المانوية
المانوية، نسبة إلى ماني المولود في بابل عام ٢١٦م، عقيدة انتشرت منذ القرن الرابع الميلادي، من الصين شرقًا إلى شبه جزيرة العرب غربًا. ولقد كانت طائفة المانوية تعيش في البداية بين ظَهرانَي المسلمين باعتبار أتباعها ذميين كغيرهم من الفرق والطوائف غير الإسلامية، إلى أن أصبح اسم ماني مرادفًا في العصر العباسي للفظ زنديق، فحُرفت وأُنكرت ولُفظت، ولذلك أسباب سوف نأتي على ذكرها.
يوجد الكثير من التشابهات بين المانوية والإسلام، فلقد أعلن ماني أن ملاكًا (دعاه القرين أو التوأم) أوحى له بأنه «خاتم الأنبياء»، وأنه «الفارقليط» الذي بشر به عيسى ليكون متمم الرسل الذين قبله وخاتمهم: زَرَادشت وبوذا والمسيح، وليصحح ما أصاب تعاليمهم من تحريف، وأنه مبعوث إلى الناس كافةً، وأقام شريعة أخلاقية جديدة تقتضي من معتنقيها أداء عدد من العبادات والشعائر: الصلاة لأربعة أوقات في اليوم بعد الوضوء أو التيمم، والصوم لسبعة أيام من كل شهر، والسياحة في الأرض، والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما فرضت هذه الشريعة سلسلة من المحرمات، منها: عبادة الأوثان، وشرب الخمر، والزنا، والقتل، والسرقة، والكذب. ومما قال ماني: إن عيسى لم يُصلب ولم يُقتل؛ لأنه لم يكن من طبيعة جسدية، بل من طبيعة روحانية، وأن اليهود شُبِّه لهم. وقال: إن إنجيل عيسى قد لحقه التحريف.
لقد أرسل ماني رسله إلى الملوك في إيران والصين وغيرهما، يدعوهم إلى اتِّباعه، ثم هاجر إلى الهند والصين داعيًا إلى عقيدته، وعندما مات عام ٢٧٦م، بعد سجنه وتعذيبه، بسبب معارضته الكهنة الزَّرَادشتيين المسيطرين على السلطة السياسية، ترك كتابه «الإنجيل»، أو «كتاب ماني» كما يُسَمَّى الآن، والذي استمر تمييزه بوصفه كتابًا مقدسًا لعدة قرون بعد ذلك.
مانوية الإسلام
-
في «إبراهيم: ١»: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.
-
في «إبراهيم، ٥»: أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ.
-
في «المائدة: ١٥-١٦»: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
-
في «النور: ٤٠»: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ […] وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.
-
في «الحديد: ٩»: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
-
في «الأحزاب: ٤٣»: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
-
في «الطلاق: ١١»: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
-
في «فاطر: ١٩-٢٠»: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ.
وثنائية الظلمات والنور في علاقتها بالسماء والأرض تنص عليها الآية الأولى من الأنعام: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.
إن حضور ثنائية النور والظلام المانوية القديمة أساسيةٌ في القرآن، أما في «الخبر» فإن تقديس النور يصبح فرضًا ذهنيًّا لارتباطه بميثولوجيا الخلق النبوية، والدلالة قابلةٌ لأخذها على المنحيين: المباشر الفعلي والممكن المجازي.
يقول أبو الحسن الأشعري في «شجرة اليقين»:
إن هذه الثنائيات من جهة بنائها وتقنيتها التخييلية ثنائيات مانوية، وهي لا تختلف عن الثنائية الرئيسية التي جددها ماني؛ أي أنه لم يبتكرها، لأنها كانت سائدة قبله في معتقدات الشرق.
لقد بنى «لاو تزو» نظامه الطاويَّ على التضاد بين أزليين هما: السالب والموجب (ين يانغ) ويتمظهران في النور والظلمة، والسماء والأرض، والذكر والأنثى … إلخ، ومنها انتقلت إلى البوذية، فالزَّرادشتية، فالمانوية، فالإسلام.
بإمكان المرء هنا أن يُنجز تاريخًا شرقيًّا للنور والظلمة، أو «كرونولوجيا النور الشرقية»، وأن يتقصى ما تُظهره من دلالات أفرزها التاريخ الاجتماعي الذي عاشته أمم الصينيين والهنود والفرس والعرب، فانعكست على نتاجهم الثقافي العام، خاصة لدى مجموعات التصوف الكثيرة، وفلسفاتها، ولعلها أقرب المداخل إلى بحث هذا الجانب من تاريخ سريرة الشرق.
لقد ورث القرآن هذا التراث الشرقي، وأعطاه صبغة عربية هي نتاج البيئة الصحراوية والبدوية التي ظهر ونشأ فيها محمد، بما ساد فيها من تقاليد ونُظُم أخلاقية واجتماعية وشعائر تتصل بالمقدس وتعيد إنتاجه في كل دورة زمنية، بعضها انتقل من الجاهلية إلى الإسلام، بسبب نسبها الحنيفي، ولأنها كانت جزءًا من الوحي الإبراهيمي، وبعضها أصبح مرذولًا محرمًا.
