كتاب الشذرات
أبو الحسين الخياط (كتاب الانتصار والرد على ابن الراوَندي الملحد)
-
(١)
«يقال له [ابن الراوَندي]: قد كان تعرضنا لنقض كتاب ساقط مثلك ضربًا من العناء، ولكنا نقضنا على أستاذَيك أبي حفص الحداد وأبي عيسى الوراق، مع خساستهما وضَعَتهما، فليس بمستكثَر أن ننقض على من قاربهما من أتباعهما» (٩٦-٩٧).
-
(٢)
«إن فضلًا الحذَّاء قد كان معتزليًّا نظَّاميًّا إلى أن خلَّط وترك الحق، فنفته المعتزِلة، وطردته عن مجالسها، كما فعلَتْ بك لما ألحدتَ في دينك وخلَّطت في مذهبك ونصرت الدهرية في كتبك، وكما فعلَتْ بأخيك أبي عيسى [الوراق] لما قال بالمنانية ونصَر الثنَوية ووضع لها الكتب يقوي مذاهبها ويؤكد قولها. وكذلك هي لكل من حاد عن سَنن الحق، وطعن في التوحيد، ومال عن الإسلام» (١٤٩).
-
(٣)
«لو جاز لصاحب الكتاب [ابن الراوَندي] أن يضيف قول فضلٍ الحذَّاء وابن حائط إلى المعتزِلة، لأنهم يُظهرون بعض الحق، جاز لنا أن نضيف قول أبي حفص الحداد وابن ذر الصيرفي وأبي عيسى الوراق في قدم الإثنين إلى الرافضة، لأنهم كانوا يُظهرون الرفض، ويميلون إلى أهله» (١٥٠).
-
(٤)
«قد أريناك [ابن الراوَندي] أنه إن لزم المعتزِلة أن يكون فضلٌ الحذَّاء وابن الحائط منها، لزمها أن تكون أنت وأخوك أبو عيسى الوراق منها؛ لأنكما قد كنتما منها دهرًا إلى أن نفَتْكما عنها، كما فعلتْ بفضلٍ وابن الحائط لما ألحدا. فإن وجب إضافة فضلٍ وابن الحائط إلى المعتزِلة وجب أيضًا إضافتك وإضافة أبي عيسى إليها. ونقول أيضًا: ويجب أيضًا إضافة مذهبك في قِدم العالم، وإضافة مذهب أبي عيسى وأبي حفص وابن ذر في قِدم الإثنين إلى الرافضة، لإظهاركما الرفض، وتحقُّقِكما عند الرافضة به» (١٥٢).
-
(٥)
«أيهما أولى ببغض علي بن أبي طالب: الجاحظ وأسلافه الذين روَوا فضائله وأنزلوه بالمنزلة التي يستحقها من الفضل، أو أستاذك وسلفك سلف السوء الملقي إليك الإلحادَ أبو عيسى الوراق، المخرج لك عن عز الاعتزال إلى ذل الإلحاد والكفر؟ حيث حكيتَ عنه أنه قد قال: «نُكبْت بنصرة أبغض الخلق إليَّ» يريد عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، لكثرة سفكه للدماء؛ لأنه كان — لعنه الله — منانيًّا لا يرى قتل شيء ولا يجيز إتلافه» (١٥٥).
أبو الحسن الأشعري (مقالات الإسلاميين)
-
(١)
«رجال الرافضة ومؤلفو كتبهم … وقد انتحلهم أبو عيسى الوراق وابن الراوَندي، وألَّفا لهم كتبًا في الإمامة» (٦٤).
-
(٢)
«كان بعض المتقدمين يزعم أن العالم كان ساكنًا متحركًا، وأن الحركة معنًى وأن السكون ليس بمعنًى. حكاه أبو عيسى عن أصحاب الطبائع.»
-
(٣)
«فأما أبو عيسى الوراق فإنه حكى أن من أهل التثنية من يُثبِت الأعراض من الحركات والسكون وسائر الأفعال غير الأجسام، وأن منهم من يزعم أنها صفات الأجسام لا هي الأجسام ولا غيرها، وأن منهم من نفاها وأبطلها وزعم أنه لا حركة ولا سكون ولا فعل غير الأصلين.»
الجاحظ (كتاب الحيوان)
«ورجال ممن ينتحل الإسلام، يُظهرون التقذُّر من الصيد، ويرون أن ذلك من القسوة، وأن أصحاب الصيد لتؤذيهم الضراوة التي اعترتهم من طروق الطير في الأوكار، ونصب الحبائل للظباء، التي تنقطع عن الخُشْفان حتى تموت هُزْلًا وجوعًا، وإشلاء السباع على بهائم الوحش، تُسلِم أهلها إلى القسوة، وإلى التهاون بدماء الناس. والرحمة شكل واحد، ومن لم يرحم الكلب لم يرحم الظبي، ومن لم يرحم الظبي لم يرحم الجدي، ومن لم يرحم العصفور لم يرحم الصبي، وصغار الأمور تؤدي إلى كبارها، وليس ينبغي لأحد أن يتهاون بشيء مما يؤدي إلى القسوة يومًا ما. وأكثر ما سمعت هذا الباب، من ناس من الصوفية، ومن النصارى؛ لمضاهاة النصارى سبيل الزنادقة، في رفض الذبائح، والبغض لإراقة الدماء، والزهد في أكل اللُّحمان.
وقد كان — يرحمك الله — على الزنديق ألا يأتي ذلك في سباع الطير، وذوات الأربع من السباع، فأما قتل الحية والعقرب، فما كان ينبغي لهم البتة أن يقفوا في قتلهما طرفة عينٍ؛ لأن هذه الأمور لا تخلو من أن تكون شرًّا صرفًا، أو يكون ما فيها من الخير مغمورًا بما فيها من الشر، والشر شيطان، والظلمة عدو النور، فاستحياء الظُّلمة وأنت قادر على إماتتها، لا يكون من عمل النور، بل قد ينبغي أن تكون رحمة النور لجميع الخلائق والناس، إلى استنقاذهما من شرور الظُّلمة.
وكما ينبغي أن يكون حسنًا في العقل استحياء النور والعمل في تخليصه والدفع عنه، فكذلك ينبغي أن يكون قتل الظُّلمة وإماتتها، والعون على إهلاكها وتوهين أمرها حسنًا.
والبهيمة التي يرون أن يدفعوا عنها أيضًا ممزوجة، إلا إن شرها أقل، فهم إذا استبْقَوها فقد استبْقَوا الشرور المخالطة لها. فإن زعموا أن ذلك إنما جاز لهم لأن الأغلب على طباعها النور فليغتفروا في هذا الموضع إدخال الأذى على قليل ما فيها من أجزاء الشر، كما اغتفروا ما في إدخال الروح والسرور على ما في البهيمة من أجزاء الظلمة لدفعهم عن البهيمة، إذ كان أكثر أجزائها من النور.
وإنما ذكرت ما ذكرت لأنهم قالوا: الدليل على أن الذي أنتم فيه، من أكل الحيوان كل يومٍ من الذبائح، مكروه عند الله، أنكم لم تَرَوا قط ذبَّاحي الحيوان ولا قتَّالي الإنسان، ولا الذين لا يقتاتون إلا اللُّحمان يفلحون أبدًا، ويستغنون، كنحو صيادي السمك وصيادي الوحش وأصناف الجزارين والقصَّابين والشوَّائين والطهَّائين والفهَّادين والبيازرة والصقَّارين والكلَّابين؛ لا ترى أحدًا منهم صار إلى غنًى ويسر، ولا تراه أبدًا إلا فقيرًا مُحارَفًا، وعلى حال مشبَّهة بحاله الأولى. وكذلك الجلادون، ومن يضرب الأعناق بين يدي الملوك، وكذلك أصحاب الاستخراج والعذاب، وإن أصابوا الإصابات، وجميع أهل هذه الأصناف.
