استبداد اللاهوت وتخييل الإلحاد
الفقه في دلالته العامة نمذجةٌ اجتماعيةٌ تصوغ الشرْع، وتقنين واقعي ينظم الأوامر الإلهية تحت مظلة الإيمان. وفي دلالته الخاصة هو انتقال من الدين من حيث هو معرفة كونية تتيح للفرد استلهام أسلوبه في الخلاص الذاتي باتباع حد أدنى من «الالتزام»، إلى الدين بوصفه جريدةً رسميةً تشترط الالتزام الجماعي باللاهوت الإسلامي، وتصنف محاولات الخلاص الفردي تحت بند الهرطقة.
في أوج اللحظة العربية — كما رأينا في بغداد — تحول الإسلام من كونه دلالة كونية تشير إلى تجارِب أممية سابقة، عبرت عنها — بشكل رئيسي — الديانتان اليهودية والنصرانية، إلى دلالة شوفينية تجعل أتباع هاتين الديانتين ذِمِّييِن لا يجوز القبول بهم إلا بوصفهم من دافعي الضرائب؛ فالوسطاء المسلمون يشترون دينهم من الله، وعلى اليهود والنصارى أن يشتروا دينهم من المسلمين؛ لأن هؤلاء أصبحوا الوكيل الحصري والوحيد الذي يحتكر هذه التجارة. أما الوثنيون أو المجوس أو الأرواحيون أو اللادينيون فإما أن يصيروا مسلمين؛ أي أن يحولوا أنفسهم إلى جنود، وإما أن يصيروا ذميين؛ أي أن يقبلوا دفع الضرائب؛ لأن وجودهم على دياناتهم تلك يسبب إحراجًا يعرقل عمل هذه المنظومة ولا يرتضيه الفقهاء.
فقه العقيدة، وتحويل الإيمان الديني من معرفة بسيطة إلى «جريدة عُرفية»، أنتج كذلك فقه الدولة وصنع «جريدة قانونية» هي أول أشكال الدساتير البدائية التي عرفتها الدولة العربية.
ربما لم تُكتب «مُدوَّنة» هذا الدستور إلا في العصر الحديث، تأثرًا بالتجارِب الأوروبية، لكن موادها مبثوثة وموزعة في نصوص الأخباريين ورواة الأثر، وبعض الشعراء.
الإلحاد والزندقة
الإلحاد في معناه العام رَفْضٌ معرفيٌّ يُنكر الدُّوغْما الدينية، ويعيد تأويل الإيمان فينزع عنه ما أُلبِس من يقين وقداسة، ويرده إلى ضروراته الإنسانية. والإلحاد مع ذلك ليس نقيض الإيمان؛ فالإلحاد في أحد معانيه إيمان مضاد.
أما الزندقة فهي ظاهرة تاريخية، ترتبط نشأتها بظهور الاصطلاح نفسه، وبتمظهرها في عدد من التجارِب، وعلى الأخص في العهدين الأموي والعباسي الأول. قبل ذلك كان الاختلاف في الدين يُوصف بالكفر أو الشرك أو النفاق، أو يُترَك إلى حُكْم الوفاق وحرية المعتقد: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
في التراث العربي يقع عادةً دمج الإلحاد والزندقة في تجرِبة واحدة، ومبعث هذا الدمج إما سياسي وإما مذهبي، والسياسة والتمذهب متداخلان أشد التداخل، بحيث لا يمكننا التوقف عند آراء المؤرخين العرب التي تصف الإلحاد والزندقة، دون إعادة التفكير في البواعث التي تنظم تلك الآراء، إذ إننا — بغير ذلك — لا نعثر سوى على مواقف المؤرخين أنفسهم، أي على وصف تجارِب حياتهم، لا على حقيقة التجارِب نفسها.
إن الدلالات التي نتوخاها من قراءة متون التاريخ العربي خلال القرون الأربعة الهجرية الأولى سرعان ما تغيب وراء اكتظاظ مواقف المصنِّفين من الرموز المذهبية والسياسية التي عاصروها، أو روَوْا سيرتها، عِيانًا أو تخييلًا. لكننا من جهة ثانية، يجب ألا نلجأ إلى تعميم القراءة على هذا النحو؛ فالكثير من النصوص، حتى وإن لم تصرح بالوقائع المجردة، فإنها تشي بحد أدنى من هذه الوقائع، وعلى القراءة آنذاك أن تكون مركبةً، توظف الدلالات المباشرة التي تحيل إليها النصوص دون توسط، وتوظف الدلالات غير المباشرة (الممكنة) التي نمر إليها عبر عدد من الرموز والعلامات التي تُضمِرها النصوص، خاصةً عند تجريد لفظَي الإلحاد والزندقة من دلالتهما الاصطلاحية المرتبطة بنشأة كل منهما.
