مكائد المعتزِلة
أصبح المعتزِلة مع المأمون والمعتصم والواثق حزبًا مكيافيليًّا،
يتداخل في برنامجه علم الكلام بالسياسة، وعلم الشرائع بالتشريع،
بحيث لم يكن مَجْمَع المعتزِلة يختلف عن أي كهنوت منظم آخر. لقد
بدءوا يمارسون ما مُورس ضدهم من اضطهاد ومطاردة في عهد المنصور
والرشيد، فأصبحوا حزبًا أيديولوجيًّا منظمًا يقف وراء السلطة
الحاكمة ويدعمها بأسلوب جديد لم يعتده العرب في تاريخ الحكم
والملك.
العباسيون كما يقول محقق «الانتصار»: «استخدموهم ودعَوهم إلى
مجالسهم وأكرموهم وفضَّلوهم على سائر العلماء، وكان لأحدهم مكان
راسخ عندهم، وتأثير مستمر عليهم، وهو أحمد بن أبي داود القاضي، ثم
الوزير، الذي زاد على علمه بالكلام علمه بالأدب والمهارة السياسية،
فصارت المعتزِلة الفرقة الفائزة في ذلك الزمان، وأخذوا يستعْلون
على خصومهم، ويستولون عليهم حتى بالغوا وغالَوا».
١ وفي هذا المناخ من توطين الغيبي، وتأليه السياسي،
ارتبطت محنة خلق القرآن بالقاضي أحمد بن أبي داود الذي نصب محاكم
التفتيش من أجل تصفية المارقين عن السلطة وخصوم المعتزِلة في الوقت
نفسه، وما لم تكن التهمة هي الزندقة، فهي في أدنى الأحوال خروج عن
الجماعة ومفارقتها، ولم يكن هذا الشعار سوى صيغة أخرى من الخروج
على الطاعة؛ طاعة الله متمثلًا في أمير المؤمنين.
كان من مكائدهم أنهم صاروا يَشُون بخصومهم وأعدائهم إلى الخليفة
بتهمة الإلحاد الذي يوجب حد الارتداد. يقول الخياط في «كتاب
الانتصار»: «وأما ابن حائط فلا أعلم أحدًا كان أغلظ عليه من
المعتزِلة، ولا أشد عليه منها، ولقد بلغ من شدتها عليه أن خبَّرت
الواثق بإلحاده، فأمر ابن أبي داود أن ينظر في أمره، وأن يقيم حكم
الله فيه، فمات — لعنه الله — في ذلك الوقت، وعجل الله بروحه إلى النار.»
٢
فالخياط لا يكتفي بموت ابن حائط، بعد أن أفلت من الإعدام، بل
يلاحقه إلى العالم الآخر في نبرة من التشفي الغريب، مؤكدًا أن الله
قد أرسله إلى جهنم على عجل منه.
وكانوا يؤلبون السلطة والعامة على خصومهم ما استطاعوا. يقول ابن
الجوزي في المنتظم متحدثًا عن ابن الراوَندي: «قال ابن عقيل:
وعجبي كيف عاش وقد صنف «الدامغ» يزعم أنه قد دمغ به القرآن
و«الزمرد» يُزري به على النبوات ثم لا يُقتل! وكم قد قُتل لص في
غير نِصاب، ولا هَتْك حِرْز، وإنما سلِم مدة وعاش لأن الإيمان ما
صفا في قلوب أكثر الخلق، بل في القلوب شكوك وشبهات، وإلا فلما صدق
إيمان بعض الصحابة قتل أباه.»
٣
تعود هذه الأساليب إلى زمن أقدم، ربما مع بدء شقاق المسلمين
وتشتتهم فرقًا وطوائف، «وقد حصل أن تمنى واصل بن عطاء اغتيال بشار
بن برد … ثم أشاروا بنفيه من البصرة، حتى قُتل من قِبل الخليفة
المهدي بن المنصور، وقد تكررت حالته في شخصيات عديدة أخرى، لكنهم
سلِموا من القتل، بالرغم من أن تهمة الزندقة كانت تحوم على رءوسهم،
فبعده ظهر أبو العلاء المعري، ثم عمر الخيام، وآخرون.»