لم يكن ماني مصدر هذا التوجه المَثْنَوي، فلقد ظهر القَس الغُنوصي مَرقِيون بدعوته قبل ماني بنحو مائة سنة، وكان قد رفض العهدين القديم والجديد، و«هذب» إنجيل لوقا. وظهر الشاعر والفيلسوف الغُنوصي السُّرياني بَرْدَيصان قبله بسبعين سنة، ووضع إنجيلًا فُقد بعد وفاته. خلاصة القول هنا أن بغداد بعد ظهور الإسلام، وبوراثة هذا التراث الشرقي، وانتشار حركة الترجمة، واستقطابها المفكرين والرواة الآسيويين والأوروبيين، وهجرة دعاة مختلف المذاهب والأديان إليها، تحولت إلى مركز ثقافي تلتقي فيه أطراف العالم أجمع، وصارت بوتقة تنصهر فيها اللغات والمعتقدات والدعوات والأطروحات.
في هذا المناخ الفكري المتعدد، الذي اعتمل تحت مظلة الإسلام وسطوته، تجددت المانوية الشرقية، وأطلق الفقهاء ألفاظًا عديدة لتسميتها وصفًا واختصارًا: المَنانية، الثَّنَوية، أصحاب الاثنين … إلخ.
كان الورَّاق جزءًا من توجه فكري ساد آنذاك، فلعله في ذلك يشبه ابن كَمُّونة، وهو عز الدين سعد بن سعيد بن منصور البغدادي (ت. ٦٨٣ﻫ/١٢٨٤م)، وقد صنف «شرح التلويحات للشهاب السُّهْرَوَرْدِيِّ المقتول» و«تنقيح الأبحاث عن الملل الثلاث»؛ أي: اليهودية، المسيحية، الإسلام، وهو من ثار به الناس في بغداد وهمُّوا بقتله، فالتجأ إلى ابنه في الحِلَّة، وتُوُفِّيَ هناك. ورد عليه مُظَفر الدين أحمد بن علي بن تَغلِب الساعاتي البغدادي (ت. ٦٩٤ﻫ/١٢٩٥م) بكتاب «الدر المنضود في الرد على فيلسوف اليهود».
خبط وتخليط
هذا نص ذكي يوازن بين مرجعيات الاتهام والإثبات، ويرسل فوقهما مِظلةً لا خلاف عليها هي الشريعة التي يجب الاحتكام أمامها. أما من ناحية أخرى، فإن نبل المرتضى في هذا الدفاع لا يعني أكثر من نُصرة الورَّاق كيفما كان أمره، بريئًا أو مدانًا!
لعل الصورة صارت واضحة الآن. لقد كان الورَّاق شيعيًّا، ثم قادته المناظرات إلى تبني أدوات الكلام وتقنياته، لكنه جعل أطروحات الاعتزال محل نظر دائم، ولاستقلاله الفكري وفرادة منهجه استطاع أن يبني موقفًا نقديًّا منها، كونه مثقفًا بغداديًّا عميقًا، بالإضافة إلى انفتاحه العقلي على الملل والديانات والآراء؛ كل ذلك جعله يواجه ثلاثة من رموز المعتزِلة هم القاضي عبد الجبار والجاحظ والخياط. هكذا أصبح زنديقًا، مَثْنَويًّا، دهريًّا، ضالًّا، متخبطًا … إلى آخر الصفات التي حفلت بها آثارهم. لكن ذلك — كما يبدو — لم يشف غليل «أهل الحق»، وهو اللقب المفضل لدى المعتزِلة، فعمدوا أخيرًا إلى الوشاية، وما هي إلا بضعة أيام حتى لُوحِقَ الورَّاق وسُجن فمات في سجنه، بالتهمة نفسها التي لم يثبتها الجدل. لم تستعْدِ المناظرةُ السلطةَ ضد صاحبها، ولم تَسترْضِ أصحاب المصنفات التي تحولت في أحيان كثيرة — كما لدى الخياط — إلى سيل من السباب المقذع.
لنتذكر أخيرًا أن اختيار الورَّاقِ المانويةَ كان له سبب آخر وجيه يتفق تمامًا مع نقده الأديان الكبرى المهيمنة، وسعيه إلى إزاحة لَبوسها القدسي، وتوطين مِيثيَّتها في جذورها التاريخية؛ فالمانوية أصل يكاد يغيب تقريبًا، وهي غير مدوَّنة، لضياع متونها الأولى، وكان لا بد من الإجهاز عليها إلى الأبد لكي لا تنهض من جديد. إنها «عقيدة مضادة» حاربتها المسيحية، كما حاربها الإسلام، بالرغم من أنها تنهض من البئر المعطلة نفسها، وشنَّعا عليها ونسباها إلى الهرطقة والزندقة. النبي الضال (ماني) غير معتَرف به في نظر أتباع عيسى ومحمد، والنصوص التي تُحمل على المانوية لدى المتكلمين والمؤرخين والفقهاء المسلمين، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، نجد نظيرًا لها في المسيحية في رسائل القديس أوغسطين (٣٤٠–٤٣٠م)، ورسائل القديس تيتوس البُستري، وغيرهما. المسيحية والإسلام كانا متنافسين في عصر الورَّاق، ولكنهما تحالفا في حرب واحدة ضد المانوية.