-
المانوي.
-
كل صاحب بدعة.
-
كل من لا يتبع مذهب السُّنَّة.
-
الشعراء.
وسوقًا على ذلك كل فيلسوف ومفكر؛ فالفلاسفة ليسوا بتعبير الخوارزمي إلا «ملاحدة العصر وزنادقة الدهر.»
وكان الوليد بن يزيد ممن رُمُوا بذلك، وقد «أقام في الملك سنة وشهرين وأيامًا، وهو القائل:
ورمى المصحف بالنُّشَّاب وخرقه، وقال:
لقد حارب المهدي هذه النزعة محاربة شديدة، ونظم ملاحقة الزنادقة تنظيمًا دقيقًا، فعهد إلى أحد أصحابه بتتبعهم وسماه صاحب الزنادقة، وهو عمر الكَلْواذي، وبلغ الاتهام بالزندقة حدًّا واسعًا تداخل فيه الديني والسياسي، حتى نُسبت إليها جميع أشكال الرفض والتذمر والعصيان.
الهادي خالف سياسة والده في تأليف قلوب آل علي، فقطع عنهم الصلات والعطاء وجفاهم، وجفاهم عماله أيضًا، ثم تتبعهم وقسا عليهم، ووسمهم بالزندقة، فكان أن خرج عليه الحسين بن علي (من سلالة الحسن بن علي) في المدينة، واستولى على بيت مالها وتبعه خلق كثير، فأرسل إليه من حاربه بفَخٍّ، فقُتل فيها.
تخييل الإلحاد
في تخييل الإلحاد في الثقافة العربية لا تُقرأ النصوص الإلحادية بوصفها نصوصًا عقلانية، بل بوصفها بيانات لاهوتية مضادة، تُنزَع عنها صفة الفكر، وتُوَاجه بصفة الكفر، أو يُنظر إليها — إذا ما نشأ جدل بين الطرفين — بوصفها مقدمات دين جديد، يختبئ أنبياؤه المزيفون بين المؤمنين.
لم تكن منظومة اللاهوت الإسلامي لتكتمل إلا باكتمال منظومة الاستبداد السياسي والاستئثار بالحكم؛ فالفكر العربي نشأ عن جدل سياسي يتصل بنظرية الحكم التي تُكمل نظرية النبوة، وهي العلاقة التي تلخصها كلمة «خلافة»؛ فالخليفة بدأ أولًا بصفة نهوضه بأمر العقيدة، وانسلخ تدريجيًّا لتطغى عليه صفة النهوض بأمر الناس. لقد وُلد نظام الحكم الإسلامي في منطقة وسطى غامضة تقع بين الدين والدنيا؛ وهو ما جعل أكثر الخلفاء استقرارًا أنجحهم في الجمع، حدَّ التطابق، بين التوحيديْن: وحدانية الله، وواحدية ولي الأمر.
هذه الاستراتيجية الانعكاسية أدت كذلك إلى تخييل الإلحاد، واللقاء بين التفكير والتكفير؛ فكل من يخالف الوحدانية كافرٌ شرعًا، وكل من يعارض الواحدية والاستئثار زنديقٌ ملحدٌ يتوجب على الفقهاء تلبيسه حدَّ الكافر؛ أي القتل.
ومن اللاهوت إلى السياسة إلى الفكر نجد أن الإقصاء أصبح سمة أساسية من سمات المُدَوَّنات التأريخية الإسلامية؛ فالمؤرخون — بحكم انتماءاتهم السياسية أو المذهبية أو الشخصية — يعمِدون إلى إعلان الحرب على بعضهم البعض؛ إنهم يقذفون بعضهم بعضًا بسهام التكفير ما استطاعوا. صفحات التاريخ العربي التي نقرؤها تبدو ميادين حرب أبدية. التاريخ ملاحقةٌ لا هوادة فيها، عناوين الكتب هي نفير متصل، وبين الفرقاء تنزل الجيوش والكتائب كل يوم، يبحرون بين السطور، يسيلون مع الحبر، يبحثون عن أعدائهم، فإذا «ثقِفوهم» قتلوهم، عملًا بالآية ٩١ من سورة النساء. «الثقافة» الإسلامية هي نتاج هذه «المثاقفة»، هي نتاج القتل والاقتتال بين الفرقاء الذين — مع غروب كل معركة — يعودون منهكين إلى أسوارهم، إلى أغلفة الدهر، في انتظار جيل قادم.
