اعتزال الاعتزال

لماذا أقصى المعتزِلةُ الورَّاق؟ أو لماذا اعتزلها؟

لقد انتقل الورَّاق بخطاب المعتزِلة من وضع التوفيق والمداهنة، إلى الجرأة على إعلان انعكاس هذا الخطاب على الواقع. يقول «إن الرسل لو جاءوا إلى التمسك بحجج العقول فهُم منا، وإن جاءوا إلى خلافها فقد جعلها الله حججًا، ولم يجز الغير إلا بالتغيير، وفي ذلك زوال الخطاب.»١ ولم تكن أساليب المعتزِلة التوفيقية لتسكت عن هذا الإعلان الجريء، وهو إعلان لا نعثر عليه سوى لدى الماتُرِيدي الذي نقل جملة من آراء الورَّاق في معرض نقضها والرد عليها، ويبدو أنه عاد فيه إلى أحد كتب الورَّاق المفقودة.

لا يبدو أن الورَّاق في انتقاله من المعرفة الإيمانية إلى الفلسفة الإلهية، إلى منطق الفلسفة، ثم إلى العالم، كان مستعدًّا للتنازل عن شكه ومغادرته. ولا يبدو أن المعتزِلة كانوا يأبهون أأخذوا ما يُنسب إليه منه، أو من خصومه؟

يقول بدوي: «لكن المعتزِلة طردته لآراء له ذكرها خصومه، ولسنا نعرف مبلغ صحتها على وجه التحقيق؛ فيذكرون عنه أنه كان شيعيًّا رافضيًّا، ويقول عنه الخياط إنه كان مانويًّا يقول بأزلية المبدأين (النور والظلمة)، ويعتقد في خلود الأجساد؛ والخياط معتزلي فهو خَصم لأبي عيسى.»٢
يقول الخياط مخاطبًا ابن الراوَندي: «إن فضلًا الحذَّاء٣ قد كان معتزليًّا نَظَّاميًّا إلى أن خلَّط وترك الحق، فنفته المعتزِلة، وطردته عن مجالسها، كما فعلَتْ بك لما ألحدتَ في دينك وخلَّطت في مذهبك ونصرت الدهرية في كتبك، وكما فعلَتْ بأخيك أبي عيسى [الوراق] لما قال بالمَنانية ونصَر الثنَوية ووضع لها الكتب يقوي مذاهبها ويؤكد قولها.»٤
ويقول له في الانتماء إلى المعتزِلة والنفي عنها: «قد كنتما [أي الوراق وابن الراوَندي] منها دهرًا، إلى أن ألحدتما فنفَتْكما عنها كما فعلَت بفضلٍ [الحذَّاء] وابن الحائط لما ألحدا.»٥
إلا إن ذلك لم يمنع الشريف المرتضى في الشافي من القول: «فأما أبو عيسى الوراق، فإن التثنية مما رماه به المعتزِلة، وتقدمهم في قذفه بها ابن الراوَندي لعداوة كانت بينهما، وكانت شبهته في ذلك، وشبهة غيره، تأكيد أبي عيسى لمقالة الثنَوية في كتابه المعروف بالمقالات، وإطنابه في ذكر شبهتهم. وهذا القدر، وإن كان عندهم دالًّا على الاعتقاد، فليستعملوه في الجاحظ وغيره ممن أكد مقالات المبطلين ومحَّضها وهذَّبها.»٦

كان ابن الراوَندي في مقام التلميذ بالنسبة إلى الورَّاق، لكن الخلاف دب بينهما لسبب ما غير معروف. ابن الجوزي (ت. ٥٩٧ﻫ/١٢٠١م) وحده ينفرد بخبر يرويه عن خلافهما قائلًا: «كان ابن الرِّيوَندي وأبو عيسى … الملحد أيضًا، يتراميان بكتاب الزمرد، ويدعي كل واحد منهما على الآخر أنه تصنيفه، وكانا يتوافقان على الطعن في القرآن.» هذه الرواية محيرة، فهما يتراميان بالكتاب، لا عليه، لكن عبارة «كانا يتوافقان» تشي بأن كلًّا منهما كان يدعي الكتاب لنفسه.

تُجمِع المصادر على أن مؤلف كتاب الزمرد هو ابن الراوَندي، فما طبيعة الخلاف بين الورَّاق وابن الراوَندي؟ ومتى كان؟ تُعْوِزنا الحقائق، كما أن الإشارات النادرة لا تفي بمقتضيات الإجابة. لكن جزءًا مما يرويه الماتُرِيدي في حجاجه المركَّب، ربما يساعدنا على تقصي ذلك.

يتَّبع الماتُرِيدي أسلوبًا غريبًا في الحِجاج؛ إذ لا يرى غضاضة في نقض الورَّاق بتوظيف نص ابن الراوَندي، أو نقض ابن الراوَندي بتوظيف الورَّاق، أو نقضهمًا معًا إذا لم يتوافر له من الشواهد ما ينقض به أحدهما الآخر. ومن ضمن ما يورده من ردود على الورَّاق، قول ابن الراوَندي: «لا بد إذ ذاك من الرجوع إلى إجماع أهل الحق في الأصول العقلية.»٧ و«أهل الحق» من ألقاب المعتزِلة المفضلة، فكأننا بابن الراوَندي قد كتب ذلك بينما كان لا يزال منتميًا إلى المعتزِلة، بعدما أُقصي عنها الورَّاق.