٤
وهم لا يستنكفون بعد ذلك أن يلجَئوا إلى الوصف بالخساسة والوضاعة
دون مواربة أو تروٍّ. يقول الخياط مخاطبًا الراوَندي يُهينه
بالورَّاق: «أستاذك وسلفك سلف السوء الملقي إليك الإلحادَ أبو عيسى
الوراق، المخرج لك عن عز الاعتزال إلى ذل الإلحاد والكفر»، «قد كان
تعرُّضنا لنقض كتابِ ساقطٍ مثلك ضربًا من العناء، ولكنا نقضنا على
أستاذَيك أبي حفص الحداد وأبي عيسى الوراق، مع خساستهما وضَعَتهما،
فليس بمستكثَر أن ننقض على من قارَبهما من أتباعهما.»
٥ لم يعد الاختلاف يوجب نقدًا فكريًّا، صار مدعاةَ قدحٍ
ورذالة.
الرفض بين اللاهوت والسياسة
كان الرفض في العصرين الأموي والعباسي «تصنيفًا» سياسيًّا يستتبع
«شبهة» في الدين. إلا أن طائفة المعتزِلة، عندما أصبحت تمثل
الأيديولوجيا الرسمية (عهد المأمون)، قبل أن تنقلب السلطة عليها
وتضطهدها، لم تكن تخلو من المتشيعين. لكن الرفض مع ذلك هو غير
التشيع؛ فالرفض، كما فُهم آنذاك، إنما كان عمل المتشيعين من أجل
الاستيلاء على السلطة، أما الشيعة فلم يكونوا سوى الأبناء من آل
البيت، ربما غير المعنيين أصلًا بالعمل من أجل الوصول إلى السلطة
خلافةً أو إمارة، ولكن أشدهم أثرًا على أنظمة الحكم آنذاك كانوا من
المتشيعين لهم من عرب وفرس وغيرهم.
يقول الشهرستاني إن إبراهيم بن سيَّار النظَّام: «انفرد على
أصحابه [المعتزِلة] بمسائل؛ منها … ميله إلى الرفض … قال: أولًا:
لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرًا مكشوفًا، وقد نص النبي على
عليٍّ في مواضع، وأظهره إظهارًا لم يشتبه على الجماعة.»
٦ وهذه فرضية تبناها الورَّاق وابن الراوَندي ودافعا
عنها. وأعتقد أنها كانت سببًا مباشرًا في تأكيد وصفهما
بالملحدَيْن، وغير ذلك من الصفات التي تنسبهما إلى الزندقة والخروج
عن الدين؛ فهما هنا من المتشيعين وفق هذا التحليل. وفي مقابل ذلك
نجد الأشعري يقول: «الإمامة تثبيت بالاتفاق والاختيار، دون النص
والتعيين»، لكن ذلك لا يمنعه من القول: «لا نقول في حق معاوية
وعمرو بن العاص إلا أنهما بغيا على الإمام الحق، فقاتلهم عليٌّ
مقاتلة أهل البغي … ولقد كان عليٌّ على الحق في جميع أحواله، يدور
الحق معه حيث دار.»
٧ ومن كان هذا مذهبه عُدَّ من الشيعة، لا المتشيعين أو
أهل الرفض، ما دام مكتفيًا بسرد السيرة، لم يؤخذ عنه مناوأة الحُكم
في شخص الخليفة أو أمير المؤمنين.
كان الأشعري وسطيًّا، ونبذُه التطرفَ جعله يرفض الطرفين: الرافضة
والمعتزِلة، إلا إنه لم يكن عدوَّ الشيعة أو وسطيًّا في دَرَج
المعتزِلة، وقد وصف الوراق وابن الراوَندي بأنهما كانا يؤلفان
كتبًا في الإمامة للروافض
٨ دفاعًا عن حق آل البيت من أبناء علي في إمامة
المسلمين. والأشعري والورَّاق كانا من المعتزِلة بادئ الأمر، إلا
إن الأول اعتزلها توسطًا، ونقل المنهج الاعتزالي إلى فكر
السُّنَّة، بينما اعتزلها الثاني بعد أن لمس تناقضات أطروحاتها،
لينقل هو الآخر المنهج الاعتزالي إلى فكر الإلحاد.