نعم، وحتى ترى بعضهم وإن خرج نادرًا خارجيًّا، ونال منهم ثروة وجاهًا وسلطانًا، فإما أن يُقتَل، وإما يُغتصب نفسَه بمِيتة عاجلة عند سروره بالثروة، أو يبعث الله عليه المحْقَ فلا ينمو له شيء، وإما ألا يجعل من نسلهم عقِبًا مذكورًا، ولا ذِكرًا نبيهًا وذرية طيبة، مثل الحجاج بن يوسف، وأبي مسلم، ويزيد بن أبي مسلم، ومثل أبي الوعد، ومثل رجالٍ ذكروهم لا نحب أن نسميهم. قال: فإن هؤلاء، مع كثرة الطَّرُوقة وظهور القدرة، ومع كثرة الإنسال، قد قبح الله أمرهم، وأخمَلَ أولادهم، فهُم بين مَن لم يُعْقِب، أو بين من هو في معنى مَن لم يُعْقِب» (م٢، ج٤، ١٤٧ وما بعدها).
•••
«وليس لهذا الكتاب [كتاب الحيوان] ضدٌّ مِن جميع مَن يشهد الشهادة ويصلي إلى القبلة ويأكل الذبيحة، ولا ضدٌّ مِن جميع الملحدين، ممن يقر بالبعث، وينتحل الشرائع، وإن ألحد في ذلك، وزاد ونقص، إلا الدهري [يعني الوراق ولم يسمِّه]، فإن الذي ينفي الرب، ويحيل الأمر والنهي، وينكر جواز الرسالة، ويجعل الطينة قديمة، ويجحد الثواب والعقاب، ولا يعرف الحلال والحرام، ولا يقر بأن في جميع العالم برهانًا يدل على صانع ومصنوع، وخالق ومخلوق، ويجعل الفَلَك الذي لا يعرف نفسه من غيره، ولا يفصل بين الحديث والقديم، وبين المحسن والمسيء، ولا يستطيع الزيادة في حركته، ولا النقصان من دورانه، ولا معاقبةً للسكون بالحركة، ولا الوقوف طرفة عين، ولا الانحراف عن الجهة، هو الذي يكون به الإبرام والنقض، ودقيق الأمور وجليلها، وهذه الحكم العجيبة، والتدابير المتقنة، والتآليف البديعة، والتركيب الحكيم، على حساب معلوم ونسق معروف، على غاية من الحكمة وإحكام الصنعة. ولا ينبغي لهذا الدهري أيضًا أن يعرض لكتابنا هذا، وإن دل على خلاف مذهبه، ودعا إلى خلاف اعتقاده، لأن الدهري ليس يرى في الأرض دينًا أو نحلة أو شريعة أو ملة. ولا يرى للحلال حرمة، ولا يعرفه، ولا للحرام نهاية، ولا يعرفه، ولا يتوقع العقاب على الإساءة، ولا يتوخى الثواب على الإحسان، وإنما الصواب عنده، والحق في حكمه، أنه والبهيمة سِيَّان، وأنه والسبع سِيَّان، ليس القبيح إلا ما خالف هواه، وأن مدار الأمر على الإخفاق والدرَك، وعلى اللذة والألم، وإنما الصواب فيما نال من المنفعة، وإن قتَل ألف إنسانٍ صالحٍ لِمنالة الدرهم الرديء، فهذا الدهري لا يخاف إن تركَ الطعن على جميع الكتب عقابًا ولا لائمة ولا عذابًا ولا منقطَعًا، ولا يرجو، إن ذمها ونصبَ إليها، ثوابًا في عاجل ولا آجل. فالواجب أنْ يسلَم هذا الكتاب على جميع البرية إذ كان موضعه على هذه الصفة، ومجراه إلى هذه الغاية» (م٢، ج٧، ٥٤٤).
الماتُرِيدي (كتاب التوحيد)
(١) «ثم نذكر طرفًا مما ذكره الوراق. فقال، فيما جاء به الرسل من الآيات المعجزات التي بمثلها يثبت القول بالتوحيد: إنهم لم يمتحنوا قوى الخلق ولا وقفوا على طبائع العالم التي يُستعان بها في الأفعال، بل لم تبلغ علم أكثرهم، فكيف يعرفون بذلك مبالغ الحيل؟ وهل الذي رأوا إلا كلعب أتى العجب؟ وهل حدث السحر إلا لجذب حجر المِغناطيس الحديد؟
فيقال له: أبلغتَ أنت الذي ذكرت؟ لتعلم أن الذي قلت طعن أو تمويه، فمهما قالوا من شيء، فهو له جواب في الأول، وجواب آخر: إنه لو كان في جوهر العالم الذي ذكر، لم يحتمل ظهور ما ذكر من الحجر، لأن الخاص إنما يحفظ باسمه لما يخرج من الاحتمال لبعد في الآيات، وتخصيص ذلك من جوهره في الأعجوبة، فأوجب ذلك أمرًا ما جاء به الرسل، خصوصًا لهم ليكون لهم، إنه في الخروج عن جوهره بالذي يدعي، مع ما بينا فيما تقدم أنه نشأ بين قوم على طبع علموا أن مثله لا يحتمل ذلك بجوهر بشر بالذي جاء به.
وبعد، فقد كثر عنهم الآيات من أنواع ما لا يحتمل ذلك بالاطلاع على جوهر الأرض، إلا أن يطلعه من علم جواهرها، وفي ذلك الذي ذكر، على أنه ما من نبي صحت نبوته إلا وقد شهد قومه منه من إعلام الصدق ما يجب قبول قوله لولا الآيات.
ثم يقال: أنت ممن تقبل خبرًا في الدنيا؟ فإن قال: نعم. كُلِّف دليلًا على صدقه أوضح من أدلة الرسل، وفي ذلك وجوب القول بالذي ذكرت، وإن قال: لا. يشهد عليه العقل، وكل شيء جعله حجة بالكذب.
وعارضه ابن الراوَندي: إن أحدًا لو ادعى طبيعة يحدث بها الكواكب، أو لو نصبه مقابل الشمس يذهب ضوءُها، أو إنه إذا مس البحر لفظ البحر جميع ما فيه، وإذا مسح به قدمه لصار في الهواء وارتفع إلى السماء ويصير سحابًا يمطر، فإذ لزم تكذيب بما ادعى الخروج عن طبائع معروفة، فمثله الأول مع ما كان المكذب ليس معه شيء، ومع الآخر شيء بالظنون يُرَد وبالاحتمال، وما به قد يمكن عيب، والحجة ظاهرة، فلزم القول به.
واحتج على الوراق بما أجمع على موت البشر كلهم، وإن لم يشهدوا الكل بالرسل، فقال: فيه الإجماع.
قال أبو منصور، رحمه الله: وقد علم أنه لم يشهد، بل لم يبلغ علمه شيء، والثاني: أنه علق دليله في ذلك بالمحنة، وقد زال. والثالث: إذ لا يبلغ التدبير ثبت أنه قيل بالرسل.
وقال في قول الفلسفة: إن تركيب الحيوان تركيب يموت. تأملوا حماقته بعد قول قوم لو أدركوه لأدركوه بالرسل، ثم ينكر قول الرسل مع البرهان، والثاني أنه لم يمتحن عقول جميع الفلاسفة، ولا هم امتحنوا طبائع الجميع، والثالث أنه لو كان بالتركيب لما اختلف قدر الحياة.
وقال بالطباع إن النفس لا تطمع في دفعه، ولا ترجو الظفر به. فجوابه: إنه لم يمتحن طبائع الكل، والثاني: أنها سكنت إلى هذا بالتوارث من قول الرسل، والثالث: كذلك آيات الرسل لم يطمع إلا بعسر إتيان مثلها، وهي بحيث تحتمل الطمع مع ما كانت فيها ما لا يطمع مع التقريع والتحذير، وفيها ما لا يحتمل الطمع ألبتة نحو انشقاق القمر.