هل اشترك الورَّاق في كتابة الزمرد؟ هل الزمرد من وضع الورَّاق أصلًا؟ أليس يكتب الكتب ثم ينسبها إلى آخرين؟

هل أملى ابن الراوَندي الزمرد على أستاذه؛ فالأخير كان «ورَّاقًا» خبيرًا بالخطوط وأساليب الكتابة وتصنيع المخطوطات، وهل كان في أثناء ذلك يضيف ما يراه مناسبًا، كعادته؟ ألم يكن ابن الراوَندي «ناسخًا رديء الخط»؟

ألِمَرتبة التشيُّع دورٌ هنا؟ «كان الانتساب إلى الشيعة دليلًا على الزندقة وداعيًا إلى الاتهام بها.»٨ أما «الشيعة المعتدلون فيميلون إلى وصف الشيعة الغلاة بأنهم زنادقة، و[من ذلك] يُنسب للقاسم، إمام الزيدية، كتاب في الرد على الزنديق ابن المقفع.»٩
تحمل هذه الأسئلة احتمالات ربما كان أحدها سببًا وراء هذا الخلاف، أو ربما كان الأمر غير ذلك. ونعود إلى وصف الورَّاق بأنه «أحد المفكرين الأحرار»١٠ لنضع احتمالًا آخر عما كان قد أقدم عليه بعد ذلك.

إن المدرسة والجماعة والمذهب وكل تنظيم آخر ليست أشكالًا يظهر فيها المناخ الفكري فحسب، بل مِظلة اجتماعية أيضًا. الفكر لا ينفصل عن الممارسة، وأول الممارسة مصلحة تتمثل في حماية الفكر من تدخل الخصوم والأعداء بغير الحِجاج. الذين صُلبوا، أو اغتيلوا في أزقة بغداد، أو غُيِّبُوا، كانوا مفكرين ومبدعين يفتقدون إلى هذا الشكل التنظيمي، ولطالما كان الورَّاق وحيدًا.

الخطوة التالية: يُصدر الورَّاق «مانفيستو» الانفصال، ما زال ابن الراوَندي آنذاك رفيقًا يُعتمد عليه، وتبدأ حركة اعتزال الاعتزال.

لا شك أن الورَّاق لم يكن يرى في الجمع بين انتماءات كثيرة أي غضاضة، لأنها تتحول لديه إلى ممارسة ثقافية واحدة، لا إلى إكراهات دينية أو مذهبية متعددة. والانتماء — بالمنطق النقدي — لا ينفي انفتاح العقل وتقبل تشجُّرات التفكير وتدبُّر الغايات الأخيرة، كأنه يقول: إذا كان لمثل هذه الغايات أن توجَد يومًا فلتظهر الآن. هذا الفهم الأُنطولوجي الجذري لعلاقة الدين بالحياة يُكسبه قدرةً على إعلان مواجهته جميع الديانات القدرية التي لا اختيار فيها، حتى الحرية الاعتزالية هي — آخر الأمر — تنحسر في تسويغ سطوة الدين، موارِبةً إكراهاته التي لا يقبلها العقل الحر. فليكن إذن شيعيًّا، مانويًّا، مسلمًا، بوذيًّا، نصرانيًّا، يهوديًّا، فيلسوفًا، شاعرًا … إلخ، إنه يظل هو آخر الأمر، تلك الصفات تنتهي إلى جمجمة واحدة هي جزء من خراب العالم، لأن العالم في زمنه لا يرتضي سوى الهدم. الجميع حالمون بالقادم (الإمام، المسيح، الجنة، النور، أو أي وهم آخر سوف يدشن المدينة الفاضلة). لكنه يعرف الطريق إلى هذه المدينة جيدًا، فهي تبدأ بعقله وتنتهي إليه، مرورًا باللغة التي لا شيء خارجها. هذا هو الحل الوحيد الذي كان يقترحه للانفصام عن انتماءاته السابقة، أو إعادة النظر فيها. كان الورَّاق مسلمًا بقدر ما ينتقد الإسلام، مسيحيًّا بقدر ما ينتقد المسيحية، يهوديًّا بقدر ما ينتقد اليهودية، مانويًّا بقدر ما ينتقد المانوية … دون أن يحزن للفقهاء أو الكهنة أو الحاخامات، أو لكل من يتحدث بألسنة الآلهة، وهو مع ذلك يرثي الحيوانات العجماء.

١  رواية الماتُرِيدي في «التوحيد»، انظر: كتاب الشذرات.
٢  بدوي، ٤٩.
٣  يُعتبر «كتاب الانتصار» أقدم مخطوط يذكر فيه اسم هذا الملحد المشهور، والمتأخرون من المؤلفين والنُّسَّاخ اتفقوا على تسميته بالحدثي أو الحديثي، ويُحرَّف أحيانًا إلى الحدبي أو الحارثي. قال السَّمْعاني في «كتاب الأنساب»: الحدثي نسبة إلى بلدة الحديثة على الفرات، والحديثية طائفة من المعتزِلة أصحاب فضل الحديثي. انظر في «الانتصار»: تعليقات واستدراكات. انظر أيضًا: مقدمة الأعسم في «تاريخ الرِّيوَندي الملحد».
٤  الانتصار، ١٤٩.
٥  الانتصار، ١٥٢.
٦  انظر: الأعسم، ١٠٢.
٧  انظر: كتاب الشذرات.
٨  بدوي، ٥٢.
٩  دائرة المعارف الإسلامية، ١٠: ٤٤٥.
١٠  دائرة المعارف الإسلامية، ١٠: ٤٤٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