في أثر الورَّاق
ما إن يأتي المؤرخون إلى اسم أبي عيسى الورَّاق حتى يردفوه بالدعاء: «قبَّحه الله، لعنه الله …» اللعنات التي تستدعي مباشرة أول الملحدين: إبليس. تقع أبْلَسَة الورَّاق لأنه ملحد، ولأن مذهبه كان أعجز من أن يؤسس جيشه الخاص.
في دراسة الشذرات المَرْوِية عن أبي عيسى الورَّاق، نؤخذ بتلك الجرأة المحيرة التي واجه بها عصره وخطابه السائد، فأنجز خطابًا مغايرًا لا ينتمي إلى عصره، بل يتجه رأسًا إلى المجنَّب والمحرَّم والمسكوت عنه: القرآن، أكثر النصوص قدسيةً، والضميمة الأخيرة التي توصل إليها البشر ليقرءوا براهين لا تُرَد تُثبت وجود الله.
كان الورَّاق لحظة مؤسِّسة في تاريخ نقد الفكر الديني، ولقد استطاع أن يعيد الجدل إلى بدايةٍ أولى تُسَائِل الأسس، وتنتقد الأصول.
إننا لا نعرف الكثير عن سيرة الورَّاق وصباه، فهو ليس تلميذ أحد، ولم يقتفِ أثر من سبقه، درسًا أو سماعًا، ولكننا نعرف أنه كان معلِّمًا للكثيرين. وما نعرفه عن سيرة الورَّاق هو أقل بكثير مما نعرفه عن أثره، وإن كانت النصوص غائبة في الحالتين. لسنا نجد إلا شذرات متوزعة هنا وهناك لجأنا إليها لنعيد إظهار صورة سيرته.
الأرجح أن أسرته قد هاجرت من الأحواز لتستوطن البصرة، عام ١٧٥ﻫ (٧٩٢م)، في عهد هارون الرشيد، ولكن لا اتفاق على تاريخ مولده، كما أن تاريخ وفاته مختلفٌ فيه. المسعودي في «مُروج الذهب» يقول إنه تُوُفِّيَ عام ٢٤٧ﻫ (٨٦١م). يقول شتيرن: «إذا صدق أن ابن الراوَندي تُوُفِّيَ حوالي نهاية القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) فإن تلك السنة التي قال بها المسعودي تكون مبكرة جدًّا عن الواقع. وسوف يُحسم هذا الخلاف إذا استطاع المرء أن يتثبت من الفقرة التي أوردها الشهرستاني في صفحة ١٩٨ وذكر بها سنة ٢٧١ﻫ هي استمرار للشاهد المَرْوِيِّ عن أبي عيسى.»
-
كتاب المقالات.
-
كتاب الحدث.
-
كتاب الإمامة الكبير.
-
كتاب الإمامة الصغير.
-
كتاب الغريب المشرقي في النوح على الحيوان.
-
كتاب اقتصاص مذاهب أصحاب الإثنين والرد عليهم.
-
كتاب الرد على النصارى الكبير.
-
كتاب الرد على النصارى الأوسط.
-
كتاب الرد على النصارى الأصغر.
-
كتاب الرد على المجوس.
-
كتاب الرد على اليهود.
هذه الآثار تلقفها المؤرخون والكُتَّاب والأدباء وأساطين الرواية في بغداد دون أن يفصحوا عن اسمه، تجنبًا أو تقيةً؛ وعلى سبيل المثال فإننا عندما نقرأ الشهرستاني ينتابنا شعور بأنه يحجب نصوص الورَّاق وراء عبارات تحيل على مجهول: «قال بعضهم …»، «قالوا …»، «زعموا …»، «حُكِيَ عن قوم …»، «حكى جماعة …» إلخ، إلا إنه لا يملك إلا الإشارة إليه أحيانًا، فهو ينقل عن الورَّاق مثلًا جزءًا كبيرًا مما أورده عن الثنوية (الباب الثاني)، يبدأ بقوله: «حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسيًّا عارفًا بمذاهب القوم.» وكذلك في بيان المَزدكية.
أما الكتب التي وُضعت للرد على الورَّاق ونقد أطروحاته فكثيرة ولا شك، لخطر ما كان يعرضه، منها:
«تبيين غلط محمد بن هارون، المعروف بأبي عيسى الوراق، عما ذكره في كتابه في الرد على الثلاث فرق من النصارى» ليحيى بن عدي، وكان مسيحيًّا ومفكرًا مرموقًا يصفه صديقه ابن النديم في المقالة السابعة من الفهرست بقوله: «إليه انتهت رياسة أصحابه في زماننا. قرأ على أبي بشر متَّى، وعلى أبي نصر الفارابي … وكان أوحد دهره، ومذهبه من مذاهب النصارى اليعقوبية.» ويرجح سمير اليسوعي أن يحيى بن عدي قد كتب رده هذا بين ٩٦١ و٩٦٩م، مستخدمًا فيه الآراء الأساسية التي ضمنها أول مصنفاته وهو «مقالة في التوحيد»، وضعه عام ٣٢٨ﻫ (٩٤٠م)، وهي الآراء ذاتها التي كان قد استخدمها أيضًا في «الرد على الكندي» الذي يُرجَّح أنه وضعه عام ٣٥٠ﻫ (٩٦١م).