ثم يقال له: تعتقد شيئًا ألبتة؟ فإن قال: لا. أقر أنه لم يعتقد تكذيب من ذكر، ولا أنه هو، ولا هو حي أو ميت، فتكلفه الأجوبة والمعارضات خطأ. وإن قال: نعم. قيل لعلك تعتقده بما لم يبلغ قوة دركك وعلمك بالأشياء مبلغ الإحالة، إذ قد رأيت كثيرًا من المعتقدين بطل اعتقادهم، فلعل طبيعتك أرتك ذلك الفساد، ويجوز أن يكون في الطبائع طبيعة نقية يدرك لذلك فيما اعتقدت، ويظهر جهلك. فمهما قال من شيء فهو له في جميع ما أنكر جواب، وأصله أن كل من استخار الخروج من المعارف، والتفوه بغير الموجود في الطبائع، بلا شيء سوى أنه لم يكن أو لعله يكون، أبطل سبيل تثبيت شيء ألبتة أو نفيه، ويكون في حد الشاكين في البيان كله، ولا قوة إلا بالله.
…
ثم طعن الوراق المحتج بالقرآن بأوجه؛ أحدها: تفاوتهم في البلاغة ولعله تآليف أبلغهم، والثاني: أن الحروب معه شغلتهم عن مثله، والثالث: أنهم لم يكونوا أهل نظر ومعرفة، ألا ترى أنهم صدوا عن الإقرار مع توفر أسبابه عند أصحاب الضرورة، وعن النظر والمعرفة مع أسباب ذلك عند أصحاب الاكتساب! والرابع: خصوص واحد بقوة من بين الجميع من غير أن يوجب ذلك له شيئًا، فمثله النبوة، أو أن يكون قدرتهم كانت بالفكر والتخيير، فلم يتكلفوا ذلك.
فأما الأول فإنه — لو كان ما قال — يمتنعون عن ذلك بعد الجهد، فدل تركهم دونه أنهم تركوه طباعًا. وأيضًا أنه لو كان كذلك لم يحتمل مثله ممن يقول لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أن يكون أحد من البشر يبلغ علمه باللسان ذلك. والثالث: أنه إذ نشأ بينهم ومن عندهم عرَف اللسان، فلولا أن له في ذلك من الله خصوصًا لم يكن لغيره، لا يحتمل أن يصير بهذا المحل. والرابع: قد تكلفوا المجاوبات لأقوام معروفين في فن حتى اجتهدوا في قصيدة حولًا، فلو كان يحتمل وسعهم أو يرجون البلوغ بطرق ما احتمل تركهم، وفي ذلك تشبيه على القوم، وقد بذلوا مُهَجهم ودنياهم في إطفاء هذا النور.
والفصل الثاني لا يحتمل الذي ذكر، لما بذلك غنى لهم عن بذل المُهَج، ولما أُمهلوا قريبًا من عشرين سنة قبل الحروب، ولما فيه تقريع الجن والإنس، وإنما حارب قوم. وبعد فإن المحاربة لم تمنعهم من محاربات سمعوا من رسول الله، كذلك القرآن لو احتمل وسعهم.
والثالث لو كان كذلك، لاستقبلوا بالإنكار والدفع، كفعل العرف، لا بالخضوع والامتناع؛ على أن العرب أذكى الناس عقلًا، وأشدهم حمية، وقد قاتلوا الشعراء بالأشعار أيضًا. وبعد، فإن التقريع كان به جميع البشر والجن، وقد انتشر أمره، وظهر في الآفاق، وأيضًا فإن الذي حمله على ذلك، وما جاء به، نشأ بينهم، وإن كان له معرفة ونظر مع نشوئه بينهم، فذلك أيضًا أنه له، ولا قوة إلا بالله.
وجواب الرابع أن الله تعالى إذا خص أحدًا بقوة، لا يشاركه فيها أحد يمنعه عن دعوى النبوة باللفظ، كما منع من يظفر بحجر المِغناطيس، ولو علم أنه يدعي لا يعطيه. والثاني: أن لا أحد في شيء له فضل قوة إلا طمع غيره استتمام ذلك، أو عمل ذلك النوع بقدر قوته، والدليل ما يخرج من الطباع. وبعد، فإنه لو كان له في ذلك فضل قوة بها عمل لكان لا يتمكن نيلها بهم، وليست لهم، إذ لا يوجد مثل ذا في شيء من الأمور؛ دل أن الله جعل فيه ليكون آية لقوله.
وسنذكر جمل هذه التأويلات بعد الفراغ من فصوله وقوله على البديهة، فقد أمهلوا، مع ما لم يحتمل أن يكون من البشر يعلم بفضل القوة ما تسأل عنه، وقد تكلفوا الأشعار، ثم نصْب الحروب، وجمع الأعوان، وبذل الأعيان، ثم اقتتال الأقران، والمبادرات الفظيعة، فلو كان وهمهم يحتمل القيام بذلك أيسر عليهم، ثم قد دعوا إلى إتيان السورة نحو ثلاث آيات، لو احتملها وسع البشر لكان ساعة من النهار كافية لذلك.»
«واحتج [ابن الراوَندي] في إثبات رسالة محمد ﷺ مع ما بينا بقوله لليهود، فتمنوا الموت بوجهين؛ أحدهما: الوعد بأنهم لو تمنوا الموت لماتوا. والثاني: أنهم لا يتمنون أبدًا، ولا شيء أيسر عليهم من تمني ذلك. وبمباهلة النصارى، والإخبار بوقوع اللعن، ثبت أنه معلوم النعت في كتبهم.
فأدخل الوراق عليه أنهم لو تمنوا باللسان لقيل إنما أريد به القلب، والثاني أنهم قد آمنوا بموسى وعيسى وقد أخبراهم بذلك كما يخبر المنجمة.
فجواب الأول أن المباهلة لا تحتمل ذلك، وأيضًا أنهم أهل بصر، إذا لو ردوا لقالوا بأنهم فعلوا ذلك أيضًا بقلوبهم. والحرف الثاني، لو كان كذلك، ما امتنعوا عن مقابلته عند قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، ولو كان بذلك كان التصديق لما احتمل المقابلة بأعز الأشياء، وهي الأنفس والأموال.
قال الفقيه، رحمه الله: وأيضًا أنه لو كان بالذي ذكر، لم يكن خبر رسول الله، لن يتمنوه بذلك، بل كان بالذي يعلم أنهم لا يفعلون، ولا قوة إلا بالله.
وطعن، ولو كان على حكم قول المنجمة لما تقرر عندهم حتى يتحرجوا الإجابة، لم يكن الذي جاء به رسول الله بدون ذلك لم يتحرجوا عما خوفهم فيسلموا، ولا قوة إلا بالله.
وطعن في قوله وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ، إن الحفظ يقوم مقام الكتاب، وأحال لأن الحفظ يكون عن تلاوة وما بالإلقاء عليه فهو عن كتاب يُقرأ. وبعد، فإنما ذلك إنما يكون بمن يظهر اختلافه عند من يعرف به، ومعلوم أنه نشأ بين أظهرهم، لم يعرف في شيء من ذلك، ولولا ذلك لكان هذا القدر من المقابلة سهلًا لا يعجزون عنه.
وطعن في إخبار القرآن، إنه خبر الآحاد، وذلك كذب، بل رواه كافة عن كافة، مع ما في هذا إقرار أنه حجة.
وطعن التواتر بما لا تخلو الجماعة عن البعد من السمع، فيحتمل الحيلة أو القرب، فلا يحتمل مباشرة مثله إلا اليسير.
قال ابن الراوَندي: هذه الجهلة بالمحافل، وإلا الأمر في ذلك ينتشر ما كان من قبل، حتى لا يكاد شيء منه يخفى على الأبعدين، فضلا عن الأقربين.
