اعتزال الاعتزال
لماذا أقصى المعتزِلةُ الورَّاق؟ أو لماذا اعتزلها؟
لا يبدو أن الورَّاق في انتقاله من المعرفة الإيمانية إلى الفلسفة الإلهية، إلى منطق الفلسفة، ثم إلى العالم، كان مستعدًّا للتنازل عن شكه ومغادرته. ولا يبدو أن المعتزِلة كانوا يأبهون أأخذوا ما يُنسب إليه منه، أو من خصومه؟
كان ابن الراوَندي في مقام التلميذ بالنسبة إلى الورَّاق، لكن الخلاف دب بينهما لسبب ما غير معروف. ابن الجوزي (ت. ٥٩٧ﻫ/١٢٠١م) وحده ينفرد بخبر يرويه عن خلافهما قائلًا: «كان ابن الرِّيوَندي وأبو عيسى … الملحد أيضًا، يتراميان بكتاب الزمرد، ويدعي كل واحد منهما على الآخر أنه تصنيفه، وكانا يتوافقان على الطعن في القرآن.» هذه الرواية محيرة، فهما يتراميان بالكتاب، لا عليه، لكن عبارة «كانا يتوافقان» تشي بأن كلًّا منهما كان يدعي الكتاب لنفسه.
تُجمِع المصادر على أن مؤلف كتاب الزمرد هو ابن الراوَندي، فما طبيعة الخلاف بين الورَّاق وابن الراوَندي؟ ومتى كان؟ تُعْوِزنا الحقائق، كما أن الإشارات النادرة لا تفي بمقتضيات الإجابة. لكن جزءًا مما يرويه الماتُرِيدي في حجاجه المركَّب، ربما يساعدنا على تقصي ذلك.
هل اشترك الورَّاق في كتابة الزمرد؟ هل الزمرد من وضع الورَّاق أصلًا؟ أليس يكتب الكتب ثم ينسبها إلى آخرين؟
هل أملى ابن الراوَندي الزمرد على أستاذه؛ فالأخير كان «ورَّاقًا» خبيرًا بالخطوط وأساليب الكتابة وتصنيع المخطوطات، وهل كان في أثناء ذلك يضيف ما يراه مناسبًا، كعادته؟ ألم يكن ابن الراوَندي «ناسخًا رديء الخط»؟
إن المدرسة والجماعة والمذهب وكل تنظيم آخر ليست أشكالًا يظهر فيها المناخ الفكري فحسب، بل مِظلة اجتماعية أيضًا. الفكر لا ينفصل عن الممارسة، وأول الممارسة مصلحة تتمثل في حماية الفكر من تدخل الخصوم والأعداء بغير الحِجاج. الذين صُلبوا، أو اغتيلوا في أزقة بغداد، أو غُيِّبُوا، كانوا مفكرين ومبدعين يفتقدون إلى هذا الشكل التنظيمي، ولطالما كان الورَّاق وحيدًا.
الخطوة التالية: يُصدر الورَّاق «مانفيستو» الانفصال، ما زال ابن الراوَندي آنذاك رفيقًا يُعتمد عليه، وتبدأ حركة اعتزال الاعتزال.
لا شك أن الورَّاق لم يكن يرى في الجمع بين انتماءات كثيرة أي غضاضة، لأنها تتحول لديه إلى ممارسة ثقافية واحدة، لا إلى إكراهات دينية أو مذهبية متعددة. والانتماء — بالمنطق النقدي — لا ينفي انفتاح العقل وتقبل تشجُّرات التفكير وتدبُّر الغايات الأخيرة، كأنه يقول: إذا كان لمثل هذه الغايات أن توجَد يومًا فلتظهر الآن. هذا الفهم الأُنطولوجي الجذري لعلاقة الدين بالحياة يُكسبه قدرةً على إعلان مواجهته جميع الديانات القدرية التي لا اختيار فيها، حتى الحرية الاعتزالية هي — آخر الأمر — تنحسر في تسويغ سطوة الدين، موارِبةً إكراهاته التي لا يقبلها العقل الحر. فليكن إذن شيعيًّا، مانويًّا، مسلمًا، بوذيًّا، نصرانيًّا، يهوديًّا، فيلسوفًا، شاعرًا … إلخ، إنه يظل هو آخر الأمر، تلك الصفات تنتهي إلى جمجمة واحدة هي جزء من خراب العالم، لأن العالم في زمنه لا يرتضي سوى الهدم. الجميع حالمون بالقادم (الإمام، المسيح، الجنة، النور، أو أي وهم آخر سوف يدشن المدينة الفاضلة). لكنه يعرف الطريق إلى هذه المدينة جيدًا، فهي تبدأ بعقله وتنتهي إليه، مرورًا باللغة التي لا شيء خارجها. هذا هو الحل الوحيد الذي كان يقترحه للانفصام عن انتماءاته السابقة، أو إعادة النظر فيها. كان الورَّاق مسلمًا بقدر ما ينتقد الإسلام، مسيحيًّا بقدر ما ينتقد المسيحية، يهوديًّا بقدر ما ينتقد اليهودية، مانويًّا بقدر ما ينتقد المانوية … دون أن يحزن للفقهاء أو الكهنة أو الحاخامات، أو لكل من يتحدث بألسنة الآلهة، وهو مع ذلك يرثي الحيوانات العجماء.