وقد حفظت المكتبة العربية المسيحية رد يحيى بن عدي على الورَّاق (انظر الحاشية أدناه) من خلال نسخ متواترة يعود أقدم مخطوط محفوظ منها إلى ٦٢٤ﻫ (١٢٢٧م)، إذ يبدو أن من بين المناظرات الكثيرة التي عقدها الورَّاق مع فلاسفة ومفكري زمانه، فإن الجدل مع ابن عدي كان أشهرها.
«حاشية»
وضع ابن كاتب قيصر مختصرًا لجواب يحيى بن عدي على أبي عيسى الورَّاق. وقد فُقد هذا المختصر، إلا إن أبا إسحق بن العسال اعتمد عليه، ابتداءً من الجزء الثاني من «مجموع أصول الدين»، وعنوانه: «تفصيل المعاني التي يقال عليها لفظة الواحد»، يقول: «كل ما يَرِد في هذا الكتاب، من رد أبي عيسى الوراق وجواب يحيى بن عدي عنه، جميعُه من مختصرٍ اختصره الأجلُّ عَلَم الرئاسة ابن كاتب قيصر، من كتاب أصل الرد والجواب. والأعداد التي عليه هي أعداد المختصر، لا كتاب الأصل» [مخطوط الفاتيكان رقم ١٠٣ عربي (القرن الثالث عشر الميلادي) ورقة ١٧٢، ومخطوط باريس رقم ٢٠٠ عربي (القرن السادس عشر) ورقة ١١٧].
نقل أبو البركات بن كُبْر في «مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة» (طُبع الجزء الأول منه بالقاهرة سنة ١٩٧١م)، أجزاءً كثيرة من مؤلفات يحيى بن عدي، منها صفحات من «جواب يحيى على أبي عيسى الوراق»، حسب مختصر ابن كاتب قيصر، دون الإشارة إلى أحدهما. ويبدو أنه نقل هذه الصفحات، لا من الأصل أو من مختصر ابن كاتب قيصر رأسًا، وإنما عن «مجموع أصول الدين» لأبي إسحق بن العسال.
ذكر أبو الفضائل بن العسال في «الكتاب الأوسط» جواب يحيى بن عدي على أبي عيسى الورَّاق. وقد وضع الصَّفِيُّ مختصرًا لهذا الجواب، غير الذي وضعه ابن كاتب قيصر، وهو محفوظ اليوم في مخطوط الفاتيكان رقم ١١٥ عربي (منسوخ سنة ١٢٦٠م).
ووضع أبو سليمان محمد بن طاهر بن بَهْرام السِّجِستاني المنطقي «قول في الواحد»، ذكره الصَّفِيُّ بن العسال، ملحقًا للمختصر الذي وضعه لجواب يحيى على رد أبي عيسى الورَّاق. وهو قول صغير مقتبس من تعليم أستاذه يحيى بن عدي. وقد أضاف الصفي حاشية على هذا القول.
وهناك مخطوطان فريدان: الأول مخطوط ميونيخ (عربي ٩٤٨) ويتألف من جزأين لا علاقة بينهما، والجزء الثاني (ورقة ٥١–١٢٢) هو مختصر ابن العسال ليحيى بن عدي. أما المخطوط الثاني (الفاتيكان رقم ١١٥ عربي) فمنسوخ سنة ١٢٦٠م، ويبدو أنه من تأليف الصَّفِي بن العسال. وهو عبارة عن مختصر ثانٍ لجواب يحيى على أبي عيسى الورَّاق. وهذا المختصر يختلف عن مختصر ابن كاتب قيصر. ويتألف المخطوط من ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول: (ورقة ١-١٥٨) يحتوي على مختصر «تبيين غلط محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الورَّاق، عما ذكره في كتابه في الرد على الثلاث فرق من النصارى». والجزء الثاني (ورقة ١٥٩–١٩٢) ما هو إلا تكملة مخطوط ميونيخ. أما الجزء الثالث (ورقة ١٩٣–٢٩٥) فيحتوي على مختصرات لمؤلفات يحيى بن عدي وغيره من المؤلفين، من وضع الشيخ الصفي.