وطعن أيضًا بإجماعات اليهود والنصارى، قال ابن الراوَندي: إما أن ينكر الخبر ألبتة فيبطل مذهبه في تقليد اﻟ «ماني»، وقوله هذا أو يجيز خبرًا، لا بد إذ ذاك من الرجوع إلى إجماع أهل الحق في الأصول العقلية، فيقبل أخبارهم وإجماعاتهم، إذ هم المتمسكون به ونحن أولئك بحمد الله.
قال الشيخ رحمه الله: والأصل في هذا أن الأخبار التي لزم في العقول قبولها، لما في [رد] ذلك بطلان حكمة السمع واللسان، وفيه زوال علوم المعاش والمعاد، وانقطاع الأصول إلى الأغذية والأدوية التي بها حياة الأبدان، ثم كانت الأخبار تتفاقم في الانتشار، على قدر الأمور التي عنها الأخبار في العِظَم، نحو ملك لو قتل لانتشر أمره بالضرورة، حتى لو أحب الناس كتمان مثله لما قدروا عليه، وكذلك الخارجة من المعارف المعتادة، وفيما يقل خطره، أو يجري على المعتاد، لا يظهر ظهوره، بل لعله لا يذكر معروف ذلك في الخلقة، وعلى ذلك انتشرت أخبار الفتوح، وقهر الملوك، فعلى مثل هذا أمر الرسل، لأنهم جاءوا بالأمور العظام الخارجة عن الأمر المعتاد عندهم، فتظهر أخبارهم، فتنتشر حتى تبلغ أقاصي الدنيا وأدانيها، إذ هي على وجه لا يملك السامعون كتمانها، على ما ذكرت من تغاضي الخلقة في نشر مثله، مع ما قد ينتشر مثل ما ذكرت مما لا منفعة فيه. فالذي يعم الخلق جميعًا معناه أحق في ذلك، وفي كل أمر منتشر عن أحد يعود الخبر، إن كان على حق أو جور، فيعلم ما افتعل منه فيُغيَّر، وما صدق فيه فيُقَرَّ، وفي ذلك لزوم انتشار أخبار الرسل في حياتهم، وظهور المفتعل من ذلك، فيُمحى أثره بالنهي والتغيير، فيبقى الحق الصدق منه. دليل ذلك أمر رسول الله، حتى لا تأتي ناحيةً نائية ولا مكانًا بعيدًا، إلا وجدت أثره فيه ظاهرًا، وبخاصة في عصره، إذ كان ينساب إليه من الآفاق، ويظهر شأنه في البلاد، فإذا كان كذلك، لا وجه لقوله أخباره أخبار الآحاد، ولا لما ذكر من الوجوه، بل الخبر الواحد في الأمر المهم أو الخارج عن الأمر المعتاد ينتشر انتشارًا أظهر، فكيف فيما فيه دعاء أهل الأديان، وإرسال الكتب إلى الأفق، ومجيء الوفود من كل النواحي، وامتحان الرسل بأنواع الحجاج، وقصد الملوك نحوهم في إطفاء نورهم، وإشفاقًا منهم على ملكهم أن يذهب ويضمحل، على ما عرفوا من ضعفهم في أبدانهم، وقلة أعوانهم من جوهرهم، فما ذلك الخوف إلا لعلمهم أنهم أتوا من عند القادر العليم، وعلى ذلك مما يخرج مخرج الآيات من الأمور الخطرة لن يذهب أثر ذلك ما بقي لهم تَبَعٌ، وبمثله احتجاج. ولا قوة إلا بالله.
وما ذكر من إجماعات اليهود والنصارى إنما ذلك أمور اختلفوا فيها على قدر ما احتمل آراؤهم، فانتشرت في اتباع كل منهم، ليس ذلك في الآيات ولا في الأمور الخطرة.
وبعد، فإنه متى بلغ ذلك تبديل الشرع، حتى كاد أن يُمحى أثره ويندرس خبره، بفضل الله ومنِّه في إرسال من يحيي ذلك، ويظهر ما عليه الرسل بالآيات القاهرة العقول، ليعلموا بهم التغيير والتبديل، وعلى ذلك الانتشار.»
…
قال أبو الحسين الراوَندي: طعن الوراق في أخبار براهين الرسل من حيث وردت من طريق أو طريقين، وهذا بهت شديد، بل أجمعت عليها أمتنا، ثم أمْر نبي الله مما توارث به الملحدون لتكلف الطعن، والموحدون لرعاية الحق، مع تطابق الكفرة على أن يجدوا في خُلقه ضعفًا أو في شجاعته، أو له في شيء من المطامع رغبة، أو إلى شيء من فنون منافع الدنيا ميلًا، فما وجدوا ذلك. فهذا لو كان شرط صحة الأخبار كثرة العدد، فكيف وشرطه الاستيلاء على القلوب، وسكونها إليه، وطمأنينة النفس بالمخرج والفحوى، ورفع ما يعترض من الظنون؟ وهكذا الأمر عند أخبار المحقين وإن قل عددهم.
وطعن الوراق في قوله فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أن كيف أمر بذلك مع الشهادة عليهم بكتمان الحق؟ فأجيب بما إذ أيد الله نبوة محمد بالحجج القاهرة مالوا إلى الكتاب، فقيل لهم على أن الله يسخرهم في ذلك ويضطرهم إلى الموافقة، فيكون ذلك من جليل آياته، إذ جمع عليه الأعداء والأولياء، وهو قوله أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وأيضًا إن ذا على ما يُعرف من لجاج الرجل بعد إقامة البرهان عليه، أن يقال فاسأل ذلك فلانًا ممن يُطمع سكون قلبه إليه، فيترك اللجاج. والثالث أن يكون المراد يُرجع إلى من أسلم منهم، وبالله التوفيق.
وجائز أن يكون المراد بأهل الذكر هم أهل الشرف الذين يمنعهم شرفهم عند التحكيم إليه عن الكذب، والله أعلم.
وطعن الوراق في إخبار رسول الله بحضور الملائكة يوم بدر. قال: أين كانوا يوم أحد؟
جواب الأول: ظهور رءوس ببدر بلا قاتل رأوه، وبيان المذكور من الأعداد أنهم رأوا صورًا لم يعرفوهم. وجواب الثاني: أن ذلك أول حرب، فأراد الله تعالى أن ينصرهم ليُظهر الحق ويُبطل الباطل.
قال ابن الراوَندي: العجب من الوراق حيث جحد أخبار الرسل مع البراهين، ودعا إلى قبول قول المنانية، وألزم القوم حماقاتهم من بسط السماوات من جلود الشياطين، واضطراب الأرض باضطراب الحيات والعقارب فيها، وقبول أخبارهم بعمل النور والظلمة، ودفع ما هو في عقولهم حُسنه. وبالله التوفيق.
قال الشيخ رحمه الله: وفي أمر بدر وجوه من المعتبر؛ أحدها عمل كف من تراب أن أصاب كلًّا منهم، وفيه ما ذكر، وفيه ما يشبه المباهلة من قول أبي جهل: اللهم انصر أبرَّنا، وأوْصَلَنا للرحم، وجمع الأئمة من الكفرة، وغير ذلك. والله الموفق.
وزعم من أنكر الرسل بما لا يأمر الحكيم بما يقبح في العقل، إذ لو جاز مجيء الخبر بمثله، لجاز ذلك في إباحة الجور والكذب. فأجيب بأن ما حسنه العقل وقبحه نوعان: أحدهما لا يتغير، نحو شكر المنعم وقبح السفيه، والثاني هو الذي يحسنه العقل للعاقبة أو للمقدمة أو الحال، نحو ما يحسن في العقل المنهمك في الفساد الباغي على وجه الانتقام، فجائز ورود الشرع بمثله، وعلى ذلك أمر الذبائح، ولو قدر الإباحة فيه كان كل حي يموت، والذبح أرْوَح إليه وأيسر عليه، فيكون بمعنى الأشياء المباحة. والثاني أن العدل في الجملة حسن والجور في الجملة قبح، لكن من الأشياء ما يظهر قبحه بالنهي، وحسنه بالأمر، وذلك نحو تقلب أحوال المرء وانتقاله، وعلى ذلك ذبح الحيوان، إذ جاءت به الرسل، وهم لا يأتون إلا بالعدل.