لا نستطيع عزل تراث المعتزِلة عن تجارِبهم السياسية، وقد انعكست
هذه التجارِب بوضوح على المنهج الاعتزالي الذي كان عرضة للتناقض
والارتباك في أثناء معالجته بعض الأطروحات الفكرية، إذ بينما كان
المعتزِلة يتحولون من خلال إظهار مسألة كلامية دون أخرى إلى
معبِّرين عن أيديولوجيا السلطة، نرى تأثُّرهم بالخلاف الناشئ بين
رموز السلطة من وقت إلى آخر؛ فنراهم مثلًا ينصرون جماعة من أمراء
بني أمية على قولهم بالقدر، ثم ينصرون جماعة من بني العباس على
قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن،
٩ كما نرى كلام البغداديين منهم في النبوة والإمامة
يخالف كلام البصريين، مثلما كان من شيوخهم من يميل إلى الروافض.
١٠
إلا إن بين الاعتزال والتشيع جدلًا ليست هذه نهايته. يرصد
الشهرستاني ظاهرة عامة فيقول: «لما ظهرت المعتزِلة والمتكلمون من
السلف، رجعت بعض الروافض عن الغلو [تقديس الإمام] والتقصير [أنسنة
الله] ووقعت في الاعتزال، وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر
ووقعت في التشبيه.»
١١
لقد كان أكثر جماعة السلف يثبتون الصفات بوصفها أزلية، «ولا
يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقًا واحدًا»
١٢ دون تأويل، منهم: مالك بن أنس، وابن حنبل، وسفيان
الثوري … إلخ، ممن «سلكوا طريق السلامة»،
١٣ لكن الأشعري «أيد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك
مذهبًا لأهل السنة والجماعة، فانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية.»
١٤ لكن ذلك انعطف بهم إلى منهج المشبِّهة والكَرَّامية
والهِشاميين (الشيعة) من الذين يثبتون الصفات وينتهون إلى التشبيه
والتجسيم.
لكن الكَرَّامية يقولون أيضًا: «في الإمامة إنها تثبت بإجماع
الأمة دون النص والتعيين»، فهم أقرب، من هذه الجهة، إلى الأشعرية.
أما الخوارج، الذين اجتمعوا على التبرؤ من علي وعثمان، فمنهم من
يقترب من المعتزِلة في مسألة القدر، والاستطاعة قبل الفعل، وهم
أصحاب الحارث الإباضيون، ومنهم من يقترب من الشيعة في مسألة التقية
وهم الصُّفْرية والزيادية.
كان الصراع اللاهوتي إذن بين طوائف وأحزاب ليست في معزل عن
الصراع السياسي، بل هي في أحيان كثيرة جزء لا غنى عنه في ذلك
الصراع، أما إذا جاء الأمر إلى اسم مثل أبي عيسى الورَّاق، فإن
المسألة لا تستحق كبير عناء. الفرقاء يتوحدون، يخوضون حربًا في
ضربة واحدة، ينحرون الورَّاق ثم يعودون من جديد إلى جلودهم، بينما
يشخَب هو في دمه خارج التاريخ، دون أن تؤويه صفحة، ودون أن تسيل
ساقية صغيرة من الحبر تحت اسمه المبهم. ينجزون المهمة، يُكَبِّرون،
ثم يعودون قبل أن يتمكن أحد من سماعه، وعلى عجل يهيئون أنفسهم
لمعركة جديدة بين صفوفهم في الميدان الأبدي: التاريخ. الفتنة أشد
وأكبر من القتل، لا بأس إذن، يمثِّلون به، ويكتفون بقتل بعضهم
بعضًا.