا في الحنيفية التي سبقت ظهور محمد. أما في العصور التي تلت القرن الثاني، فلقد وُجه هذا المفهوم إلى إعادة استنباط الوحي المحمدي نفسه.

أما الرغبة التي تنتاب أكثر المسلمين فيجعلون الإسلام وسطًا بين مفهومي التطور والرُّجْعَى؛ فهي رغبة توفيقية تفتقد إلى أبسط مقومات الاستجابة للتاريخ. لكن تلك كانت على الدوام هي الطريقة الإسلامية المفضلة في إحالة العالم إلى ثنائيات سيامية، فلا هي قابلة للانفصال، ولا هي قادرة على أن تحيا في جسم واحد.

ماذا نستنتج من ذلك؟ هل كان الورَّاق يعمل على استدعاء إيثوس عبر-قومي، بنوع من تقنية الإزاحة السلبية، ولكن ليست العامة، لفكرة الدين، من خلال تقويض التمفصلات الصغيرة التي تنبني عليها الكيانات اللاهوتية للمجوسية واليهودية والمسيحية والإسلام؟

إنه يستثني الأفكار الكلية (العالمية) التي تشكل مادة «الخير»، بمختلف مسمياته في كل دين، والتي بإمكانها أن تتحول إلى موضوعات تأمل فردية، بقدر ما هي شرط عام تشترطه حياة الأفراد (من جهة السلوك)، ويشترطه التعايش في المجتمع (من جهة التشريع)، ويشترطه التعايش بين الأمم (من جهة التعاقد).

ربما تمثَّلَ الورَّاقُ صيغةَ إيثوس فردي، خاصةً إذا فكرنا من جهة تعيين الإحداثيات الاجتماعية كما يراها الأفراد، أو ربما تمثَّلَ مدينة فاضلة، من جهة تأسيس مجتمع لا تتماس فيه الأفكار الذاتية والتأملات قدْر تماسِّ الأفكار الاجتماعية التي تنتج حدودًا وإكراهات يخضع لها المجال الفردي. مدينة تنتظم بإيثوس عام يحل بديلًا عن إكراهات اللاهوت في تدخله وصوغه إسهامَ الأفراد وتفاعل مجالاتهم لإنتاج التحولات العامة. كان يكابد من أجل تأسيس خطاب عقلاني أممي، ينبني على الثقافات لا على الديانات، على الحضور الإنساني لا على حضور المقدس.

لقد سبق الورَّاق زمنه. هل أقول: لا يزال يسبق الزمن الذي نحياه؟ إنه ينتظرنا، ينتظر الجميع، في مكان ما من المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