وعلى الثنوية ما أجاز النور ضرر الظلمة لما رأى من المصلحة. وفي مثله ذكر الوراق أن الرسل لو جاءوا إلى التمسك بحجج العقول فهم منا، وإن جاءوا إلى خلافها فقد جعلها الله حججًا، لم يجز الغير إلا بالتغيير، وفي ذلك زوال الخطاب.
عارضه ابن الراوَندي بما يُرى أسود الرأس ثم يُراه أبيض، أتغير بصره أو تغير الشيء على البصر؟ إذ ليس هو بأسود لما يراه البصر، فمثله أمر ما يراه العقل عدلًا للأمر، وكذلك هذا في القيام والقعود، وكل الأحوال، ومثله الحجامة والأكل والشرب، قد تحسن هذه الأحوال على اختلافها، ولم يجب به تغير العقل حتى يحسن فيه الذي كان يحسن بخلافه؛ فمثله أمر الرسل. ثم قد يجوز تحمل المؤن العظام لعواقب محمودة، واختيار المضار لسلامة محمودة، نحو التجارات والإجارات والزراعات والأدوية وأنواع الجراحات، وكذلك اختيار ترك النفع لنفع أرجح منه، وعلى ذلك أمر الشرائع، ولا قوة إلا بالله.
وأيَّد الوراق الذي بينَّا أن في العقل ذم الإساءة إلى من لم يؤذ، وإن لم يحب لغيره ما يحب المرء لنفسه، والذبائح خارجة من ذلك، فهذا لأنه توهمه مفردًا من العلل، فإذا تأمل حسن العواقب والسلامة، مع عَقِيب المنافع، وكذلك فضل راحة، وفي الذبائح ذلك.
ونحن نقول، وبالله التوفيق، إن الأشياء نوعان: أحدهما مما يحسن لنفسه ويقبح ضده وكل خلافاته، والثاني ما يحسن الشيء وخلافاته، على حسب الحاجة، وقيام الدلالة من حمد العواقب وذمها، فلزم القول في هذا بمن يعرف أحوال الحمد والذم، فيخرج الأمر عليه. على أنه لا بد لمن يكون يعتمد على عقله. والاختلاف المتناقض ذلك سببه، أو يرجع إلى مخصوص من العقل، وفي ذلك القول بالرسول، ثم أمر الذبائح لا يحتمل أن يكون قبحها لنفسها، لما يحل في موضع الانتقام، ويحسن في العقول، إذا تفكر في ذلك دفع الأذى والمكروه، أو تقع العواقب فبطل قبح ذلك لنفسه، فلزم جواز المحنة فيه بالترك والإذن، وفي ذلك إباحة، وأيضًا أن كل شيء حسنه العقل فهو لا يقبح بحال، وكذلك القبيح من الحسن، وكل شيء قبح لنفار الطبع بما يتوهم حلوله في جوهر المتوهم، فينفر طبعه لألمه، ثم هذا قد يجوز أن يذهب ذلك بالاعتياد، نحو القصابين والذين اعتادوا القتال، فثبت أن النهي عنه طبيعي لا عقلي، فتغير ذلك من العادة يزول، وذلك نحو جواهر من الحيوان طبعه التوحش، وعلى ذلك طبع الجميع عن الأحمال الثقيلة، ثم تصير بالرياضة وتعويد غيره كأنها على ذلك طبعت، فعلى ذلك أمر الحيوان، وأيضًا أن كل حي إذ هو يموت ثم لم يلحق أحد به لائمه، فمثله إذا جاء الإذن ممن هو له.
وأحق من يقول الثنوية، لأوجه؛ أحدها: استجازتهم تباين النور والظلمة، ثم الامتزاج، ثم التباين. وفي ذلك تفرقٌ بين كل مقترنين، وتميز بين كل ممتزجين، وذلك معنى الذبح. والثاني: أن الألم إما أن يحل بجوهر النور فيصير محتملًا للأذى، وهو شر، ولولا ذلك لم ينه عن الذبح إذ هو ذلك، ثم هو لا يخلو من أن يحل بجوهر النور، فقد عمل الشر، أو بجوهر الظلمة. فالنهي والإنكار مما لا معنى له، لأنه ينكر على من لا يحتمل طبعه القبول في ذلك، كمن يأمر من ليس له ما يطير به بالطيران، أو أن يكون الألم يحل بجوهر الظلمة، وذلك هو الحق عندهم؛ ثم إما إن دخل عليه ذلك بجوهر النور، فهو يصنع ما يُذم عليه، أو بجوهر الظلمة فقد أحسن حيث آلم الظلمة، إذ ذلك عدل. والله الموفق.
وأيضًا إن في الذبح إخراج الروح الصافي من الظلمة الكدرة، وذلك الحق وهو عاقبة كل شيء (١٨٦–٢٠٢).
«ثم تكلم في سؤال الرزق، قال: سأل الوراق فقال: يقال لهم هل اتقى أحد معصية الله وهو قادر مراقبته لله؟ فإن قالوا: لا. أعظموا القول في وصف الأنبياء إنهم لم يفعلوا ذلك، وإن قالوا: نعم. لزمهم القول بها قبل الفعل.
نقول له وبالله التوفيق: إن عنيت بالقدرة الأسباب التي هي أحوال القدرة التي تعرض لا محالة لولا التضييع من العبد فبلى، وكل الأنبياء كذلك كانوا، وكذلك الأخيار، وإن أردت بها القدرة التي هي مع الفعل أحلت السؤال، وصرت كمن يقول هل راقب الله أحد في إبقاء المعاصي وهو فاعل لها؟ وذلك مما لا معنى له، وهو يعارضك فيقول: هل راقب الله نبي من الأنبياء في إبقاء معصية علمها منه أو أخبرها عنه؟ فمهما أجاب في شيء فمثله الأول، ثم يقال: هل تفضل الله على أحد من أوليائه بمنع قدرة عداوته؟ فإن قال: نعم. نقول إن الله لم يعط أولياءه قدرة معاصيه، فعليه في أعدائه أيضًا أنه لم يعطهم قوة طاعته، وفي ذلك ما أنكر آنفًا. وإن قال: لا. زعم أنه أعطى أولياءه قوة عداوته، ومن قولهم إنه لم يعط أعداءه قوة العداوة، فالآن صار إلى أن أعطى أولياءه قوتها، وذلك عظيم. ثم يقال: هل أعطى الله وليًّا قُوًى على تلك الطاعة حين الطاعة؟ فإن قال: لا. فالوحشة في طاعة لم يقو عليها، ليست بدونها في اجتناب معصية لم يقو عليها، بل قوي على ترك المعصية، وعندهم لم يقو على الطاعة، وهذا أوحش. ثم يقال: هل والى لله ولي أو عاداه عدو بفعل قوي عليه؟ فإن قال: نعم. أقر بالقوة مع الفعل. وإن قال: لا. زعم أن العداوة والولاية بما لا يقوى عليه، وذلك بعيد، ولا قوة إلا بالله» (٢٨٥-٢٨٦).
الشهرستاني (الملل والنحل)
-
(١)
«وحكى عنه [أي هشام بن الحكم] أبو عيسى الوراق أنه قال: إن الله تعالى مماسٌّ لعرشه لا يفضل منه شيء عن العرش ولا يفضل من العرش شيء عنه.»
-
(٢)
«ذكر عن هشام بن سالم ومحمد بن النعمان: أنهما أمسكا عن الكلام في الله، ورويا عمن يوجبان تصديقه أنه سئل عن قول الله تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، قال: إذا بلغ الكلام إلى الله تعالى فأمسكوا، فأمسكا عن القول في الله، والتفكر فيه حتى ماتا. هذا نقل الوراق.»
لا يُظهر النص حدود الاقتباس عن الوراق، لذا اكتفينا بالفقرة الأخيرة في حديث الشهرستاني عن فرقة النعمانية، والتي تنتهي بقوله: هذا نقل الوراق. ولكننا هنا نورد الفقرات السابقة عليها، إذ لا شيء يمنع أن تكون منقولة عن الوراق، وهو الأرجح:
«النعمانية: أصحاب محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول، الملقب بشيطان الطاق، وهم الشيطانية أيضًا. والشيعة تقول: هو مؤمن الطاق. وهو تلميذ الباقر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه، وأفضى إليه أسرارًا من أحواله وعلومه. وما يحكى عنه في التشبيه فهو غير صحيح. قيل: وافق هشام بن الحكم في أن الله تعالى لا يعلم شيئًا حتى يكون.
قال محمد بن النعمان: إن الله عالم في نفسه ليس بجاهل، ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها، فأما من قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها، لا لأنه ليس بعالم، ولكن الشيء لا يكون شيئًا حتى يقدره وينشئه بالتقدير، والتقدير عنده: الإرادة، والإرادة فعله تعالى.
وقال: إن الله تعالى نور على صورة إنسان رباني، ونفى أن يكون جسمًا، لكنه قال: قد ورد في الخبر «إن الله خلق آدم على صورته»، و«على صورة الرحمن»، فلا بد من تصديق الخبر.
ويُحكى عن مقاتل بن سليمان مثل مقالته في الصورة، وكذلك يُحكى عن داود الجواربي، ونُعيم بن حماد المصري، وغيرهما من أصحاب الحديث: أنه تعالى ذو صورة وأعضاء. ويُحكى عن داود أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية، واسألوني عما وراء ذلك، فإن في الأخبار ما يثبت ذلك.
وقد صنف ابن النعمان كتبًا جمة للشيعة منها «افعل، لم فعلت» ومنها «افعل، لا تفعل»، ويذكر فيها أن كبار الفرق أربع: الفرقة الأولى عنده: القدرية. الفرقة الثانية عنده: الخوارج. الفرقة الثالثة عنده: العامة. الفرقة الرابعة عنده: الشيعة. ثم عين الشيعة بالنجاة في الآخرة من هذه الفرق.»
-
(٣)
«حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسيًّا عارفًا بمذاهب القوم: أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا، ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين دراكين سميعين بصيرين، وهما مع ذلك في النفس، والصورة، والفعل، والتدبير، متضادان، وفي الحيز متحاذيان تحاذي الشخص والظل. وإنما تتبين جواهرهما وأفعالهما من هذه المقارنة:
فجوهر النور: حسن، فاضل، كريم، صافٍ، نقي، طيب الريح، حسن المنظر. وجوهر الظلمة: قبيح، ناقص، لئيم، كدر، خبيث، منتن الريح، قبيح المنظر.
ونفس النور: خيرة، كريمة، حكيمة، نافعة، عالمة. ونفس الظلمة: شريرة، لئيمة، سفيهة، ضارة، جاهلة.
وفعل النور: الخير، والصلاح، والنفع، والسرور، والترتيب، والنظام، والاتفاق. وفعل الظلمة: الشر، والفساد، والضرر، والغم، والتشويش، والتغيير، والاختلاف.
وبالنسبة للحيز، فإن جهة النور: جهة فوق، وأكثرهم على أنه مرتفع من ناحية الشمال، وزعم بعضهم أنه بجنب الظلمة. وجهة الظلمة: جهة تحت، وأكثرهم على أنها منحطة من ناحية الجنوب، وزعم بعضهم أنها بجنب النور.
وأجناس النور خمسة: أربعة منها أبدان، والخامس روحها، فالأبدان هي: النار والنور والريح والماء، وروحها النسيم، وهي تتحرك في هذه الأبدان. وأجناس الظلمة خمسة: أربعة منها أبدان، والخامس روحها، فالأبدان هي: الحريق والظلمة والسموم والضباب، وروحها الدخان، وتدعى الهامَّة، وهي تتحرك في هذه الأبدان. وصفات النور: حية، خيرة، طاهرة، زكية.
وقال بعضهم: كون النور لم يزل على مثال هذا العالم له أرض وجو. فأرض النور: لم تزل لطيفة على غير صورة هذه الأرض، بل هي على صورة جِرم الشمس. وشعاعها كشعاع الشمس، ورائحتها أطيب رائحة، وألوانها ألوان قوس قزح.
وصفات الظلمة: ميتة، شريرة، نجسة، دنسة. وقال بعضهم: كون الظلمة لم تزل على مثال هذا العالم لها أرض وجو. فأرض الظلمة لم تزل كثيفة على غير صورة هذه الأرض، بل هي أكثف وأصلب، ورائحتها كريهة، وأنتن الروائح، وألوانها ألوان السواد.
وبالنسبة للنور قال بعضهم: لا شيء إلا الجسم؛ والأجسام على ثلاثة أنواع: أرض النور وهي خمسة، وهناك جسم آخر ألطف منه وهو الجو، وهو نفس النور، وجسم آخر وهو ألطف منه وهو النسيم، وهو روح النور.
وبالنسبة للظلمة قال بعضهم: لا شيء إلا الجسم. والأجسام على ثلاثة أنواع، أرض الظلمة، وجسم آخر أظلم منه وهو الجو، وجسم آخر أظلم منه وهو السموم.
وبالنسبة للنور قال بعضهم: ولم يزل يولِّد النور ملائكة وآلهة وأولياء، لا على سبيل المناكحة، بل كما تتولد الحكمة من الحكيم، والمنطق الطيب من الناطق. وملك ذلك العالم هو روحه. ويجمع عالمه الخير، والحمد، والنور.
وبالنسبة للظلمة قال بعضهم: ولم تزل تولِّد الظلمة شياطين وأراكنة وعفاريت، لا على سبيل المناكحة، بل كما تتولد الحشرات من العفونات القذرة. وملك ذلك العالم هو روحه، ويجمع عالمه الشر والذميمة والظلمة.
ثم اختلفت المانوية في: المزاج وسببه، والخلاص وسببه. قال بعضهم: إن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق، لا بالقصد والاختيار. وقال أكثرهم: إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت الروح فرأت النور، فبعثت الأبدان على ممازجة النور، فأجابتها لإسراعها إلى الشر.
فلما رأى ذلك ملك النور، وجه إليها ملكًا من ملائكته، في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة، فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية، فخالط الدخان النسيم؛ وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم، والهلاك والآفات من الدخان، وخالط الحريق النار، والنور الظلمة، والسموم الريح، والضباب الماء. فما في العالم من منفعة وخير وبركة، فمن أجناس النور؛ وما فيه من مضرة وشر وفساد، فمن أجناس الظلمة.
فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكًا من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة، لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة. وإنما سارت الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب لاستصفاء أجزاء النور من أجزاء الظلمة، فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر يستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد.
والنسيم الذي في الأرض لا يزال يرتفع، لأن من شأنها الارتفاع إلى عالمها، وكذلك جميع أجزاء النور أبدًا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدًا في النزول والتسفل، حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، ويبطل الامتزاج، وتنحل التراكيب، ويصل كل إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والمعاد.
قال: ومما يعين في التخلص والتمييز، ورفع أجزاء النور: التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البر، فترتفع بذلك الأجزاء النورية في عمود الصبح، إلى فلك القمر، ولا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى نصفه، فيمتلئ فيصير بدرًا، ثم يؤدي إلى الشمس إلى آخر الشهر، وتدفع الشمس إلى نور فوقها. فيسري ذلك في العالم، إلى أن يصل إلى النور الأعلى الخالص.
ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء في هذا العالم، إلا قدر يسير منعقد، لا تقدر الشمس والقمر على استصفائه، فعند ذلك يرتفع الملك الذي يحمل الأرض، ويدع الملك الذي يجذب السماوات، فيسقط الأعلى على الأسفل، ثم توقد نار حتى يضطرم الأعلى والأسفل، ولا تزال تضطرم حتى يتحلل ما فيها من النور، وتكون مدة الاضطرام ألفًا وأربعمائة وثمانيًا وستين سنة.
وذكر الحكيم ماني في باب الألف من الجبلة الأولى، وفي أول الشابرقان: أن ملك عالم النور في كل أرضه لا يخلو منه شيء، وأنه ظاهر باطن، وأنه لا نهاية له، إلا من حيث تناهي أرضه إلى أرض عدوه.
وقال أيضًا: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والمزاج المحدث هو الخير والشر.
وقد فرض ماني على أصحابه العشر في الأموال كلها، والصلوات الأربع في اليوم والليلة، والدعاء إلى الحق، وترك الكذب والقتل والسرقة والزنا والبخل والسحر وعبادة الأوثان، وأن يأتي على ذي روح ما يكره أن يؤتى إليه بمثله.
واعتقاده في الشرائع والأنبياء: أن أول من بعث الله تعالى بالعلم والحكمة آدم أبو البشر، ثم بعث شيثًا بعده، ثم نوحًا بعده، ثم إبراهيم بعده، عليهم الصلاة والسلام. ثم بعث بالبددة إلى أرض الهند، وزَرَادشت إلى أرض فارس، والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب، وبولس بعد المسيح إليهم، ثم يأتي خاتم النبيين إلى أرض العرب.»
-
(٤)
«حكى الوراق: أن قول المزدكية كقول كثير من المانوية في الكونين والأصلين، إلا إن مزدك كان يقول إن النور يفعل بالقصد والاختيار، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق. والنور عالِم حساس، والظلام جاهل أعمى، وأن المزاج كان على الاتفاق والخبط، لا بالقصد والاختيار، وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار.
وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال. ولما كان ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، أحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ. وحكي عنه أنه أمر بقتل الأنفس، ليخلصها من الشر ومزاج الظلمة.
ومذهبه في الأصول والأركان أنها ثلاثة: الماء والأرض والنار. ولما اختلطت حدث عنها مدبر الخير، ومدبر الشر، فما كان من صَفْوها فهو مدبر الخير، وما كان من كدَرها فهو مدبر الشر.
وروي عنه أن معبوده قاعد على كرسيه في العالم الأعلى، على هيئة قعود خُسرو في العالم الأسفل، وبين يديه أربع قوى: قوة التمييز، والفهم، والحفظ، والسرور؛ كما بين يدَي خُسرو أربعة أشخاص …»
ابن النديم البغدادي (الفهرست)
«هو أبو عيسى محمد بن هارون بن محمد الوراق. من المتكلمين النظارين. وكان معتزليًّا، ثم خلَّط وانتهى به التخليط إلى أن صار يُرمى بمذهب أصحاب الاثنين. وعنه أخذ ابن الراوَندي. وله من الكتب: كتاب المقالات. كتاب الحدث. كتاب الإمامة الكبير. كتاب الإمامة الصغير. كتاب الغريب المشرقي في النوح على الحيوان. كتاب اقتصاص مذاهب أصحاب الإثنين والرد عليهم. كتاب الرد على النصارى الكبير. كتاب الرد على النصارى الأوسط. كتاب الرد على النصارى الأصغر. كتاب الرد على المجوس. كتاب الرد على اليهود» (٢١٦).
«أسماء وذكر رؤساء المنانية في دولة بني العباس … ومن رؤسائهم المتكلمين الذين يُظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة: ابن طالوت، أبو شاكر، ابن أخي أبي شاكر، ابن الأعدى الحريزي، نعمان بن أبي العوجاء، صالح بن عبد القدوس. ولهؤلاء كُتُب مصنفة في نصرة الاثنين ومذاهب أهلها. وقد نقضوا كتبًا كثيرة صنفها المتكلمون في ذلك. ومن الشعراء: بشار بن برد، إسحق بن خلف، ابن سَيَابَة، سَلْم الخاسر، علي بن الخليل، علي بن ثابت. وممن تشهر أخيرًا: أبو عيسى الوراق، وأبو العباس الناشئ، والجَيهاني محمد بن أحمد» (٤١٠).
عبد القاهر البغدادي (الفَرْق بين الفِرَق)
-
(١)
«ذكر أبو عيسى الوراق في كتابه أن بعض أصحاب هشام [بن الحكم] أجابه إلى أن الله عز وجل: مماسٌّ لعرشه لا يفضل منه شيء عن العرش ولا يفضل من العرش عنه.»
-
(٢)
«وقد روى أن هشامًا، مع ضلالته في التوحيد، ضل في صفات الله أيضًا، فأحال القول بأن الله لم يزل عالمًا بالأشياء.»
-
(٣)
«وحكى أبو عيسى الوراق أنه [هشام] زعم أن لمعبوده وَفْرَةً سوداء، وأنه نور أسود وباقيه نور أبيض.»
القاضي عبد الجبار (المغني في أبواب التوحيد والعدل)
-
(١)
«وحكى أبو عيسى الوراق عن أكثرهم [أي المانوية] أن النور لم يزل مرتفعًا في ناحية الشمال، والظلمة منحطة في ناحية الجنوب. وقال بعضهم: كل واحد منهما إلى جنب الآخر. وقال بعضهم إن تلاقيهما على جهة الانتصاب وفي الظلمة اضطجاع. واختلفوا في تلاقيهما، فقال بعضهم: يتماسَّان من غير فاصل كتماسِّ الشمس والظل، وهذا قول معظمهم. وقال بعضهم إن تلاقيهما على المجاورة وبينهما فرجة.
وزعموا أن كل واحد منهما خمسة أجناس؛ أربعة أبدان، وهي النور النار والماء والريح، والخامس هو الروح، وهو النسيم، والنسيم يتحرك في هذه الأبدان. فأبدان الظلمة: الحريق والظلمة والسموم والضباب، وروحها الدخان، ويسمونها الهمامة. وزعموا أن أبدان النور يخالف بعضها بعضًا وتشترك في أنها نور. وروح النور لم تزل تنفع أبدانها وتنفعها أبدانها. وروح الظلمة تضر بأبدانها وتضر بها أبدانها. وحُكي عنهم أن الأجناس الخمسة منها سواد وبياض وحمرة وصفرة وخضرة؛ فما كان منها من بياض في عالم النور فهو خير، وما كان منه في عالم الظلمة فهو شر. ولهما حواسُّ خمس، فما كان منها في النور فهو خير، وما كان منها في الظلمة فهو شر. وزعم أكثرهم أن الأجناس والأرواح جميعها حي حساس. قال بعضهم في الروحين إنهما حيان. وأبدان النور حية حياة طاهرة لا حياة حس وتمييز؛ وأبدان الظلمة وأجناسها ميتة فاسدة.
وحُكي عن أبي عيسى الوراق أن أفعال نفسيهما باختيار؛ لكن اختيارهما لا يعدو ما في طبعيهما. قالوا: وإنما تختلف الأشياء في الخير والشر والحسن والقبح والعلم والجهل، فيكون بعض ذلك أكثر من بعض على قدر كثرة أجزاء النور وأجزاء الظلمة. وقال في المزاج: هو في عالم الظلمة دون عالم النور.
وقال الوراق في كتابه، وكان ثنويًّا: هم على ثلاث فرق: فرقة تنفي الأعراض، وأخرى تثبتها أعيانًا للأجسام، وثالثة زعمت أنها صفات ولا يقال هي الجسم أو غيره. واختلفوا في خلاص النور من الظلمة بعد المزاج، فمثلهم من قال: إن كل النور يتخلص من الظلمة. ومنهم من قال يبقى في الظلمة بعضه، لأن النور إذا تخلص منها جعل بينه وبينها حاجزًا من الظلمة، وهي أجزاء النور يرتبط بها لئلا تعود إليه فتؤذيه. ثم اختلفوا فقال بعضهم: إذا غلبت الظلمة على النور وطال مكثه عمل عملها؛ وأنكر ذلك سائرهم؛ وكذلك النور إذا غلب على الظلمة» (ج٥، ١٠–١٢).
-
(٢)
«حكاية قول المَزْدَقية. حكى الوراق أن قولهم كقول كثير من المانوية في الكونين، لكنهم زعموا أن النور يفعل على القصد والظلمة تفعل بالخبط» (ج٥، ١٦).
أبو حيان التوحيدي (الإمتاع والمؤانسة)
-
(١)
«قال أبو عيسى الوراق، وكان من حذاق المتكلمين، إن الآمر بما يعلم أن المأمور لا يفعله سفيه، وقد علم الله من الكفار أنهم لا يؤمنون، فليس لأمرهم بالإيمان وجهٌ في الحكمة.
قال أبو سليمان: انظر كيف ذهب عليه السر في هذه الحال، من أين أتوا، وكيف لزمتهم الحجة.»
-
(٢)
«وقال أبو عيسى أيضًا: المعاقب الذي لا يستصلح بعقوبته من عاقبه، ولا يستصلح به غيره، ولا يشفي غيظه بعقوبته جائر، لأنه قد وضع العقوبة في غير موضعها. قال: لأن الله تعالى لا يستصلح أهل النار ولا غيرهم، ولا يشفي غيظه بعقوبتهم، فليس للعقوبة وجهٌ في الحكمة. هذا غرض كتابه الذي نسبه إلى الغريب المشرقي.»
ابن كثير (البداية والنهاية)
«وقد كان أبو عيسى الوارق مصاحبًا لابن الراوَندي، قبحهما الله، فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأُودع السجن حتى مات، وأما ابن الراوَندي فهرب فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي وصنف له — في مدة مُقامه عنده — كتابه الذي سماه «الدامغ للقرآن» فلم يلبث بعده إلا أيامًا يسيرة حتى مات لعنه الله . ويقال: إنه أُخذ وصُلب».
أبو الفتح العباسي (معاهد التنصيص على شواهد التلخيص)
«وذكر أبو علي الجُبَّائي أن السلطان طلب ابن الراوَندي وأبا عيسى الوراق، فأما أبو عيسى فحُبس حتى مات، وأما ابن الراوَندي فهرب إلى ابن لاوي اليهودي، ووضع له كتاب الدامغ في الطعن على النبي ﷺ، وعلى القرآن، ثم لم يلبث إلا أيامًا يسيرة حتى مرض ومات.»
محمد باقر الداماد (الرواشح السماوية)
«العامة … يقولون: الظاهر أن هذه المذاهب؛ أعني دعوى النص الجلي، مما وضعه هشام بن الحكم، ونصره ابن الراوَندي وأبو عيسى الوراق وإخوانهم.»
«وبالجملة، لا مطعن ولا غَميزة في أبي عيسى أصلًا، وأما الطاعن فيه مطعون في دينه، والغامز فيه مغموز في إسلامه. وقال السيد المرتضى: إنه رماه المعتزِلة مثلما رموا ابن الراوَندي … ونقله العلامة عنه في الخلاصة.»
عبد الوهاب القنوجي (بحر المذاهب)
«والذين صنفوا كتبهم [أي الشيعة]: هشام بن الحكم، وعلي بن منصور، وأبو الأحوص، والحسين بن سعد، وأبو عيسى الوراق، وابن الراوَندي.»
الشريف المرتضى (الشافي)
-
(١)
«فأما أبو عيسى الوراق فإن التثنية مما رماه بها المعتزِلة، وتقدمهم في قذفه بها ابن الراوَندي لعداوة كانت بينهما، وكانت شبهته في ذلك وشبهة غيره تأكيدَ أبي عيسى لمقالة الثنوية في كتابه المعروف بالمقالات، وإطنابَه في ذكر شبهتهم، وهذا القدر إن كان عندهم دالًّا على الاعتقاد فليستعملوه في الجاحظ، وغيره ممن أكد مقالات المبطلين ومحَّضها وهذَّبها.
فأما الكتاب المعروف بالمشرقي، وكتاب النوح على البهائم، فهما مدفوعان عنه، وما يبعد أن يكون بعض الثنوية عملهما على لسانه، لأن من شأن من يُعرف ببعض المذاهب أن يضاف إليه مما يدخل في نصرتها الكثير، وليس بنا أن نضيف مثل هذه المذاهب القبيحة إلى من لم يكن متظاهرًا بها، ولا مجاهرًا باعتقادها. وإن لم يكن يتبرأ منها، ويتبرأ من أهلها. لأن الدين يحجز عن ذلك ويمنع منه، ولا نعمل إلا على الظاهر، وأن واحدًا أو اثنين ممن انتسب إلى التشيع واحتمى به، لو كان في باطنه شاكًّا أو ملحدًا، أيُّ تبعة تلزم بذلك نفس المذهب وأهله إذا كانوا ساخطين لذلك الاعتقاد، ومكفِّرين لمعتقِده والذاهب إليه، ولو جُعل مثل هذا وصمة على المذهب وعيبًا على أهله لكانت جميع المذاهب موصومة معيبة، لأنها لا تخلو من أن يُنسب إليها من لم يكن في الحقيقة منها، وأين المعيِّر بما تقدم، والقادح به من قول شيوخه وأسلافه القبيحة، ومذاهبهم الشنيعة؟» (ج١، ٩٠).
-
(٢)
«هذه كتب أبي محمد وأبي سهل رحمهما الله في الإمامة تشهد بما ذكرناه، وتتضمن نصرة جميع ما ذكره أبو عيسى الوراق وابن الراوَندي في كتبهما في الإمامة، بل قد اعتمدا على أكثر ما ذكراه من الأدلة، وسلكا في نصرة أصول الإمامة تلك الطرق بعينها. ومن خفي عليه ما ذكرناه من قولهم ظالم لنفسه بالتعرض للكلام في الإمامة» (ج١، ٩٨).
-
(٣)
«إن شيوخنا ادعَوا، بل بينوا أن من ادعى النص على هذا الوجه [أي النص الجلي في الإمامة] عددهم قليل، وإنما تجاسر على ذلك ابن الراوَندي وأبو عيسى الوراق وقبلهم هشام بن الحكم على اختلاف الرواية عنه فيه» (ج٢، ١٠٧-١٠٨).
ابن القُمِّي (الكُنى والألقاب)
«محمد بن هارون أبو عيسى الوراق، صاحب «كتاب الإمامة» و«كتاب السقيفة» و«كتاب أخلاق الشيعة» و«المقالات»، كان من المتكلمين الأجلاء في طبقة من لم يُرو عنهم. قال المحقق الداماد في محكي رواشحه: هو من أجلَّة المتكلمين من أصحابنا وأفاضلهم، والسيد المرتضى علَمُ الهدى في «المسائل»، وفي «كتاب الشافي» وفي «البتانيات» وغيرها، كثيرًا ما ينقل عنه ويبني على قوله ويقول على كلامه، ويكثر من قوله: «قال أبو عيسى الوراق في كتابه كتاب المقالات». والأصحاب يكثرون من النقل عن كتاب أبي عيسى الوراق في نقض العثمانية، والعامة يبغضونه جدًّا [أي كتاب العثمانية]» (عباس القُمِّي، الكنى والألقاب، ٣: ٢٠٨).